العودة   منتديات احباب الحسين عليه السلام > القسم الاسلامي > منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها) السيده - زينب - بنت امير المؤمنين - الصابره - المحتسبه - جبل الصبر - العقيله - عقيلة الهاشميين - عليها السلام


حياة زينب ع 3

منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)


إضافة رد
قديم 02-08-2015, 11:25 PM   المشاركة رقم: 1
معلومات العضو
الشيخ عباس محمد

إحصائية العضو







 
 


التوقيت

التواجد والإتصالات
الشيخ عباس محمد غير متواجد حالياً

المنتدى : منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
افتراضي حياة زينب ع 3


الصفحة (206)

ما ذاك أيها الأمير ؟
فصاح به الطاغية : إيه يا هانئ ! ما هذه الأمور التي تتربّص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين ؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك ، وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك ، وظننت أنّ ذلك يخفى عليّ ؟
فأنكر هانئ وقال : ما فعلت ذلك ، وما مسلم عندي .
ـ بلى ، قد فعلت .
وطال النزاع واحتدم الجدال بينهما ، فرأى ابن زياد أن يحسم النزاع , فدعا الجاسوس معقلاً ، فلمّا مثل أمامه قال لهانئ : أتعرف هذا ؟
ـ نعم .
وأسقط ما في يدي هانئ , وأطرق برأسه إلى الأرض ، ولكن سرعان ما سيطر على الموقف ، فقال لابن مرجانة : قد كان الذي بلغك ، ولن أضيع يدك عندي(1) ؛ تشخص لأهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم ؛ فإنّه جاء حقّ مَنْ هو أحقّ من حقّك وحقّ صاحبك(2) .
وثار ابن زياد فرفع صوته : والله ، لا تفارقني حتّى تأتيني به ـ أي بمسلم ـ .
وسخر منه هانئ ، وردّ عليه : لا آتيك بضيفي أبداً .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 271 .
(2) مروج الذهب 3 / 7 .
الصفحة (207)

وطال الجدال بين هانئ وبين ابن مرجانة ، فانبرى مسلم بن عمر الباهلي وهو من خدام السلطة إلى ابن زياد طالباً منه أن يتخلّى بهانئ ليقنعه , فسمح له بذلك , فاختلى به وقال له : يا هانئ ، اُنشدك الله أن لا تقتل نفسك وتدخل البلاء على قومك ؛ إنّ هذا الرجل ـ يعني مسلماً ـ ابن عمّ القوم ، وليسوا بقاتليه ولا ضائريه ، فادفعه إليه ، فليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة ، إنّما تدفعه إلى السلطان .
ولم يحفل هانئ بهذا المنطق الرخيص ؛ فهو على علم لا يخامره شكّ أنّ ابن زياد لو ظفر بمسلم لقطّعه إرباً ، ومن الطبيعي أنّ ذلك يعود بالعار والخزي على هانئ ، فكيف يسلّم وافد آل محمّد إلى هذا الإنسان الممسوخ ؟

وقال هانئ : بلى والله ، عليَّ في ذلك أعظم العار أن يكون مسلم في جواري وضيفي وهو رسول ابن بنت رسول الله () , وأنا حيّ صحيح الساعدين ، كثير الأعوان ، والله لو لم أكن إلاّ وحدي لمّا سلّمته أبداً .
وحفل كلام هانئ بمنطق الأحرار الذين وهبوا حياتهم للمُثل العليا والقيم الكريمة . ولمّا يئس الباهلي من هانئ قال لابن زياد : أيّها الأمير ، قد أبى أن يسلّم مسلماً أو يُقتل(1) .
والتفت الطاغية إلى هانئ فصاح به : أتأتيني به أو لأضربنّ عنقك .
فلم يعبأ به هانئ ، وقال : إذن تكثر البارقة حولك(2) .
فثار ابن مرجانة وقال :
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 2 / 375 .
(2) البارقة : السيوف .
الصفحة (208)

والهفا عليك ! أبالبارقة تخوّفني ؟
وصاح بغلامه مهران وقال له : خذه . فأخذ بضفيرتي هانئ ، وأخذ ابن زياد القضيب فاستعرض به وجهه ، وضربه ضرباً قاسياً حتّى كسر أنفه ، ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتّى تحطّم القضيب , وسالت الدماء على ثيابه ، وعمد هانئ إلى قائم سيف شرطي محاولاً اختطافه ليدافع به عن نفسه فمنعه منه , فصاح به ابن زياد : أحروري أحللت بنفسك ، وحلّ لنا قتلك ؟!
ثمّ أمر ابن زياد باعتقاله في أحد بيوت القصر(1) ، وانتهى خبره إلى اُسرته من مذحج ، وهي من أكثر قبائل الكوفة عدداً إلاّ أنّها لم تكن متماسكة ، وقد شاعت الانتهازية في جميع أفرادها .
وعلى أيّ حال , فقد سارعت مذحج بقيادة العميل الخائن عمرو بن الحجّاج وقد رفع عقيرته لتسمعه السلطة قائلاً : أنا عمرو بن الحجّاج , وهذه فرسان مذحج ووجوهها ، لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة .
ولم يعنَ به ابن زياد ولا بقومه ، فالتفت إلى شريح القاضي فقال له : ادخل على صاحبهم فانظر إليه ثمّ اخرج إليهم فأعلمهم أنّه حيّ . وخرج شريح فدخل على هانئ , فلمّا نظر إليه صاح مستجيراً : يا للمسلمين ! أهلكت عشيرتي ! أين أهل الدين ؟ أين أهل المصر ؟ والتفت هانئ إلى شريح فقال له : يا شريح ، إنّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين ، إنّه إن دخل عليّ عشرة أنفر أنقذوني .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 271 .
الصفحة (209)

[ ولم ] يحفل شريح بكلام هانئ ، وإنّما مضى منفّذاً لأمر سيّده ابن مرجانة , فخاطب مذحج قائلاً : قد نظرتُ إلى صاحبكم وإنّه حيّ لم يُقتل .
وبادر عمرو بن الحجّاج قائلاً : إذا لم يُقتل فالحمد لله(1) .
وولّوا منهزمين كأنّما اُتيح لهم الخلاص من سجن , وقد صحبوا معهم الخزي والعار , وانطلقت الألسنة بذمّهم . وقد ذمّهم شاعر أخفى اسمه حذراً من بطش الاُمويِّين ونقمتهم , قال :
فإن كنتِ لا تدرينَ ما الموت فانظري إلـى هـانئٍ في السوقِ وابنِ عقيلِ
إلـى بـطلٍ قـد هشّمَ السيفُ وجههُ وآخـر يـهوى من طمارِ قتيلِ(2)
أصـابهما فـرخُ الـبغيّ فـأصبحا أحـاديثَ مَـنْ يـسيري بكلّ سبيلِ
تـرى جـسداً قـد غيّرَ الموتُ لونهُ ونـضحُ دمٍ قـد سـالَ كـلّ مسيلِ
فـتىً كـان أحـيا مـن فتاةٍ حييَّةٍ وأقـطع مـن ذي شـفرتينِ صقيلِ
أيـركـبُ أسـماءُ الـهماليجَ آمـناً وقـد طـلبتهُ مـذحجٌ بـذحولِ(3)
تـطـوفُ حـواليهِ مـرادٌ وكـلّهم عـلى رقـبةٍ مـن سـائلٍ ومسولِ
فــإن أنـتمُ لـم تـثأروا بـأخيكمُ فـكونوا بـغايا أُرضيت بقليلِ(4)

لقد تنكّرت مذحج لزعيمها الكبير فلم تفِ له حقوقه ومعروفه الذي أسداه عليها ، وتركته أسيراً بيد ابن مرجانة يمعن في إرهاقه والتنكيل به حتّى أعدمه في
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 271 .
(2) الطمار : اسم لغرفة شيّدت فوق قصر الإمارة وفي أعلاها قُتل مسلم .
(3) الهماليج : جمع هملاج ، نوع من البرذون .
(4) مروج الذهب 2 / 70 ، والشاعر مجهول .
الصفحة (210)

وضح النهار بمرأى ومسمع منهم .
ثورة مسلم ()

ولمّا علم مسلم بما جرى على هانئ بادر لإعلان الثورة على ابن زياد ، فأوعز إلى عبد الله بن حازم أن ينادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور , فاجتمع إليه أربعة آلاف ، وقيل : أربعون ألفاً(1) ، وكانوا ينادون بشعار المسلمين يوم بدر : ( يا منصور أمت ) .

وأسند القيادات العامة في جيشه إلى أحبّ الناس لأهل البيت (عليهم السّلام) , وهم :
1 ـ عبد الله بن عزيز الكندي , جعله على ربع كندة .
2 ـ مسلم بن عوسجة , جعله على ربع مذحج .
3 ـ أبو ثمامة الصائدي , جعله على ربع قبائل بني تميم وهمدان .
4 ـ العباس بن جعدة الجدلي , جعله على ربع المدينة .
واتّجه مسلم بجيشه نحو قصر الإمارة فأحاطوا به(2) .
وكان ابن مرجانة قد خرج من القصر ليخطب في الناس على أثر اعتقاله لهانئ ، ولمّا دخل الجامع الأعظم قام خطيباً فقال : أمّا بعد يا أهل الكوفة ، فاعتصموا بطاعة الله ورسوله ، وطاعة أئمّتكم , ولا تختلفوا ولا تفرّقوا فتهلكوا وتُذلّوا , وتندموا وتُقهروا ، فلا يجعلنَّ أحد على نفسه سبيلاً , وقد اُعذر مَنْ أنذر .
وما أتمّ الطاغية خطابه حتّى سمع الصيحة وأصوات الناس قد علت , فسأل عن ذلك فقيل له : الحذر الحذر ! هذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع مَنْ بايعه .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تهذيب التهذيب 2 / 351 .
(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 271 .
الصفحة (211)

واختطف الرعب لونه فأسرع الجبان يلهث كالكلب من شدّة الخوف , فدخل القصر وأغلق عليه أبوابه(1) .
وامتلأ المسجد والسوق من أصحاب مسلم ، وضاقت الدنيا على ابن زياد , وأيقن بالهلاك ؛ إذ لم تكن عنده قوّة تحميه سوى ثلاثين رجلاً من الشرطة , وعشرين رجلاً من الأشراف والوجوه الذين هم عملاء السلطة(2) .
حرب الأعصاب

ولم يجد الطاغية وسيلة يلجأ إليها لإنقاذه سوى حرب الأعصاب ، فأوعز إلى عملائه بإشاعة الخوف والرعب بين أصحاب مسلم ، وانبرى للقيام بهذه المهمة مَنْ يلي من عملائه , وهم :
1 ـ كثير بن شهاب الحارثي
2 ـ القعقاع بن شور الذهلي
3 ـ شبث بن ربعي التميمي
4 ـ حجّار بن أبجر .
5 ـ شمر بن ذي الجوشن الضبابي(3)
وأسرع هؤلاء العملاء إلى صفوف جيش مسلم فأخذوا ينشرون الخوف والأراجيف ، ويظهرون لهم الحرص والولاء لهم .

وكان ممّا قاله كثير بن شهاب : أيّها الناس ، الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا بالشرّ ، ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل ؛ فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين ـ يعني يزيد ـ قد أقبلت ، وقد أعطى الله الأمير
ـــــــــــــــــــــ
(1) البداية والنهاية 8 / 154 .
(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 271 .
(3) المصدر السابق 3 / 272 .
الصفحة (212)

ـ يعني ابن زياد ـ العهد لئن أقمتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيّتكم أن يحرم ذرّيتكم العطاء ، ويفرّق مقاتلكم في مغازي أهل الشام من غير طمع ، وأن يأخذ البريء بالسقيم , والشاهد بالغائب حتّى لا تبقى فيكم بقيّة من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جنت أيديها(1) .
وكان هذا الكلام كالصاعقة على رؤوس أهل الكوفة ؛ فقد سرت فيهم أوبئة الخوف وانهارت معنوياتهم ، وجعل بعضهم يقول لبعض : ما نصنع بتعجيل الفتنة ، وغداً تأتينا جموع أهل الشام ؟! ينبغي لنا أن نُقيم في منازلنا ، وندع هؤلاء القوم حتّى يصلح الله ذات بينهم(2) .
وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها أو زوجها وهي مصفرّة الوجه من الخوف فتخذّله وتقول له : الناس يكفونك(3) . وقد نجح ابن زياد في هذه الخطّة إلى حدّ بعيد .
هزيمة جيش مسلم ()

ومُني جيش مسلم بهزيمة ساحقة بعد حرب الأعصاب والدعايات المضلّلة ، لقد انهزم جيشه من دون أن يكون قباله أيّة قوّة عسكرية .

ويقول المؤرّخون : إنّ مسلماً كلّما انتهى إلى زقاق انهزم جماعة من أصحابه ، وهم يقولون : ما لنا والدخول بين السلاطين(4) .
ولم يمضِ قليل من الوقت حتّى انهزم معظمهم يصحبون الخزي والعار ، وصلّى ابن عقيل صلاة العشاء في الجامع الأعظم ، فكان مَنْ بقي من جيشه يفرّون
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 6 / 208 .
(2) حياة الإمام الحسين () 2 / 384 .
(3) تاريخ أبي الفداء 1 / 300 .
(4) حياة الإمام الحسين () 2 / 385 .




الصفحة (213)
في أثناء الصلاة ، وما أنهى مسلم صلاة العشاء حتّى انهزموا جميعاً قادةً وجنوداً ، ولم يبقَ منهم أحد يدلّه على الطريق ، وبقي حيراناً لا يدري إلى أين مسراه ومولجه ؛ فقد أمسى طريداً مشرّداً , لا مأوى يأوي إليه ، ولا قلب يعطف عليه .
في ضيافة طوعة (ا)

وسار مسلم في أزقة الكوفة وشوارعها ، ومضى هائماً على وجهه في جهة كندة يلتمس داراً ليبقى فيها بقيّة الليل , وقد خلت المدينة من المارة ؛ فقد أسرع جنده إلى دورهم وأغلقوا عليهم الأبواب ؛ مخافة أن تعرفهم مباحث الأمن وعيون ابن زياد فتخبر السلطة بأنّه كان مع ابن عقيل فتلقي عليه القبض .
وسار مسلم وهو خائر القوى , قد أحاطت به تيارات مذهلة من الهموم والأفكار ، وقد انتهى في مسيرته إلى باب سيّدة يُقال لها : (طوعة) , وهي سيّدة مَنْ في المصر رجالاً ونساءً ؛ وذلك بما تملكه من شرف ونبل ، وكانت اُمّ ولد للأشعث بن قيس , أعتقها فتزوّجها أسيد الحضرمي فولدت له ولداً يُقال له : بلال ، وكانت طوعة تنتظره خوفاً عليه من الأحداث الرهيبة ، ولمّا رآها مسلم بادر إليها فسلّم عليها فردّت ، وقالت له : ما حاجتك ؟
ـ اسقني ماءً .
فبادرت المرأة إلى دارها وجاءته بالماء فشرب منه ثمّ جلس ، فارتابت منه , وقالت له : ألم تشرب الماء ؟
ـ بلى .
ـ اذهب إلى أهلك , إنّ مجلسك مجلس ريبة(1) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تهذيب التهذيب 1 / 151 .
الصفحة (214)

وسكت مسلم , فأعادت عليه القول وهو ساكت فلم يجبها ، فذعرت منه وقالت له : سبحان الله ! إنّي لا اُحلّ لك الجلوس على باب داري .
ولمّا حرّمت عليه الجلوس لم يجد بُدّاً من الانصراف عنها ، فقال بصوت خافت حزين النبرات : ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة ، فهل لك في أجر ومعروف ، ولعلّي مكافئك بعد هذا اليوم ؟
وشعرت المرأة بأنّ الرجل غريب , وأنّه على شأن كبير يستطيع أن يُجازيها على معروفها وإحسانها ، فقالت له : وما ذاك ؟
ـ أنا مسلم بن عقيل , كذّبني القوم وغرّوني .
فدهشت المرأة وقالت له : أنت مسلم !
ـ نعم(1) .
وانبرت السيّدة بكلّ خضوع وتقدير , فسمحت لضيفها الكبير بالدخول إلى دارها , وقد حازت الشرف والفخر ، وعرضت عليه الطعام فأبى أن يأكل ؛ فقد مزّق الأسى قلبه ، وتمثّلت أمامه الأحداث الرهيبة التي سيواجهها ، وكان أهمّ ما شغل فكره كتابه إلى الإمام الحسين () بالقدوم إلى الكوفة .
ولم يمضِ قليل من الوقت حتّى جاء بلال ابن السيّدة طوعة , فرأى اُمّه تكثر الدخول والخروج إلى البيت الذي فيه مسلم , فاستراب من ذلك ، فسألها عنه فلم تجبه , فألحّ عليها فأخبرته بالأمر بعد أن أخذت عليه العهود والمواثيق بكتمان الأمر .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 272 .
الصفحة (215)

وطارت نفس الخبيث فرحاً وسروراً ، وقد أنفق ليله ساهراً يترقّب طلوع الشمس ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم ، وقد تنكّر هذا الوغد الخبيث للأخلاق العربية التي تلزم بقرى الضيف وحمايته من كلّ سوء ، ولكن هذا القزم على غرار أهل الكوفة الذين طلّقوا المعروف ثلاثاً ، راح مسرعاً وقد ملك الفرح فؤاده نحو قصر الإمارة ، وكان بحالة من الارتباك تلفت النظر ، فلمّا دخل القصر بادر إلى عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث ، وهو من أخبث اُسرة عرفها التأريخ , فأعلمه بمكان مسلم ، فأمره بالسكوت لئلاّ يفشي بالخبر فينقله غيره إلى ابن مرجانة فتفوت جائزته .

وأسرع عبد الرحمن إلى أبيه محمّد بن الأشعث فأخبره بالأمر ، وفطن ابن زياد إلى خطورة الأمر , فالتفت إلى ابن الأشعث فقال له : ما قال لك عبد الرحمن ؟
ـ أصلح الله الأمير , البشارة العظمى .
ـ ما ذاك ؟ مثلك مَنْ بشّر بخير .
ـ إنّ ابني هذا يخبرني أنّ مسلم بن عقيل في دار طوعة .
وفرح ابن مرجانة , وتمّت بوارق آماله وأحلامه ، فراح يمدّ الأشعث بالمال والجاه قائلاً : قم فآتني به ، ولك ما أردت من الجائزة والحظّ الأوفى .
لقد تمكّن ابن مرجانة سليل البغايا والأدعياء من الظفر بفخر هاشم ومجد عدنان ليجعله قرباناً إلى اُمويّته اللصيقة .
الهجوم على مسلم ()

وندب ابن مرجانة لحرب مسلم ، عمرو بن الحرث المخزومي صاحب شرطته ومحمّد بن الأشعث ، وضمّ إليهما ثلاثمئة رجل من صناديد الكوفة وفرسانها ، وأقبلت تلك الوحوش الكاسرة مسرعة لحرب القائد العظيم الذي أراد أن يحرّرهم
الصفحة (216)

من الذلّ والعبودية , ويُقيم فيهم عدالة الإسلام وحكم القرآن .
ولمّا سمع مسلم حوافر الخيل وزعقات الرجال علم أنّه قد اُتي إليه ، فبادر إلى فرسه فأسرجه وألجمه , وصبّ عليه درعه وتقلّد سيفه ، وشكر السيّدة طوعة على حسن ضيافتها ورعايتها له .
واقتحم الجيش عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه ففرّوا منهزمين ، ثمّ عادوا عليه فأخرجهم منها ، وانطلق نحوهم في السكة شاهراً سيفه لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب ، وقد أبدى من البطولات النادرة ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التأريخ ، وقد قتل منهم واحداً وأربعين رجلاً(1) ، وكان من قوّته النادرة أن يأخذ الرجل بيده ويرمي به من فوق البيت(2) , وليس في تاريخ الإنسانيّة مثل هذه البطولة ، ولا مثل هذه القوّة الخارقة .
وجعل أنذال أهل الكوفة يصعدون فوق بيوتهم ويرمونه بالحجارة وقذائف النار(3) , وفشلت جيوش ابن مرجانة من مقاومة البطل العظيم ؛ فقد أشاع فيهم القتل ، وطلب محمّد بن الأشعث من سيّده ابن مرجانة أن يمدّه بالخيل والرجال , فلامه الطاغية وقال : سبحان الله ! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة(4) !
وثقل ذلك على ابن الأشعث ، وقال لابن مرجانة : أتظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة ، أو إلى جرمقاني من جرامقة
ـــــــــــــــــــــ
(1) الدرّ النضيد / 164 .
(2) المحاسن والمساوئ ـ البيهقي 1 / 43 .
(3) حياة الإمام الحسين () 2 / 394 .
(4) الفتوح 5 / 63 .
الصفحة (217)

الحيرة ؟(1) وإنّما بعثتني إلى أسد ضرغام , وسيف حسام , في كفّ بطل همام , من آل خير الأنام(2) .
وأمدّه ابن مرجانة بقوى مكثّفة , فجعل البطل العظيم يحصد رؤوسهم بسيفه ، وهو يرتجز :
أقـسمتُ لا أُقتل إلاّ حرّا وإن رأيتُ الموتَ شيئاًً نُكرا
أو يُـخلطُ الباردُ سخناً مرّا ردّ شـعاعُ الشمسِ فاستقرا
كـلّ امرئٍ يوماً يُلاقي شرّا أخافُ أن أُكذب أو اُغرّا(3)

ولمّا سمع الخائن العميل محمّد بن الأشعث هذا الشعر من مسلم رفع صوته قائلاً : إنّك لا تُكذب ولا تُخدع ، إنّ القوم بنو عمّك ، وليسوا بقاتليك ولا ضارّيك .
فلم يحفل به مسلم , ومضى يُقاتلهم أعنف القتال وأشدّه ، ففرّوا منهزمين لا يلوون على شيء ، واعتلوا فوق منازلهم يرمونه بالحجارة ، فأنكر عليهم مسلم قائلاً : ويلكم ! ما لكم ترمونني بالحجارة كما تُرمى الكفار ، وأنا من أهل بيت الأبرار ؟ ويلكم ! أما ترعون حقّ رسول الله () وذريّته ؟
وضاق بابن الأشعث أمر مسلم , فصاح بالجيش : ذروه حتّى اُكلّمه . فدنا منه ، وقال له : يابن عقيل ، لا تقتل نفسك , أنت آمن ، ودمك في عنقي .
ولم يعنَ به مسلم ؛ فقد عرفه وعرف قومه أنّهم لا وفاء ولا دين لهم ،
ـــــــــــــــــــــ
(1) الجرامقة : قوم من العجم صاروا إلى الموصل .
(2) الفتوح 5 / 93 .
(3) حياة الإمام الحسين () 2 / 395 ، نقلاً عن الطبري / 63 ، الفتوح 5 / 94 ـ 95 .
الصفحة (218)

وأجابه : يابن الأشعث ، لا اُعطي بيدي أبداً وأنا أقدر على القتال ، والله لا كان ذلك أبداً .
وحمل مسلم على ابن الأشعث فولّى منهزماً يُطارده الرعب والخوف ، واشتدّ العطش بمسلم فجعل يقول : اللّهمّ إنّ العطش قد بلغ منّي .
وتكاثرت عليه الجموع , فصاح بهم ابن الأشعث : إنّ هذا هو العار والفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع ! احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة . فحملوا عليه ضرباً بأسيافهم وطعناً برماحهم ، وضربه الوغد الأثيم بكر بن حمران ضربة منكرة على شفته العليا , وأسرع السيف إلى الأسفل ، وضربه مسلم ضربة أردته إلى الأرض .
أسره ()

وبعدما أثخن مسلم بالجراح وأعياه نزف الدم انهارت قواه وضعف عن المقاومة ، فوقع أسيراً بأيدي اُولئك الفجرة الكفّار , وانتزعوا منه سيفه , وحملوه أسيراً إلى ابن مرجانة .

وكان من أعظم ما رُزئ به مسلم أن يدخل أسيراً على أقذر إرهابي عرفه التأريخ ، ولمّا دخل لم يسلّم عليه بالإمرة وإنّما سلّم على الجميع ، فأنكر عليه بعض خدّام السلطة ذلك ، فأجابه أنّه ليس لي بأمير .

فتميّز ابن مرجانة غيظاً وغضباً ، وقال له : سلّمت أو لم تسلّم فإنّك مقتول .

فردّ عليه مسلم بجواب أخرجه من إهابه ، وجرت مناورات كلامية بينهما ، وكانت أجوبة مسلم كالسهام على ابن مرجانة ، فلجأ إلى سبّه وسبّ العترة الطاهرة والافتراء عليهم ، ثمّ أمر أن يُصعد به من أعلى القصر ويُنفّذ فيه حكم الإعدام ، وقد استقبل مسلم الموت بثغر باسم ، وكان يُسبّح الله ويستغفره .

وأشرف به الجلاّد على موضع الحذائيّين فضرب عنقه ،
الصفحة (219)

ورمى برأسه وجسده إلى الأرض ، وانتهت بذلك حياة هذا المجاهد العظيم الذي وهب حياته لله ، واستشهد دفاعاً عن الحقّ ودفاعاً عن حقوق المظلومين والمضطهدين .
ثمّ أمر الطاغية السفّاك بإعدام الزعيم الكبير هانئ بن عروة ، فأُخرج من السجن في وضح النهار , وجعل يستنجد باُسرته , وكانوا بمرأى ومسمع منه فلم يستجب له أحد منهم ، وضربه الجلاّد بالسيف فلم يصنع به شيئاً ، فرفع هانئ صوته قائلاً : اللّهمّ إلى رحمتك ورضوانك ، اللّهمّ اجعل هذا اليوم كفارة لذنوبي ؛ فإنّي إنّما تعصّبت لابن بنت نبيّك محمّد () .

وضربه الجلاّد ضربة اُخرى فهوى إلى الأرض وجعل يتخبّط بدمه الزاكي ، ولم يلبث قليلاً حتّى فارق الحياة وقد مضى شهيداً دون مبادئه وعقيدته .
وعهد الطاغية الجلاّد إلى زبانيته بسحل جثة مسلم وهانئ في الشوارع والأسواق ، فعمدوا إلى شدّ أرجلهما بالحبال وأخذوا يسحلونهما في الطرق(1) ؛ وذلك لنشر الخوف والإرهاب ، وليكونا عبرةً لكلّ مَنْ تحدّثه نفسه بالخروج على حكم يزيد .
ثمّ قام ابن مرجانة باعتقالات واسعة لجميع العناصر الموالية لأهل البيت (عليهم السّلام) ، كما أعدم جاعة منهم ، وذكرنا تفصيل ذلك في كتابنا (حياة الإمام الحسين () ) .
لقد سمعت حفيدة الرسول () السيّدة زينب (عليها السّلام) هذه المآسي المروّعة التي جرت على ابن عمّها مسلم ، فكوت قلبها وأضافتها إلى همومها ومصائبها ، وأيقنت أنّ شقيقها وبقيّة أهلها سيواجهون المصير الذي واجهه ابن عمّها .
ـــــــــــــــــــــ
(1) أنساب الأشراف 1 / 155 ، القسم الأوّل .ورافقت عقيلة بني هاشم أخاها أبا الأحرار في مسيرته الخالدة ؛ لتكون معه في خندق واحد ، وتشاركه في جهوده وجهاده لحماية الإسلام ، وإنقاذ المسلمين من جور الاُمويِّين وظلمهم .
وقبل أن تُغادر العقيلة الحجاز استأذنت من زوجها عبد الله بن جعفر أن يسمح لها بالسفر مع شقيقها سيّد الشهداء , فأذن لها في ذلك , وقبل أن يسافر الإمام دخل عليه عبد الله بن عباس ليعدله عن السفر إلى العراق ، فقال له الإمام () : (( يابن عباس ، ما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت نبيّهم من وطنه وداره , وقراره وحرم جدّه ، وتركوه خائفاً مرعوباً ، لا يستقر في قرار , ولا يأوي إلى جوار ، يريدون بذلك قتله وسفك دمه ، ولم يشرك بالله شيئاً ، ولم يرتكب منكراً ولا إثماً ؟ )) .

فأجابه ابن عباس بصوت حزين النبرات قائلاً : جُعلت فداك يا حسين ! إن كان لا بدّ لك من المسير إلى الكوفة فلا تسري بأهلك ونسائك .
فقال له الإمام الحسين () : (( يابن العمّ ، إنّي رأيت رسول الله () في منامي وقد أمرني بأمر لا أقدر على خلافه ؛ إنّه أمرني بأخذهنَّ معي . يابن العمّ ، إنّهنَّ ودائع رسول الله ، ولا آمن عليهن أحداً )) .
ويقول بعض الرواة : إنّ حفيدة الرسول () السيدة زينب قالت لابن عباس
الصفحة (222)

وهي باكية العين : يابن عباس ، تشير على شيخنا وسيّدنا أن يخلّفنا هاهنا ويمضي وحده ؟! لا والله ، بل نحيا معه ونموت معه ، وهل أبقى الزمان لنا غيره ؟
وأجهش ابن عباس في البكاء وجعل يقول : يعزّ والله عليَّ فراقك يابن العمّ(1) .
لقد كان من أروع ما خطّطه الإمام في ثورته الكبرى حمله عقيلة بني هاشم وسائر مخدّرات الرسالة معه إلى العراق ؛ فقد كان على علم بما يجري عليهنَّ من النكبات والخطوب ، وما يقمنَ به من دور مشرّف في إكمال نهضته ، وإيضاح تضحيته وإشاعة مبادئه وأهدافه .

وقد قمنَ حرائر النبوّة بإيقاظ المجتمع من سباته ، وأسقطنَ هيبة الحكم الاُموي ، وفتحنَ باب الثورة عليه ؛ فقد ألقين من الخطب الحماسية ما زعزع كيان الدولة الاُمويّة .
لقد كان خروج العقيلة وسائر بنات رسول الله () ضرورة ملحّة لا غنى عنها ؛ فقد أخلدنَ نهضة أبي الأحرار .

يقول الإمام كاشف الغطاء : وهل تشكّ وترتاب في أنّ الحسين لو قُتل هو وولده ، ولم يتعقّبه قيام تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحدّيات لذهب قتله جباراً ، ولم يطلب به أحد ثأراً ، ولضاع دمه هدراً ؟

فكان الحسين يعلم أنّ هذا عمل لا بدّ منه ، وأنّه لا يقوم به إلاّ لتلك العقائل , فوجب عليه حتماً أن يحملهنَّ معه لا لأجل المظلومية بسبيهنَّ فقط ، بل لنظر سياسي وفكر عميق ، وهو تكميل الغرض ، وبلوغ الغاية من قلب الدولة على يزيد ، والمبادرة إلى القضاء عليها قبل أن تقضي على الإسلام ، ويعود الناس إلى جاهليتهم الأولى(2) .
ويقول الدكتور أحمد محمود صبحي : ثمّ رفض ـ يعني الحسين () ـ إلاّ أن
ـــــــــــــــــــــ
(1) زينب الكبرى / 94 .
(2) السياسة الحسينيّة / 46 ـ 47 .
الصفحة (223)

يصحب معه أهله ؛ ليُشهد الناس على ما يقترفه أعداؤه ممّا لا يبرّره دين ، ولا وازع من إنسانيّة ، فلا تضيع قضيّته مع دمه المراق في الصحراء ، فيُفترى عليه أشدّ الافتراء حين يعدم الشاهد العادل على ما جرى بينه وبين أعدائه .
تقول الدكتورة بنت الشاطئ : أفسدت زينب اُخت الحسين على ابن زياد وبني اُمية لذّة النصر ، وسكبت قطرات من السمّ الزعاف في كؤوس الظافرين ، وإنّ كلّ الأحداث السياسيّة التي ترتّبت بعد ذلك من خروج المختار , وثورة ابن الزّبير , وسقوط الدولة الاُمويّة , وقيام الدولة العباسية , ثمّ تأصّل مذهب الشيعة إنّما كانت زينب هي باعثة ذلك ومثيرته(1) .
اُريد أن أقول : ماذا يكون الحال لو قُتل الحسين () ومَنْ معه جميعاً من الرجال إلاّ أن يسجّل التأريخ هذه الحادثة الخطيرة من وجهة نظر أعدائه ؟ فيضيع كلّ أثر لقضيته مع دمه المسفوك في الصحراء(2) .
إنّ من ألمع الأسباب في استمرار خلود مأساة الإمام الحسين () واستمرار فعالياتها في نشر الإصلاح الاجتماعي هو حمل عقيلة الوحي وبنات الرسول () مع الإمام الحسين () ؛ فقد قمنَ ببلورة الرأي العام ، ونشرنَ مبادئ الإمام الحسين وأسباب نهضته الكبرى ، وقد قامت السيدة زينب (عليها السّلام) بتدمير ما أحرزه يزيد من الانتصارات ، وألحقت به الهزيمة والعار .

وسنوضح ذلك بمزيد من البيان في البحوث الآتية :
خطاب الحسين () في مكة

وأمر الإمام الحسين () بجمع الناس من أهالي مكة ومن المعتمرين والحجّاج فيها ،
ـــــــــــــــــــــ
(1) بطلة كربلاء / 176 ـ 180 .
(2) نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثنى عشرية / 343 .
الصفحة (224)

فقام فيهم خطيباً فقال : (( الحمد لله ، وما شاء الله ولا قوّة إلاّ بالله ، وصلّى الله على رسوله وسلّم . خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخُيّر لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسلان(1) الفلوات بين النواويس وكربلاء ، فيملأنّ منّي أكراشاً جُوفاً , وأجربةً سغباً ، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويُوفّينا أجر الصابرين .

لن تَشُذّ عن رسول الله () لحمته ، وهي مجموعة له في حظيرة القدس ، تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده . مَنْ كان باذلاً فينا مهجته ، ومُوَطّناً على لقاء الله نفسه , فليرحل معنا ؛ فإنّني راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى ))(2) .
ونعى الإمام نفسه في هذا الخطاب التأريخي الخالد ، واعتبر الشهادة في سبيل الله زينة للإنسان كالقلادة التي تكون زينة للفتاة ، كما أعلن عن شوقه العارم لملاقاة الله تعالى ، وأنّ اشتياقه للذين استشهدوا في سبيل الله كاشتياق يعقوب إلى يوسف . وأخبر () عن البقعة الطاهرة التي يستشهد فيها , وهي ما بين النواويس وكربلاء , فيها تُقطّع أوصاله ويُراق دمه الزاكي .
وعلى أيّ حال , فقد حلّلنا هذا الخطاب وذكرنا أبعاده في كتابنا (حياة الإمام الحسين) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) العسلان : هي الذئاب .
(2) كشف الغمّة 2 / 241 .
الصفحة (225)
السفر إلى العراق

وقبل أن يغادر الإمام () مكة مضى إلى البيت الحرام فأدّى له التحية بطوافه وصلاته ، وبقي فيه حتّى أدّى صلاة الظهر ثمّ خرج مودّعاً له(1) .
وخرج الإمام () من مكة وهو يحمل معه مخدّرات الرسالة وعقائل النبوّة ، وكان خروجه في اليوم الثامن من ذي الحجّة سنة ستّين من الهجرة(2) ، وخيّم الحزن والأسى على أهل مكة وعلى حجاج بيت الله الحرام ، وكان الإمام لا ينزل منزلاً إلاّ حدّث أهل بيته عن مقتل يحيى بن زكريا(3) .
وسار موكب الإمام لا يلوي على شيء حتّى انتهى إلى موضع يُسمّى بـ «الصفاح» , فالتقى بالشاعر الكبير الفرزدق فسلّم على الإمام ، وقال له : بأبي أنت واُمّي يابن رسول الله ! ما أعجلك عن الحج ؟
فأجابه الإمام عن سبب خروجه : (( لو لم أعجل لأُخذت )) .
إنّ السبب في خروج الإمام () قبل أن يتمّ العمرة هو أنّ السلطة قد عهدت إلى عصابة منها باغتيال الإمام ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة ؛ فلذا سارع الإمام بالخروج من مكة .

وبادر الإمام () فسأل الفرزدق , فقال له : (( من أين أقبلت يا أبا فراس ؟ )) .
ـ من الكوفة .
ـ (( بيّن لي خبر الناس ؟ )) .
ـ على الخبير سقطت ؛ قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني اُميّة ، والقضاء ينزل من السماء ، والله يفعل ما يشاء ، وربّنا كلّ يوم هو في شأن(4) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) و (3) حياة الإمام الحسين () 3 / 53 ـ 54 .
(2) خطط المقريزي 2 / 286 .
(4) حياة الإمام الحسين () 3 / 60 .
الصفحة (226)

واستصوب الإمام () كلام الفرزدق , فقال له : (( صدقت ، لله الأمر من قبل ومن بعد ، يفعل الله ما يشاء وكلّ يوم ربّنا في شأن ؛ إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه ، وهو المستعان على أداء الشكر ، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدّ مَنْ كان الحقّ نيّته والتقوى سريرته ))(1).
وواصل الإمام مسيرته الخالدة بعزم وثبات , لم يثنه عن عزيمته قول الفرزدق في تخاذل الناس عنه وتجاوبهم مع بني اُميّة .
مع أبي هرّة

وسار الإمام () مع موكبه حتّى انتهى إلى ذات عرق , فخفّ إليه أبو هرّة فقال له : يابن رسول الله ، ما الذي أخرجك من حرم الله وحرم جدّك رسول الله () ؟
فأجابه الإمام بتأثّر قائلاً : (( ويحك يا أبا هرّة ! إنّ بني اُميّة أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عِرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت . وأيم الله , لتقتلني الفئة الباغية ، وليلبسنّهم الله ذُلاّ شاملاً , وسيفاً قاطعاً ، وليسلّطنّ الله عليهم مَنْ يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة منهم فحكمت في أموالهم ودمائهم ))(2) .
وانصرف الإمام () وهو حزين من هؤلاء الناس الذين لا يملكون وعياً لنصرة الحقّ والدفاع عن الإسلام .
فزع السيدة زينب ()

وكانت السيدة زينب (عليها السّلام) فزعة حزينة قد ذابت نفسها أسى وحسرات ؛ فقد علمت
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 60 .
(2) المصدر السابق 5 / 64 .




ما سيجري على أهلها من القتل , فخفّت إلى أخيها حينما كانوا في الخزيمية ، وهي تقول له بنبرات مشفوعة بالبكاء : يا أخي , إنّي سمعت هاتفاً يقول :
ألا يـا عـين فاحتفلي بجهد فمَنْ يبكي على الشهداءِ بعدي
عـلى قـومٍ تـسوقهمُ المنايا بـمقدارٍ إلـى إنجازِ وعدي

فأجابها أبيّ الضيم () غير حافل بما سيلقاه من النكبات والخطوب : (( يا اُختاه ، كلّ الذي قضى فهو كائن ))(1) .
لقد أراد الإمام () من شقيقته أن تتسلّح بالصبر ، وأن تقابل الرزايا والمصائب برباطة جأش وعزم حتّى تقوى على أداء رسالته .
النبأ المروّع بشهادة مسلم ()

وانتهى النبأ المروّع بشهادة البطل مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين () حينما كان في زرود ؛ فقد أقبل رجل من أهل الكوفة , فلمّا رأى الحسين () عدل عن الطريق , فتبعه بعض أصحاب الإمام فالتقيا به وانتسبا له ، وسألاه عن خبر الكوفة ، فقال : إنّه لم يخرج منها حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، ورآهما يُجرّان بأرجلهما في الأسواق .

وأسرعا إلى الإمام () فقالا له : رحمك الله ، إنّ عندنا خبراً إن شئت حدّثناك به علانية وإن شئت سرّاً .
ونظر الإمام إلى أصحابه فقال : (( ما دون هؤلاء سرّاً )) . وأخبراه بما سمعاه من الرجل من شهادة مسلم وهانئ ، فكان هذا النبأ كالصاعقة على العلويِّين , فانفجروا بالبكاء على فقيدهم العظيم حتّى ارتجّ الموضع من شدّة البكاء ، والتفت الإمام إلى بني عقيل فقال لهم :
ـــــــــــــــــــــ
(1) المناقب ـ لابن شهرآشوب 5 / 127 .
الصفحة (228)

(( ما ترون ؟ فقد قُتل مسلم )) .
ووثبت الفتية كالأسود الضاربة ، وهم يعلنون استهانتهم بالموت , وتصميمهم على الشهادة قائلين : لا والله ، لا نرجع حتّى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم .
وراح الإمام () يقول : (( لا خير في العيش بعد هؤلاء )) .
وتمثّل () بهذين البيتين :
سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى إذا مـا نـوى حـقّاًً و جاهد مسلما
فـإن متُّ لم أندم وإنْ عشت لم أُلمْ كـفى بكَ عاراً أن تذلَّ وتُرغما(1)

لقد مضى إلى ساحات الجهاد مرفوع الرأس ، وهو على يقين لا يخامره شكّ في أنّه يسير إلى الفتح الذي لا فتح ولا ظفر مثله .
رؤيا الإمام الحسين ()

وخفق الإمام الحسين () وقت الظهيرة فرأى رؤياً أفزعته ، فانتبه مذعوراً , فأسرع إليه ولده مفخرة الإسلام علي الأكبر قائلاً : يا أبتِ ، ما لي أراك فزعاً ؟
ـ (( رأيت رؤيا أفزعتني )) .
ـ خيراً رأيت .
ـ (( رأيت فارساً وقف عليَّ وهو يقول : أنتم تسرعون والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة . فعلمت أنّ أنفسنا نُعيت إلينا ))(2) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) الدرّ النظيم / 167 .
(2) تاريخ الإسلام ـ الذهبي 2 / 346 .
الصفحة (229)

وبادر عليّ قائلاً : ألسنا على الحقّ ؟
أجل يا فخر هاشم أنتم معدن الحقّ , وأصله ومنتهاه ، وأجابه أبوه قائلاً : (( بلى والذي إليه مرجع أمر العباد )) .
وطفق عليّ يلقي كلمته الذهبية الخالدة قائلاً : يا أبتِ ، لا نبالي الموت .
ووجد الإمام الحسين () في ولده البارّ خير عون له على أداء رسالته الكبرى ، فشكره على ذلك قائلاً : (( جزاك الله يا بُني خير ما جزى به ولداً عن والده ))(1) .
الالتقاء بالحرّ

وانتهى ركب الإمام إلى شراف وفيها عين للماء ، فأمر الإمام فتيانه أن يستقوا من الماء ويكثروا منه ففعلوا ذلك ، ثمّ سارت قافلة الإمام () تطوي البيداء ، فبادر رجل من أصحاب الإمام فكبّر ، فاستغرب الإمام () وقال له : (( لِمَ كبّرت ؟ )) .
ـ رأيت النخل .
وأنكر عليه رجل ممّن خبر الطريق وعرفه , فقال له : ليس ها هنا نخل ، ولكنّها أسنة الرماح وآذان الخيل .
وتأمّلها الإمام الحسين () فقال : (( وأنا أرى ذلك )) .

وعرف الإمام أنّها طلائع الجيش الاُموي جاءت لإلقاء القبض عليه ، فقال لأصحابه : (( أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد ؟ )) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مقاتل الطالبيّين / 111 . فقال له بعض أصحابه : هذا ذو حسم(1) إلى جنبك تميل إليه عن يسارك ، فإن سبقت له فهو كما تريد .

ومال ركب الإمام () إليه ، فلم يسيروا إلاّ قليلاً حتّى أدركهم جيش مكثّف بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي ، وكان ابن مرجانة قد عهد إليه أن يجوب في صحراء الجزيرة للتفتيش عن الإمام () ، وكان عدد ذلك الجيش ألف فارس بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي ، ووقفوا قبال الإمام () , وكان الوقت شديد الحرّ , وقد أشرفوا على الهلاك من شدّة العطش ، فرقّ عليهم الإمام () وغضّ نظره من أنّهم جاؤوا لقتاله وسفك دمه ، فأمر أصحابه وأهل بيته أن يسقوهم الماء ، ويرشفوا خيولهم .

وقام أصحاب الإمام فسقوا القوم عن آخرهم ، ثمّ انعطفوا إلى الخيل فجعلوا يملؤون القصاع والطساس فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت وسقي الآخر حتّى سقوها جميعاً(2) .
لقد تكرّم الإمام () بإنقاذ هذا الجيش الذي جاء لحربه ، ولم تهزّ هذه الأريحية ولا هذا النبل نفس هذا الجيش ، ولم يتأثّروا بهذا الخلق الرفيع ؛ فقد أحاطوا بالفرات في كربلاء وحرموا ذرّية نبيّهم من الماء , ولم يسقوهم قطرة حتّى توفّوا عطاشى .
خطاب الإمام ()

وخطب الإمام () في قطعات ذلك الجيش ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : (( أيّها الناس ، إنّها معذرة إلى الله عزّ وجلّ إليكم . إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم ، وقدمت بها عليَّ رسلكم , أن أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام ، ولعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى ؛ فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فأعطوني ما اطمئن به
ـــــــــــــــــــــ
(1) ذو حسم (بضمّ الحاء وفتح السين) : جبل هناك .
(2) تاريخ الطبري 6 / 226 .
الصفحة (231)

من عهودكم ومواثيقكم ، وإن كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم )) .
وأحجموا عن الجواب ؛ فإنّ الأكثرية الساحقة منهم قد كاتبوا الإمام () وبايعوه على يد سفيره مسلم بن عقيل () .
وحلّ وقت الصلاة فأمر الإمام مؤذّنه الحجّاج بن مسروق أن يؤذّن ويقيم لصلاة الظهر ، وبعد فراغه قال الإمام () للحرّ : (( أتريد أن تصلّي بأصحابك ؟ )) .

فقال : بل نصلّي بصلاتك .

وأتمّوا بالإمام () فصلّى بهم صلاة الظهر ، وبعد أدائه للصلاة قام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه , ثمّ قال : (( أيّها الناس ، إنّكم إن تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله ، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا , وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم )) .
ولم يعلم الحرّ بشأن الكتب التي بعثها أهل الكوفة للإمام () ، فقال له : ما هذه الكتب التي تذكرها ؟
فأمر الإمام () عقبة بن سمعان بإحضارها ، وكانت قد ملئت خرجين , فنثرها بين يدي الحرّ فبُهر منها ، وقال : لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك .
وأراد الإمام () أن يتّجه إلى يثرب , فقال له الحرّ : قد اُمرت أن لا اُفارقك إذا لقيتك حتّى اُقدمك الكوفة على ابن زياد .

وتأثّر الإمام () وصاح به : (( الموت أدنى إليك من ذلك )) .
وجرت مشادّة عنيفة بين الإمام والحرّ ؛ فقد حال الحرّ من توجّه الإمام إلى يثرب ، وكان الوضع أن ينفجر باندلاع نار الحرب , إلاّ أنّ الحرّ ثاب إلى الهدوء وقال للإمام () : إنّما لم اُؤمر بقتالك , وإنّما اُمرت أن لا اُفارقك حتّى اُقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة .

واتّفقا على ذلك , فتياسر
الصفحة (232)

الإمام () عن طريق العذيب والقادسية(1) . وأخذت قافلة الإمام () تطوي البيداء ، وكان الحرّ يُتابعه عن كثب , ويراقبه كأشدّ ما تكون المراقبة .
وفزعت حفيدة الرسول كأشدّ ما يكون الفزع وأيقنت بنزول الرزء القاصم ، وأنّ أخاها مصمّم على الشهادة ومناجزة الحكم الاُموي .
خطبة الإمام ()

ولمّا انتهى موكب الإمام إلى (البيضة) ألقى الإمام خطاباً على الحرّ وأصحابه ، وقال فيه : (( أيّها الناس ، إنّ رسول الله () قال : مَنْ رأى سلطاناً جائراً , مستحلاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر ما هو عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله .
ألا إنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ ممّنْ غيَّر . وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني ؛ فإن أقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم ، وأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله () , نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهليكم ، ولكم فيَّ اُسوة .

وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي ، فلعمري ما هي لكم بنكر ؛ لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم ، فالمغرور مَنْ اغترّ بكم ، فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومَنْ نكث فإنّما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم )) .
وحفل هذا الخطاب الرائع باُمور بالغة الأهمية ذكرناها في كتابنا (حياة الإمام الحسين) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 280 .


يتبع












عرض البوم صور الشيخ عباس محمد   رد مع اقتباس
قديم 02-08-2015, 11:27 PM   المشاركة رقم: 2
معلومات العضو
الشيخ عباس محمد

إحصائية العضو







 
 


التوقيت

التواجد والإتصالات
الشيخ عباس محمد غير متواجد حالياً

كاتب الموضوع : الشيخ عباس محمد المنتدى : منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
افتراضي

ولمّا سمع الحرّ خطاب الإمام () ووعاه أقبل عليه , فقال له : إنّي اُذكّرك الله في نفسك ؛ فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلن .

فأجابه الإمام () : (( أبالموت تخوّفني ؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ؟! وما أدري ما أقول لك ، ولكنّي أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول الله () : أين تذهب فإنّك مقتول . فقال له :
سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى إذا مـا نـوى خـيراًً وجـاهدَ مسلما
وواسـى الـرجالَ الـصالحينَ بنفسهِ وخـالفَ مـثبوراً و فـارقَ مـجرما
فـإن عـشتُ لم أندم و إن متُّ لم أُلمْ كـفى بـكَ ذلاً أن تعيشَ وتُرغما ))(1)

ولمّا سمع الحرّ مقالة الإمام () عرف أنّه مصمّم على الشهادة في سبيل أهدافه النبيلة . والتاعت السيّدة زينب (عليها السّلام) حينما سمعت مقالة أخيها , وأيقنت أنّه مصمّم على الموت والشهادة في سبيل الله .
مع الطرمّاح

وصحب الطرمّاح الإمام () في أثناء الطريق ، وأقبل الإمام على أصحابه فقال لهم : (( هل فيكم أحد يخبر الطريق على غير الجادة ؟ )) .

فقال له الطرماح : أنا أخبر الطريق .

فقال () له : (( سر بنا )) .

فسار بهم الطرماح وجعل يحدو بالإبل بصوت حزين قائلاً :
يا ناقتي لا تذعري من زجري وامضي بنا قبلَ طلوعِ الفجرِ
بـخيرِ فـتيانٍ وخـيرِ سفرِ آلِ رسـولِ اللهِ أهـلِ الفخرِ
الـسادةِ البيض الوجوهِ الزهرِ الـطاعنينَ بـالرماحِ السمرِ
ـــــــــــــــــــــــ
(1)
الصفحة (234)
الـضاربينَ بـالسيوفِ الـبترِ حـتى تـحلّى بـكريمِ الـنجرِ
بـماجـدِ الجـدِّ رحيبِ الصدرِ أتــى بــهِ اللهُ لـخيرِ أمـرِ
عـمّـرهُ اللهُ بـقـاءَ الـدهـرِ يـا مـالكَ الـنفعِ معاً و الضرِّ
أمـدد حـسيناً سـيّدي بالنصرِ عـلى الـطغاةِ مـن بقايا الكفرِ
عـلى الـلعينينِ سـليلَي صخرِ يـزيـد لا زالَ حـليفَ الـخمرِ
والـعودِ والـصنجِ معاً والزمرِ وابن زيادِ العهرِ وابنِ العهرِ(1)

وأسرعت الإبل في سيرها على نغمات هذا الشعر الحزين ، وقد فاضت عيون السيّدات من بنات رسول الله () وفي طليعتهن السيدة زينب بالبكاء , وهنّ يدعون للإمام () بالنصر والتأييد على أعدائه .
رسالة ابن زياد للحرّ

وسارت قافلة الإمام تطوي البيداء ، وهي تارة تتيامن واُخرى تتياسر ، وجنود الحرّ يذودون الركب عن البادية ويدفعونه تجاه الكوفة والركب يمتنع عليهم ، وإذا براكب قد أقبل وهو رسول من قِبل ابن زياد إلى الحرّ , فسلّم الخبيث الدنس على الحرّ ولم يسلّم على الحسين () ، وناول الحرّ رسالة من ابن مرجانة جاء فيها : أمّا بعد ، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي ، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يُفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري ، والسّلام(2) .
وقرأ الحرّ الكتاب على الإمام الحسين () ، وقد أراد أن يستأنف سيره متّجهاً صوب قرية أو ماء , فمنعه الحرّ . وانبرى زهير بن القين وهو من أفذاذ أصحاب الإمام () , فقال له : يابن رسول الله ، إنّ قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال مَنْ يأتينا
ـــــــــــــــــــــ
(1) مقاتل الطالبيّين / 111 .
(2) أنساب الأشراف / 240 .
الصفحة (235)

من بعدهم ما لا قِبل لنا به .

فقال له الحسين () : (( ما كنت لأبدأهم بقتال )) .

وتابع زهير حديثه قائلاً : سر بنا إلى هذه القرية حتّى ننزلها فإنّها حصينة ، وهي على شاطئ الفرات ، فإن منعونا قاتلناهم ؛ فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء بعدهم .

ولكنّ الحرّ أصرّ على الإمام () أن ينزل في ذلك المكان ولا يتجاوزه ، ولم يجد الإمام بدّاً من النزول فيه ، والتفت إلى أصحابه فقال لهم : (( ما اسم هذا المكان ؟ )) .
فقالوا له : كربلاء .
وفاضت عيناه بالدموع وقال : (( اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء ))(1) .
وطافت به الذكريات ، ومثل أمامه ما قاله جدّه رسول الله () وأبوه الإمام أمير المؤمنين () من أنّ دمه الزاكي سيُراق في هذه الأرض , وفيها تتقطّع أوصاله ، وتُسفك دماء أهل بيته وأصحابه ، وخلد الإمام إلى الصبر واستسلم لقضاء الله .
ونهض أصحاب الإمام () وأهل بيته فنصبوا الخيام لمخدّرات الرسالة وعقائل الوحي كما نصبوا الخيام لهم , وأسرع فتيان بني هاشم وأمامهم سيّدهم أبو الفضل العباس فأنزلوا السيّدات من المحامل وجاؤوا بهنَّ إلى خيامهن ، وقد أحسّت حفيدة الرسول () السيدةزينب (عليها السّلام) بالأخطار الهائلة والكوارث التي ستجري عليها وعلى أهلها في هذه الأرض .
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 91 .
الصفحة (236)


الصفحة (237)
في كربلاء

وذاب قلب الصدّيقة الطاهرة زينب أسى وحسرات ، واستولى عليها الألم العاصف ؛ فقد أيقنت أنّها ستُشاهد في هذه الأرض مصرع أخيها وأهل بيته ، وستجري عليها من النكبات والخطوب ما تذوب من هولها الجبال ، وقد خلدت إلى الصبر وسلّمت أمرها إلى الله تعالى .
وحينما استقرّ الإمام الحسين () في كربلاء جمع أهل بيته وأصحابه فألقى عليهم نظرة حنان وعطف ، ورفع يديه بالدعاء يناجي ربّه ، ويشكو إليه ما ألمّ به من المحن والخطوب قائلاً : (( اللّهمّ إنّا عترة نبيّك محمّد () , قد اُخرجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدّنا ، وتعدّت بنو اُميّة علينا ، اللّهمّ فخذ لنا بحقّنا وانصرنا على القوم الظالمين )) .
ثمّ أقبل على تلك الصفوة فقال لهم : (( الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم , يحوطونه ما درّت معائشهم ، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون )) .
وحكت هذه الكلمات الذهبية واقع الناس واتّجاهاتهم , فهم في جميع مراحل التأريخ عبيد الدنيا ، أمّا الدين فإنّما يجري على ألسنتهم , فإذا محّصوا بالبلاء مالوا عنه وتنكّروا له .
ثمّ خاطب أصحابه قائلاً : (( أمّا بعد , فقد نزل بنا ما قد ترون ، وأنّ الدنيا قد تغيّرت وتنّكرت ، وأدبر
الصفحة (238)

معروفها ، ولم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل(1) .
ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله ؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة , والحياة مع الظالمين إلاّ برماً ))(2) .
والتاعت سيدة النساء زينب حينما سمعت خطاب أخيها وهو مصمّم على الموت , فقد اعتبره سعادة ، واعتبر الحياة والعيش مع الظالمين برماً .
وحينما أنهى الإمام () خطابه هبّ أصحابه وأهل بيته وهم يعلنون الدعم الكامل له ، ويهزؤون بالحياة ، ويسخرون من الموت من أجله ، فشكرهم الإمام () وأثنى عليهم .
خطبة ابن مرجانة

وحينما انتهى النبأ بنزول الإمام في كربلاء وإحاطة الحرّ به ، دعا ابن مرجانة الناس إلى الجامع الأعظم فامتلأ منهم ، فقام فيها خطيباً فقال : أيّها الناس ، إنّكم بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون ، وهذا أمير المؤمنين يزيد قد عرفتموه ؛ حسن السيرة ، محمود الطريقة ، محسناً إلى الرعية ، يُعطي العطاء في حقّه ، وقد أمنت السبل على عهده ، وكذلك كان أبوه معاوية في عصره .

وهذا ابنه يزيد يُكرم العباد ، ويغنيهم بالأموال ، وقد زادكم في أرزاقكم مئة مئة ، وأمرني أن اُوفّرها عليكم ، واُخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين ، فاسمعوا له وأطيعوا(3) .
لقد منّاهم بالأموال التي يعبدونها من دون الله فاستجابوا له ، وخرجوا
ـــــــــــــــــــــ
(1) المرعى الوبيل : هو الطعام الوخيم الذي يخاف وباله .
(2) تاريخ ابن عساكر 13 / 74 ، من مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين () .
(3) الأخبار الطوال / 253 .
الصفحة (239)

كالكلاب لحرب ريحانة رسول الله () وسيّد شباب أهل الجنة .
انتخاب ابن سعد للقيادة العامة

وانتخب الوغد الأثيم عبيد الله بن زياد عمر بن سعد قائداً عامّاً لقوّاته المسلّحة ، وكان ابن سعد من أخسّ الناس ومن أرذلهم ، ولا يملك أيّ رصيد من الشرف والكرامة ، وكان ضعيف النفس , خائر العزيمة ، لقد انتخبه ابن زياد لأفظع جريمة منذ خلق الله الأرض .

فقاد الجيوش لحرب ابن رسول الله () , وأحاط به من كلّ جانب ، وفرض عليه الحصار , فاستولى على جميع الطرق مخافة أن يصل إليه أيّ إمداد من الخارج . كما عهد إلى أربعة آلاف فارس بقيادة المجرم عمرو بن الحجّاج فاحتلوا نهر الفرات وجميع الشرائع والأنهر المتفرّعة منه ، وقد حيل بين الإمام الحسين () وبين الماء قبل قتله بثلاثة أيام(1) .

وقد عانت العقيلة أعظم المحن ؛ فقد أحاطت بها الأطفال وحرائر الرسالة وهم يعجّون من ألم الظمأ ، وهي تصبّرهم وتمنّيهم بوصول الماء إليهم . لقد ذاب قلبها رحمةّ وحناناً على أطفال أخيها الذين ذبلت شفاههم وذوى عودهم .

يقول أنور الجندي :
و ذئـابُ الـشرورِ تـنعمُ بـالما ءِ وأهـلُ الـنبي مـن غـيرِ مـاءِ
يـا لـظلمِ الأقـدارِ يـظمأ قـلب الـ ـليثِ و الـليثُ مـوثقُ الأعضاءِ
وصغارُ الحسينِ يبكونَ في الصحرا ء يـا ربِّ أيـنَ غـوثُ الـقضاءِ

إنّ جميع الشرائع والمذاهب لا تُبيح منع الماء عن الأطفال والنساء ؛ فالناس جميعاً شركاء فيه ، ولكن شريعة آل أبي سفيان التي تحكي طباع الاُسر القرشيّة التي أبت أن تجتمع الخلافة والنبوّة في بيت واحد هي التي حرّمت الماء على آل الرسول () .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان / 89 .


الإمام () مع ابن سعد

وطلب الإمام () من ابن سعد الاجتماع به ، فأجابه الباغي اللئيم على كره , وعقد الإمام () معه اجتماعاً مغلقاً حضره أبو الفضل العباس وعلي الأكبر ، ومع ابن سعد ابنه حفص وغلام له ، فقال له الإمام () : (( يابن سعد ، أتقاتلني ؟ أما تتقي الله الذي إليه معادك ؛ فإنّي ابن مَنْ قد علمت ؟ ألا تكون معي وتدع هؤلاء فإنّه أقرب إلى الله تعالى ؟ )) .
وألقى ابن سعد معاذيره الواهية قائلاً : أخاف أن تُهدم داري .
ـ (( أنا أبنيها )) .
ـ أخاف أن تؤخذ ضيعتي .
ـ (( أنا أخلف عليك خيراً منها )) .
ـ إنّ لي بالكوفة عيالاً ، وأخاف عليهم من القتل مع ابن زياد .
ولمّا رأى الإمام () إصراره على الغيّ والعدوان ، ولا ينفع معه النصح والإرشاد , راح يدعو عليه قائلاً : (( ما لك ؟ ذبحك الله على فراشك ، ولا غفر لك يوم حشرك ، فوالله إنّي لأرجو أن لا تأكل من برّ العراق إلاّ يسيراً )) .
وولّى ابن سعد وهو يقول للإمام بسخرية : إنّ في الشعير كفاية .
واستجاب الله دعاء الإمام المظلوم في هذا الوضر الخبيث ؛ فقد ذبحته جنود البطل العظيم المختار بن يوسف (نضّر الله مثواه) وهو على فراشه ، وسيقت روحه الخبيثة إلى نار جهنم خالداً فيها مع أمثاله من المجرمين وأسياده الاُمويِّين .
وكانت العقيلة على علم بجميع ما يجري من الأحداث ، وأيقنت أنّ أخاها سيلاقي حتفه على يد هذه العصابة المجرمة التي لم تؤمن بالله ، والتي ساقتها الأطماع إلى اقتراف أفظع جريمة في الأرض .
الصفحة (241)
المأساة الخالدة

ولم تبقَ كارثة من كوارث الدنيا ولا رزية من رزايا الدنيا إلاّ جرت على حفيدة الرسول () وعقيلة بني هاشم في كربلاء ؛ فقد أحاطت بها المصائب يتبع بعضها بعضاً ؛ فقد شاهدت أعداء الله وجيوش آل أبي سفيان قد اجتمعت على إبادة أهلها ، وقد احتلّوا ماء الفرات ومنعوا ذرّية رسول الله () من الانتهال منه ، وقد عجّت أطفال أهل البيت (عليهم السّلام) ونساؤهم بالصراخ والعويل من شدّة الظمأ ، وقد أحاطوا بالعقيلة يطلبون منها الماء وهي حائرة مذهولة تأمرهم بالصبر ، كيف الصبر والعطش قد مزّق قلوبهم ؟!
وقد زحفت جيوش الاُمويِّين نحو الإمام الحسين () في ليلة التاسع من المحرّم ، كان سيّد الشهداء جالساً أمام بيته محتبياً بسيفه , إذ خفق برأسه ، فسمعت اُخته العقيلة أصوات الجيش قد تدانت نحو أخيها , فانبرت إليه وهي مذهولة مرعوبة فأيقظته ، وقالت له : إنّ العدو قد دنا منّا .

فقال لها : (( إنّي رأيت رسول الله () في المنام فقال : إنّك تروح إلينا )) .
وكانت هذه الكلمات كالصاعقة على رأس العقيلة , فقد خرقت قلبها الرقيق المعذّب ، فلطمت وجهها وقالت : يا وليتاه(1) !
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 384 .
الصفحة (242)

وكان أبو الفضل العباس () إلى جانب أخيه لا يفارقه ، فقال له : يا أخي , أتاك القوم .
وطلب منه الإمام () أن يتعرّف على خبرهم , فقال له : (( اركب بنفسي أنت يا أخي حتّى تلقاهم ، فتقول لهم : ما بدا لكم ؟ وما تريدون ؟ )) .
وبادر قمر بني هاشم ومعه عشرون فارساً نحو القوم ، وفيهم حبيب بن مظاهر , وزهير بن القين ، فسألهم العباس عن زحفهم ، فقالوا له : جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه أو نناجزكم(1) .
وقفل أبو الفضل () إلى أخيه فعرّفه ما عرضوه عليهم ، فقال () له : (( ارجع إليهم , فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة لعلّنا نصلّي لربّنا هذه الليلة وندعوه ونستغفره ؛ فهو يعلم أنّي اُحبّ الصلاة , وتلاوة كتابه , وكثرة الدعاء والاستغفار )) . وكان ذكر الله والدعاء والصلاة من أهمّ ما يصبوا إليه الإمام () في هذه الحياة(2) .
وقفل قمر بني هاشم راجعاً إلى تلك الوحوش الكاسرة , فعرض عليهم مقالة أخيه ، وتردّد القوم في إجابته ، فأنكر عليهم عمرو بن الحجّاج الزبيدي إحجامهم ، وقال : سبحان الله ! والله لو كان من الديلم ثمّ سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوه .
ولم يزد ابن الحجّاج على ذلك ، ولم يقل : إنّه ابن رسول الله ؛ خوفاً أن يُنقل كلامه إلى ابن مرجانة فينال العقاب والحرمان . وأيّد ابن الأشعث مقالة ابن الحجّاج , فقال له ابن سعد :
ـــــــــــــــــــــ
(1) أنساب الأشراف / 184 .
(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 285 .
الصفحة (243)

أجبهم إلى ما سألوا ، فلعمري ليصبحنك بالقتال غداً .
واستجاب ابن سعد إلى تأجيل الحرب بعد أن رضيت به الأكثرية من قادة جيشه ، وأوعز ابن سعد إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك أمام معسكر الحسين () , فدنا منه وقال رافعاً صوته : يا أصحاب الحسين بن عليّ ، قد أجّلناكم يومكم هذا إلى غد ، فإن استسلمتم ونزلتم على حكم الأمير وجّهنا بكم إليه ، وإن أبيتم ناجزناكم .
واُرجئ القتال إلى اليوم الثاني المصادف يوم العاشر من المحرّم .
الإمام () يأذن لأصحابه بالتفرّق

وجمع سيّد الشهداء أصحابه وأهل بيته في غلس الليل , وطلب منهم أن يتفرّقوا في سواده ليلقى مصيره المحتوم وحده ، فقال لهم : (( اُثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده على السرّاء والضرّاء . اللّهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة ، وعلّمتنا القرآن ، وفهّمتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعاً وأفئدة ، ولم تجعلنا من المشركين .
أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي , فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً ، ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً ، وإنّي قد أذنت لكم جميعاً , فانطلقوا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً خيراً ، ثمّ تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتّى يفرّج الله ؛ فإنّ القوم إنّما يطلبونني ، ولو أصابوني للهوا عن طلب غيري ))(1) .
لقد جعل الإمام أصحابه وأهل بيته أمام الأمر الواقع , وهي الشهادة التي لا بدّ
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 285 .
الصفحة (244)

منها في مصاحبته ، وليس شيء آخر غيرها ، قد سمح لهم بالتفرّق عنه في سواد الليل فيتخذونه ستاراً لهم دون كلّ عين ، كما عرّفهم أنّه هو المطلوب للحكم الاُموي دون غيره , فإذا قتلوه فلا إرب لهم في غيره .
وعلى أيّ حال ، فإنّ الإمام () لم يكد ينتهي من خطابه حتّى هبّت الصفوة الطاهرة من أهل بيته وأصحابه وهي تعلن ولاءها الكامل له ، وأنّهم جميعاً يلاقون المصير الذي يلقاه ، وقد بدأهم بالكلام قمر بني هاشم وفخر عدنان أبو الفضل العباس () قائلاً : لِمَ تفعل ذلك ؟ لنبقى بعدك ؟! لا أرانا الله ذلك أبداً(1) .
وتتابعت أصوات أصحابه والفتية من بني هاشم وهم يرحّبون بالموت والشهادة في سبيله ، حقّاً لقد كانوا من خيرة بني آدم صدقاً ووفاءً وشهامةً ونبلاً .
لوعة السيدة زينب (عليها السّلام)

وفزعت عقيلة بني هاشم كأشدّ ما يكون الفزع وأقساه حينما سمعت أخاها وبقية أهلها يُعالج سيفه ويصلحه , وهو ينشد هذه الأبيات التي ينعى فيها نفسه :
يـا دهرُ أُفّ لكَ من خليلِ كم لكَ بالإشراقِ والأصيلِ
مـن طالبٍ وصاحبٍ قتيلِ والـدهرُ لا يـقنعُ بالبديلِ
وكـلُّ حـيٍّ سـالكٌ سبيلِ ما أقربُ الوعد إلى الرحيلِ
وإنّـما الأمـرُ إلى الجليلِ

وكان مع الإمام () في خيمته الإمام زين العابدين () والعقيلة ؛ أمّا الإمام زين العابدين () فإنّه لمّا سمع هذه الأبيات خنقته العبرة ولزم السكوت ، وعلم أنّ البلاء قد نزل ، وأمّا العقيلة (عليها السّلام) فقد أيقنت أنّ أخاها عازم على الموت ، فأمسكت قلبها الرقيق
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 167 .
الصفحة (245)

المعذّب ووثبت وهي تجرّ ذيلها وقد غامت عيناها بالدموع , فقالت لأخيها : وا ثكلاه ! وا حزناه ! ليت الموت أعدمني الحياة . يا حسيناه ! يا سيّداه ! يا بقيّة أهل بيتاه ! استسلمتَ للموت ويئستَ من الحياة ؟! اليوم مات جدّي رسول الله ، اليوم ماتت أُمّي فاطمة الزهراء ، وأبي عليّ المرتضى ، وأخي الحسن الزكيّ ، يا بقيّة الماضين وثمال الباقين(1) !
وذاب قلب الإمام () أسىً وحزناً ، والتفت إلى شقيقته فقال لها الإمام بحنان : (( يا اُخيّة ، لا يذهبنّ بحلمك الشيطان )) .
وسرت الرعدة والفزع بقلب الصدّيقة وطافت بها آلام مبرحة فخاطبت أخاها بأسى والتياع قائلة : أتغتصب نفسك اغتصاباً ؟! فذاك أطول لحزني وأشجى لقلبي .
ولم تملك صبرها بعدما أيقنت أن أخاها وبقيّة أهلها سيستشهدون لا محالة ، فعمدت إلى جيبها فشقّته ، ولطمت وجهها ، وخرّت إلى الأرض فاقدة لوعيها(2) .

وأثّر منظرها الرهيب في نفس الإمام () فالتاع كأشدّ ما تكون اللوعة ، ورفع يديه بالدعاء أن يلهم شقيقته الصبر والسلوان ، وأن يعينها على تحمّل المحن الشاقّة التي أحاطت بها .
إحياء الليل بالعبادة

وأقبل الإمام () مع أهل بيته وأصحابه على العبادة ؛ فقد علموا أنّ تلك الليلة هي آخر ليالي حياتهم ، ولم يذق أيّ واحد منهم طعم الرقاد ؛ فقد اتّجهوا بقلوبهم وعواطفهم نحو الله وهم يمجّدونه , ويتلون كتابه , ويقيمون الصلاة , ويسألونه العفو والغفران .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مقاتل الطالبيّين / 113 .
(2) حياة الإمام الحسين () 3 / 173 .وكانوا يترقّبون بشوق لا حدّ له طلوع الفجر ؛ ليكونوا قرابينَ للإسلام , وفداءً لابن رسول الله () .

وكان حبيب بن مظاهر ، وهو من ألمع أصحاب الحسين () ، وقد خرج إلى أصحابه وهو يضحك ، فأنكر عليه بعض أصحابه وقال له : يا حبيب ، ما هذه ساعة ضحك ! فأجابه حبيب عن إيمانه العميق قائلاً : أيّ موضع أحقّ من هذا بالسرور ؟ والله ما هو إلاّ أن تميل علينا هذه الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور العين(1) .
وداعب برير عبد الرحمن الأنصاري , فاستغرب من مداعبته قائلاً : ما هذه ساعة باطل !
انظروا إلى جواب برير فقد قال : لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً ، ولكنّي مستبشر بما نحن لاقون , والله ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم ، وددت أنّهم مالوا علينا الساعة(2) .
أيّ إيمان هذا الذي تسلّح به أصحاب الحسين () ؛ فقد فاقوا جميع شهداء الحقّ والفضيلة في جميع الأعصار والآباد .
رؤيا الإمام الحسين ()

وخفق الإمام الحسين () خفقة ثمّ انتبه ، والتفت إلى أصحابه وأهل بيته فقال لهم : (( أتعلمون ما رأيت في منامي ؟ )) .
ـ ما رأيت يابن رسول الله ؟
(( رأيت كأنّ كلاباً قد شدّت عليَّ تنهشني , وفيها كلب أبقع أشدّها عليَّ ، وأظنّ
ـــــــــــــــــــــ
(1) رجال الكشي / 53 .
(2) تاريخ الطبري 6 / 241 .
الصفحة (247)

الذي يتولّى قتلي رجل أبرص من هؤلاء القوم . ثمّ إنّي رأيت جدّي رسول الله () ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول لي : أنت شهيد آل محمّد ، وقد استبشرت بك أهل السماوات وأهل الصفيح الأعلى ، فليكن إفطارك عندي الليلة ، عجّل ولا تؤخّر . هذا ما رأيت ، وقد أزف الأمر واقترب الرحيل من هذه الدنيا ))(1) .
وخيّم على أهل البيت (عليهم السّلام) حزن عميق ، وأيقنوا بنزول الرزء القاصم والاقتراب من دار الآخرة .
فزع عقائل الوحي

وفزعت عقائل الوحي ، وخيّم عليهنَّ الذعر والخوف ، ولم يهدأن في تلك الليلة ؛ فقد طافت بهنَّ موجات من الهواجس وتمثّل أمامهنَّ المستقبل المليء بالخطوب والكوارث ، وقد خلدنَ إلى الدعاء والبكاء ، وكان من أشدّهنَّ عقيلة النبوّة السيّدة زينب ؛ فقد كانت تراقب الأحداث وهي على علم لا يخامره شكّ أنّ المسؤولية الكبرى سوف تنتقل عن كاهل الحسين () إليها لو قُتل ، كما علمت أنّه لا يبقى من أهلها أحد ، لقد فزعت وذهلت من الأحداث الجسام التي أحاطت بها .
العقيلة (عليها السّلام) مع الهاشميّين والأصحاب

ولم تهدأ عقيلة الرسالة ؛ فقد هامت في تيارات مذهلة من الأسى والشجون ، فكانت على علم أنّ ليلة العاشر من المحرّم هي آخر ليلة لأهلها وهم على قيد الحياة ، وقد وجلت على أخيها , فمضت تراقب خيم الهاشميّين والأصحاب لتسمع ما يدور عندهم من حديث .

فانبرت إلى خيمة أخيها قمر بني هاشم وقد اجتمع بها فتيان بني هاشم , وقد أحاطوا بسيّدهم أبي الفضل ، فسمعته يخاطب
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 177 .
الصفحة (248)

الهاشميّين قائلاً : إخوتي وبني إخوتي وأبناء عمومتي ، إذا كان الصباح فما تصنعون ؟

فهبّوا جميعاً قائلين : الأمر إليك .
ـ إنّ أصحابنا وأنصارنا قوم غرباء ، والحمل ثقيل لا يقوم إلاّ بأهله ، فإذا كان الصباح كنتم أوّل مَنْ يبرز للقتال ، فنسبق أنصارنا إلى الموت ؛ لئلاّ يقول الناس : قدّموا أصحابهم .
ولم ينتهِ من مقالته حتّى هبّوا قائلين : نحن على ما أنت عليه .
ثمّ مضت العقيلة إلى خيمة حبيب بن مظاهر عميد أصحاب الإمام وقد أحاط به الأصحاب ، فسمعت يحدّثهم قائلاً : يا أصحابي ، إذا كان الصباح ماذا تفعلون ؟
ـ الأمر إليك .
إذا صار الصباح كنّا أوّل مَنْ يبرز إلى القتال ، نسبق بني هاشم إلى الموت ، فلا نرى هاشمياً مضرّجاً بدمه ؛ لئلاّ يقول الناس : قد بدؤوهم إلى القتال ، وبخلنا عليهم بأنفسنا .
واستجابت الصفوة الطاهرة لمقالة زعيمهم حبيب ، وراحوا يقولون : نحن على ما أنت عليه .
وسُرّت زينب بوفاء الأنصار وتصميمهم على نصرة أخيها والذبّ عنه حتّى النفس الأخير من حياته ، وانطلقت العقيلة إلى أخيها فأخبرته بما سمعت من الهاشميّين والأنصار من الذود عنه ، وحمايته من كلّ سوء ومكروه .

وأخبرها الإمام () أنّهم من أنبل الناس ، ومن أكثرهم شهامة وإيماناً ، وأنّ الله تعالى قد اختارهم من بين عباده لنصرته ، والوقوف معه لمناجزة القوى المنحرفة والمعادية للإسلام .
الصفحة (249)
يوم عاشوراء

ويوم عاشوراء من أفجع الأيام وأقساها وأشدّها محنة على العقيلة زينب (عليها السّلام) وعلى أهل البيت (عليهم السّلام) ، فلم تبقَ رزيّة من رزايا الدهر إلاّ جرت عليهم ، ونتحدّث ـ بإيجاز ـ عن فصول هذه المأساة الخالدة في دنيا الأحزان .
خطاب الإمام الحسين ()

ولمّا تهيّأت عساكر ابن سعد لحرب الإمام ، فرأى () من الواجب أن يعظهم ويرشدهم حتّى يكونوا على بصيرة من أمرهم ، فخطب فيهم خطاباً مؤثّراً ، وقد نشر كتاب الله العظيم ، واعتمّ بعمامة جدّه رسول الله () ، ولبس لامته ، فقال لهم : (( تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً ! حين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين(1) ، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم ، وحششتم(2) علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم ، فأصبحتم إلباً(3) لأعدائكم على أوليائكم , بغير عدل أفشوه فيكم , ولا أمل أصبح لكم فيهم .
مهلاً ـ لكم الويلات ! ـ تركتمونا والسيف مشيم(4) ، والجأش طامن ، والرأي لمّا يستحصف ، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدّبا(5) ، وتداعيتم إليها كتهافت الفراش .
ـــــــــــــــــــــ
(1) موجفين : أي مسرعين في السير إليكم .
(2) حششتم النار التي توقد .
(3) إلباً : أي مجتمعين .
(4) مشيم السيف : غمده .
(5) الدّبا : الجراد قبل أن يطير .
الصفحة (250)

فسحقاً لكم يا عبيد الاُمّة ، وشذاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ومحرّفي الكلم ، وعصبة الأثام ، ونفثة الشيطان ، ومطفئ السنن !
أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون ؟! أجل والله غدر فيكم قديم ، وشجت إليه اُصولكم , وتأزّرت(1) عليه فروعكم ، فكنتم أخبث شجر شجى للناظر , وأكلة للغاصب .
ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلّة(2) والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت وطهرت ، واُنوف حميّة , ونفوس أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام .
ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة مع قلّة العدد وخذلان الناصر )) . ثمّ أنشد أبيات فروة بن مسيك المرادي :
فـإن نُهزم فهزّامون قدماً وإن نُُـغلَب فـغيرُ مغَلّبينا
ومـا إن طِـبُّنا جبنٌ ولكن مـنايانا ودولـةُ آخـرينا
إذا ما الموتُ رفّع عن أُناس كـلاكـله أنـاخَ بـآخرينا
فـأفنى ذلكم سروات قومي كـما أفنى القرونَ الأوّلينا
فـلو خلدَ الملوكُ إذاً خلدنا ولـو بقي الكرامُ إذاًً بقينا
فـقل للشامتينَ بنا أفيقوا سيلقى الشامتونَ كما لقينا

(( أما والله لا تلبثون بعدها إلاّ كريث ما يُركب الفرس حتّى يدور
ـــــــــــــــــــــ
(1) تأزّرت : أي نبتت عليه فروعكم .
(2) السلّة : استلال السيوف .
الصفحة (251)

بكم دور الرحى ، وتقلق بكم قلق المحور ؛ عهد عهده إليّ أبي عن جدّي ، (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ) , (إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) )) .
ورفع يديه بالدعاء على اُولئك السفكة المجرمين قائلاً : (( اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسِنيِّ يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسومهم كاساً مصبرةً ؛ فإنّهم كذّبونا وخذلونا ، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ))(1) .
لقد انفجر أبو الأحرار في خطابه كالبركان ، وأبدى من صلابة العزم وعزّة النفس ما لم يشاهد مثله ؛ فقد استهان بالموت ، ولا يخضع لاُولئك الأقزام الذين سوّدوا وجه التأريخ ، وكانوا سوءة عار لمجتمعهم .
استجابة الحرّ

واستيقظ ضمير الحرّ حينما سمع خطاب الإمام () , وجعل يتأمّل ويفكّر في مصيره ، وأنّه لا محالة يصير إلى النار خالداً فيها ، واختار الدار الآخرة والالتحاق بآل النبي () .

وقبل أن يتوجّه إلى الإمام الحسين () أسرع نحو ابن سعد فقال له : أمقاتل أنت هذا الرجل ؟
فأجابه بلا تردد ليظهر أمام قادة الفرق إخلاصه لسيّده ابن مرجانة قائلاً : إي والله ، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي .
فقال له الحرّ برنّة المستريب :
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ ابن عساكر 13 / 74 ـ 75 .
الصفحة (252)

أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضاً ؟

فأجابه ابن سعد : لو كان الأمر لي لفعلت ، ولكن أميرك أبى ذلك .

وأيقن الحرّ أنّ القوم مصمّمون على حرب ابن رسول الله () ، فمضى يشقّ الصفوف وقد سرت الرعدة بأوصاله , فأنكر عليه ذلك المهاجر بن أوس ، وهو من شرطة ابن زياد , فقال له : والله إنّ أمرك لمريب ! والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل ما أراه الآن ، ولو قيل لي : مَن أشجع أهل الكوفة ؟ لما عدوتك .
وكشف له الحرّ عن عزمه فقال له : إنّي والله اُخيّر نفسي بين الجنّة والنار ، ولا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعت واُحرقت . ولوى بعنان فرسه صوب الإمام ()(1) ، وهو مُطرق برأسه إلى الأرض حياءً وندماً على ما فرّط في حقّ الإمام ، ولمّا دنا منه رفع صوته قائلاً : اللّهمّ إليك اُنيب ؛ فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك . يا أبا عبد الله ، إنّي تائب فهل لي من توبة ؟
ونزل عن فرسه ووقف قبال الإمام () ودموعه تتبلور على سحنات وجهه قائلاً : جعلني الله فداك يابن رسول الله !أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وجعجعت بك في هذا المكان ، ووالله الذي لا إله إلاّ هو ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً ، فقلت في نفسي : لا اُبالي أن اُطيع القوم في بعض أمرهم ، ولا يرون أنّي خرجت من طاعتهم ,
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 6 / 244 .

وأمّا هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه ، ووالله لو ظننت أنّهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك . وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي ، مواسياً لك بنفسي حتّى أموت بين يديك ، أفترى لي توبة ؟
واستبشر به الإمام () ، ومنحه الرضا والعفو ، وقال له : (( نعم ، يتوب الله عليك ويغفر ))(1) .
وانطلق الحرّ بعد أن منحه الإمام () العفو وقبل توبته ، فخطب في أهل الكوفة ودعاهم إلى التوبة ، ونُغَب عليهم حصارهم للإمام ، ومنعه مع أهل بيته وأصحابه عن ماء الفرات الذي هو حقّ مشاع للجميع ، ولم يستجيبوا له ، ورموه بالنبال .
الحرب

وارتبك ابن سعد من التحاق الحرّ بالإمام () ، وخاف أن يحصل التمرّد في جيشه ، فزحف الباغي الأثيم نحو معسكر الحسين () , وأخذ سهماً فأطلقه صوب الإمام ، وقد رفع صوته قائلاً : اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل مَنْ رمى الحسين .
وفتح ابن سعد من السهم الذي أطلقه باب الحرب ، وطلب من الجيش أن يشهدوا له عند سيّده ابن مرجانة بأنّه أوّل مَنْ رمى معسكر ابن رسول الله () .
وتتابعت السهام كأنّها المطر على معسكر الإمام الحسين () ، فلم يبقَ أحد منهم إلاّ أصابه سهم ، فالتفت الإمام إلى أصحابه قائلاً : (( قوموا يا كرام ، فهذه رسل القوم إليكم )) .
وتقدّمت طلائع الحقّ من أصحاب أبي الأحرار إلى ساحة الشرف والمجد وهي تعلن ولاءها للإسلام ، وتفانيها في الذبّ عن إمام المسلمين وسيّد شباب أهل
ـــــــــــــــــــــ
(1) الكامل في التاريخ 3 / 289 .
الصفحة (254)

الجنّة ، وبذلك بدأت المعركة واحتدم القتال كأشدّه وأعنفه .
ومن المقطوع به أنّه لم تكن مثل المعركة في جميع الحروب التي جرت في الأرض ؛ فقد تقابل اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً مع عشرات الاُلوف ، وقد أبدى أصحاب الإمام من الشجاعة والبسالة ما يبهر العقول ويحيّر الألباب .
مصارع أصحاب الإمام ()

وشنّت قوات ابن سعد هجوماً عاماً وعنيفاً على أصحاب الإمام () , وخاضوا معهم معركة رهيبة ، وقد ثبت لهم أصحاب الإمام () , فهزموا جموعهم بقلوب أقوى من الحديد ، وأنزلوا بهم أفدح الخسائر ، وقد استشهد في هذه الحملة نصف أصحاب الإمام () .

ثمّ بدأت بعد ذلك المبارزة بين العسكرين ، فكان الرجل من أصحاب الإمام يبرز ويُقاتل ثمّ يُقتل ، وهكذا حتّى فنوا عن آخرهم ، وقد أبلوا في المعركة بلاءً يقصر عنه كلّ وصف وإطراء ؛ فقد خاضوا تلك المعركة الرهيبة ولم تضعف لأيّ رجل منهم عزيمة ولم تلن لهم قناة ، وقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الأعلى وهي أنضر ما تكون تفانياً في مرضاة الله تعالى وطاعته .

وإنّ أعطر ما نقدّمه لهم من تحية كلمات الإمام الصادق () عملاق الفكر الإسلامي في حقّهم , قال مخاطباً لهم : (( بأبي أنتم واُمّي ! طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم ، وفزتم فوزاً عظيماً )) .
مصارع أهل البيت (عليهم السّلام)

وبعدما نالت الشهادة الصفوة الطاهرة من أصحاب الإمام () هبّ أبناء الاُسرة النبويّة شباباً وأطفالاً إلى التضحية والفداء ، فكانوا كالليوث وكالصاعقة على جيوش الكفر والضلال ، وأخذ بعضهم يودّع البعض الآخر وهم يذرفون الدموع على وحدة سيّدهم أبي الأحرار ؛ حيث يرونه وحيداً قد أحاطت به من كلّ جانب جيوش الاُمويِّين
الصفحة (255)

ليتقرّبوا بقتله إلى ابن مرجانة ، وفي طليعة الذين استشهدوا من آل البيت (عليهم السّلام) :
عليّ الأكبر ()

وكان عليّ الأكبر شبيه جدّه رسول الله () في ملامحه وفي أخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيّين ، وكانت الاُسرة النبويّة والصحابة إذا اشتاقوا إلى رؤية رسول الله () نظروا إلى وجه عليّ الأكبر ، وكان دنيا من الفضائل والمواهب والعبقريات ؛ فقد تسلّح بكلّ فضيلة وأدب ، وكان أعزّ أبناء الإمام الحسين () لعمّته العقيلة وسائر بني عمومته وأعمامه .

وهو أوّل هاشمي اندفع بحماس بالغ إلى الحرب ، وكان عمره الشريف ثماني عشر سنة(1) ، وقد وقف أمام أبيه طالباً منه الرخصة لمناجزة أعداء الله ، فلمّا رآه الإمام () ذابت نفسه أسى وحسرات ، وأشرف على الاحتضار ؛ فقد رأى فلذة كبده قد ساق نفسه إلى الموت ، فرفع الإمام شيبته الكريمة نحو السماء ، وهو يقول بنبرات قد لفظ فيها شظايا قلبه : (( اللّهمّ اشهد على هؤلاء القوم , فقد برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك محمّد () خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً ، وكنّا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه . اللّهمّ امنعهم بركات الأرض ، وفرّقهم تفريقاً ، ومزّقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا ترضي الولاة عنهم أبداً ؛ فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يقاتلوننا )) .
والتفت الإمام () إلى المجرم الأثيم عمر بن سعد عبد ابن مرجانة ، فصاح به : (( ما لك ؟! قطع الله رحمك , ولا بارك لك في أمرك ، وسلّط عليك مَنْ يذبحك بعدي على فراشك كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله () )) . وتلا قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 244 .
الصفحة (256)

وشيّع الإمام () ولده بدموع مشفوعة بالأسى والحزن ، وخلفه عمّته العقيلة وسائر عقائل الوحي ، وقد علا منهم الصراخ والعويل على شبيه رسول الله () .
وانطلق فخر هاشم إلى ساحة الحرب وقد امتلأ قلبه حزماً وعزماً ، ووجهه الشريف يتألق نوراً ؛ فقد حكى بهيبته هيبة جدّه رسول الله () ، وبشجاعته شجاعة جدّه الإمام أمير المؤمنين () ، وتوسّط حراب الأعداء وسيوفهم وهو يرتجز قائلاً :
أنا عليُّ بنُ الحسين بنِ علي نحن وربُّ البيت أولى بالنبي
تالله لا يحكم فينا ابنُ الدعي

أنت يا شرف هذه الاُمّة أولى بالنبي وأحق بمقامه من هؤلاء الأدعياء الذين سلّطتهم عليكم الطغمة الحاكمة من قريش التي أبت أن تجتمع الخلافة والنبوّة فيكم .
والتحم عليّ الأكبر () مع أعداء الله ، وقد ملأ قلوبهم خوفاً ورعباً , وأبدى من البسالة والشجاعة ما يقصر عنه كلّ وصف ؛ فقد ذكّرهم ببطولات جدّه الإمام أمير المؤمنين () ، ومحطّم أوثان القرشيّين ، وقد قتل مئة وعشرين فارساً(1) سوى المجروحين ، وألحّ عليه العطش وأضرّ به ، فقفل راجعاً إلى أبيه يشكو ظمأه القاتل قائلاً : يا أبتِ ، العطش قد قتلني ، وثقل الحديد قد أجهدني ، فهل إليّ شربة ماء من سبيل أتقوى بها على الأعداء ؟

والتاع الإمام () ، فقال له بصوت خافت ، وعيناه تفيضان دموعاً : (( واغوثاه ! ما أسرع الملتقى بجدّك فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبداً )) .
وأخذ لسانه فمصّه ليريه شدّة عطشه , فكان كشقّة مبرد من شدّة العطش .
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 246 .
الصفحة (257)

يقول الحجّة الشيخ عبد الحسين صادق في رائعته :
يـشـكو لـخـيرِ أبٍ ظمـأه وما اشتكى ظمـأ الحشا إلاّ إلى الظامي الصدي
كــلٌّ حـشـاشته كـصـاليةِ الـغضا ولـسـانُـه ظـمـأ كـشـقةِ مـبـردِ
فـانـصاعَ يـؤثـرهُ عـلـيهِ بـريقهِ لــو كــانَ ثـمةَ ريـقه لـم يـجمدِ
لقد كان هذا المنظر الرهيب لعليّ الأكبر من أفجع وأقسى ما رُزئ به أبو الأحرار ؛ فقد رأى ولده الذي هو من أنبل وأشرف ما خلق الله ، وهو في غضارة العمر وريعان الشباب قد أشرف على الهلاك من شدّة العطش ، وهو لم يستطع أن يسعفه بجرعة ماء ليروي عطشه .
وقفل فخر الإسلام عليّ الأكبر () راجعاً إلى حومة الحرب ، قد فتكت الجراح بجسمه ، وفتّت العطش فؤاده ، وجعل يُقاتل كأشدّ ما يكون القتال وأعنفه حتّى ضجّ العسكر من كثرة مَنْ قتل منهم .

ولمّا رأى ذلك الوضر الخبيث مرّة بن منقذ العبدي قال : عليَّ آثام العرب إن لم أثكل أباه . وأسرع الخبيث الدنس إلى شبيه رسول الله () فطعنه بالرمح في ظهره , وضربه ضربة منكرة على رأسه ففلق هامته ، واعتنق فرسه يظنّ أنّه يرجعه إلى أبيه , إلاّ أنّ الفرس حمله إلى معسكر الأعداء فأحاطوا به من كلّ جانب , ومزّقوا جسده الشريف بالسيوف ، ونادى فخر هاشم ومجد عدنان رافعاً صوته : عليك منّي السّلام أبا عبد الله ، هذا جدّي رسول الله () قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها أبداً ، وهو يقول : (( إنّ لك كأساً مذخورة )) .
وحمل الأثير هذه الكلمات إلى أبيه الثاكل الحزين فقطّعت قلبه , ومزّقت أحشاءه ، ففزع إليه وهو خائر القوى , منهدّ الركن ، فانكب عليه فوضع خدّه على خدّه وهو جثة هامدة , قد قطّعت شلوه السيف إرباً إرباً ، وأخذ الإمام () يذرف أحرّ الدموع على ولده الذي لا يشابهه أحد في كمال فضله ، وجعل يلفظ شظايا قلبه
الصفحة (258)

بهذه الكلمات : (( قتل الله قوماً قتلوك يا بُني ، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول ! على الدنيا بعدك العفا ))(1) .
وما كاد الخبر يبلغ الخيام حتّى هرعت حفيدة الرسول () زينب من خدرها ، وكان ذلك أوّل ما خرجت إلى المعركة فأكبت بنفسها على ابن أخيها الذي كان أعزّ ما عندها من أبنائها , وجعلت تضمّخه بدموعها وقد انهارت قواها ، وانبرى إليها الإمام () وجعل يعزّيها بمصابها الأليم ، وهو يردّد هذه الكلمات : (( على الدنيا بعدك العفا )) .
وأخذ الإمام () بيد اُخته وردّها إلى الفسطاط ، وأمر فتيانه بحمل ولده إلى الفسطاط .
لقد كان علي بن الحسين () الرائد والزعيم لكلّ حرّ شريف مات أبيّاً على الضيم في دنيا الإباء ، فسلام الله عليه غادية ورائحة , ونودعه بالأسى والحزن ، ونردّد كلمات أبيه : (( على الدنيا بعدك العفا )) .
مصارع آل البيت (عليهم السّلام)

وبرزت الفتية من آل الرسول () وهي تذرف الدموع على وحدة سيّدهم أبي الأحرار ، وكان من بينهم القاسم بن الحسن ، وكان كالقمر في بهائه وجماله , وقد ربّاه عمّه وغذّاه بمواهبه وآدابه ، وأفرغ عليه أشعة من روحه حتّى صار صورة عنه ، وكان أحبّ إليه من أبناء إخوته وأعمامه .

وكان القاسم يتطلّع إلى محنة عمّه ، وينظر إلى جيوش الكفر قد أحاطت به وقد ذابت نفسه أسىً وحسرات ، وجعل يردد :
ـــــــــــــــــــــ
(1) العفا : التراب .


يتبع












عرض البوم صور الشيخ عباس محمد   رد مع اقتباس
قديم 02-08-2015, 11:28 PM   المشاركة رقم: 3
معلومات العضو
الشيخ عباس محمد

إحصائية العضو







 
 


التوقيت

التواجد والإتصالات
الشيخ عباس محمد غير متواجد حالياً

كاتب الموضوع : الشيخ عباس محمد المنتدى : منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
افتراضي

لا يُقتل عمّي وأنا أنظر إليه(1) .
واندفع بلهفة نحو عمّه يطلب منه الإذن ليكون فداءً له ، فاعتنقه عمّه وعيناه تفيضان دموعاً ، وجعل القاسم يُقبّل يديه طالباً منه الإذن ، فسمح له بعد إلحاحه وترجّيه ، وبرز القاسم إلى حومة الحرب وهو بشوق عارم إلى الشهادة ، ولم يضف على جسده لامة الحرب ، وإنّما صحب معه سيفه .

والتحم مع اُولئك القرود , فجعل يحصد رؤوسهم بسيفه ، وبينما هو يُقاتل إذ انقطع شسع نعله , فأنف سليل النبوّة أن تكون أحد رجليه بلا نعل , فوقف يشدّه متحدّياً الوحوش الكاسرة التي لا تساوي نعله ، واغتنم هذه الفرصة الوغد الخبيث عمرو بن سعد الأزدي ، فقال : والله لأشدنَّ عليه .

فأنكر عليه حميد بن مسلم وقال له : سبحان الله ! وما تريد بذلك ؟! يكفيك هؤلاء القوم الذين ما يبقون على أحد منهم . فلم يعن به ، وشدّ الخبيث عليه فعلاه بالسيف على رأسه الشريف ، فهوى الفتى إلى الأرض صريعاً كما تهوي النجوم , ونادى رافعاً صوته : يا عمّاه !
وذاب قلب الإمام () وأسرع إليه , فعمد إلى القاتل الأثيم فضربه بالسيف فاتّقاها بساعده فقطعها من المرفق وطرحه أرضاً ، فحملت خيل أهل الكوفة لاستنقاذه , إلاّ أنّه هلك تحت حوافرها .

وانعطف الإمام نحو ابن أخيه فجعل يقبّله والفتى يفحص بيديه ورجليه ، وهو يعاني آلام الاحتضار , فخاطبه الإمام () : (( بُعداً لقوم قتلوك ، ومَنْ خصمهم يوم القيامة فيك جدّك ! عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك صوته . والله هذا يوم كثر واتره ، وقلّ ناصره )) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 255 .
الصفحة (260)

وحمله الإمام والفتى يفحص برجليه كالطير المذبوح(1) , وجاء به فألقاه بجوار ولده عليّ الأكبر وسائر الشهداء من أهل البيت (عليهم السّلام) ، وأخذ يطيل النظر إليهم , وجعل يدعو على السفكة المجرمين قائلاً : (( اللّهمّ أحصهم عدداً ، ولا تغادر منهم أحداً ، ولا تغفر لهم أبداً . صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً )) .
وكلّ هذه المناظر المفجعة التي تميد بالصبر وتعصف كانت بمرأى من عقيلة بني هاشم (عليها السّلام) ، فكانت تستقبل في كلّ لحظة فتى من الاُسرة النبويّة وهو مضرّج بدمائه ، لها الله ولأخيها على هذه الرزايا التي تميد من هولها الجبال .
مصرع عون ()

وبرز إلى حومة الحرب عون بن عبد الله بن جعفر ، واُمه الصدّيقة الطاهرة زينب بنت أمير المؤمنين (عليها السّلام) ، فجعل يُقاتل على صغر سنه قتال الأبطال وهو يرتجز :
إن تـنكروني فأنا ابنُ جعفرْ شهيدِ صدقٍ في الجنانِ أزهرْ
يـطيرُ فـيها بجناحٍ أخضرْ كـفى بهذا شرفاً من معشرْ

أنت أيّها الشهم حفيد الشهيد الخالد جعفر الطيار الذي قُطعت يداه في سبيل الدعوة الإسلاميّة ، فأبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الفردوس الأعلى .
وجعل الفتى يُقاتل قتال الأبطال , فحمل عليه الوغد الأثيم عبد الله بن قطبة الطائي فقتله , وحُمل إلى المخيّم فاستقبلته اُمّه الصدّيقة الطاهرة ، ونظرت إليه وهو جثة هامدة فاحتسبته عند الله .
وحلّ بعده أبناء الاُسرة الهاشمية فاستشهدوا جميعاً قرابين للإسلام ، وفداءً لريحانة رسول الله () .
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 256 .
مصرع أبي الفضل ()

وكان أبو الفضل العباس () من أحبّ الناس وأخلصهم للإمام الحسين () , فقد ربّاه وغذّاه بمكارم أخلاقه ومحاسن صفاته ، وعلّمه أحكام الدين حتّى صار من أفاضل العلماء . وكان ملازماً لأخيه في حلّه وترحاله ، وواساه في أقسى المحن والخطوب ، وكانت أُخوّته لأبي عبد الله مضرب المثل عند جميع الناس .

وكانت أسارير النور بادية على وجهه الكريم حتّى لُقّب بقمر بني هاشم ، وكان من الأبطال البارزين في الإسلام ، فكان إذا ركب الفرس المطهّم تخطّان رجلاه في الأرض ، وقد أسند إليه الإمام الحسين () يوم الطفّ قيادة جيشه ودفع إليه رايته .

وكان أبو الفضل هو المتعهّد لرعاية الصدّيقة سيدة النساء زينب (عليها السّلام) ، وقد احتلّ قلبها فكانت تكنّ له أعمق الودّ والولاء . ولمّا رأى قمر بني هاشم وحدة أخيه وقتل أصحابه وأهل بيته الذين قدّموا أرواحهم قرابين للإسلام انبرى يطلب الرخصة من أخيه ليلاقي مصيره المشرق ، فقال له الإمام () بصوت خافت : (( أنت صاحب لوائي )) .
لقد كان الإمام يشعر بالقوّة والمنعة ما دام أبو الفضل حيّاً , وألحّ عليه أبو الفضل قائلاً : لقد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين ، واُريد أن آخذ ثأري منهم .
وطلب منه الإمام () أن يسعى لتحصيل الماء إلى الأطفال الذين صرعهم العطش ، فانعطف فخر بني هاشم نحو اُولئك الأنذال فجعل يعظهم ويطلب منهم أن يرفعوا الحصار عن الماء ؛ فقد أشرفت عائلة آل رسول الله () على الموت .

فأجابه الرجس الأثيم شمر بن ذي الجوشن قائلاً :
الصفحة (262)

يابن أبي تراب ، لو كان وجه الأرض كلّه ماءً وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد .
وقفل أبو الفضل راجعاً إلى أخيه فأخبره بعتوّ القوم وإجماعهم على حرمان أهل البيت (عليهم السّلام) من الماء ، وسمع الأبيّ الشهم صراخ الأطفال وهم ينادون : العطش ، العطش ! الماء ، الماء !
وذاب قلب أبي الفضل حينما رأى الأطفال قد ذبلت شفاههم وأشرفوا على الهلاك ، فسرى الألم العاصف في محيّاه , واندفع ببسالة لإغاثتهم ، فركب جواده وأخذ معه القربة ، فاقتحم الفرات غير حافل بالقوى المكثفة التي تقدّر بأربعة آلاف جندي مسلّح قد احتلّوا حوض الفرات , فانهزموا من بين يديه ؛ فقد ذكّرهم ببطولات أبيه فاتح خيبر ومحطّم أوثان القرشيّين .

وانتهى إلى الماء وكان قلبه الشريف قد تفتّت من العطش , فاغترف من الماء ليشرب منه إلاّ أنّه تذكّر عطش أخيه ومَنْ معه من النساء والأطفال , فرمى الماء من يده ، فامتنع أن يروي غليله من الماء .

وقد سجّل بذلك شرفاً للعلويّين تردّده الأجيال مقروناً بالإكبار والتعظيم لهذه الأُخوّة النادرة التي لم يحدّث التأريخ بمثلها . لقد رمى أبو الفضل الماء من يده وهو يقول :
يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني وبـعدهُ لا كـنتِ أن تكوني
هـذا الـحسينُ واردُ المنونِ وتـشـربينَ بـاردَ الـمعينِ
تالله مـا هـذا فـعالُ ديـني
إنّ الإنسانيّة بكلّ إجلال وإكبار لتحيّي هذه الروح العظيمة التي تألّقت في دنيا الإسلام وهي تلقي على الأجيال أسمى أمثلة للكرامة الإنسانيّة . أي إيثار أنبل من هذا الإيثار ؟ أيّ اُخوّة أسمى من هذه الاُخوّة ؟
الصفحة (263)

واتّجه فخر هاشم بعد أن ملأ القربة نحو المخيّم والتحم مع الأرجاس ؛ فقد أحاطوا به من كلّ جانب ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى أهل البيت (عليهم السّلام) ، وقد أشاع فيهم بطل الإسلام القتل وهو يرتجز :
لا أرهـب الموتَ إذا الموتُ زقا حـتى أوارى في المصاليتِ لقى
نفسي لسبطِ المصطفى الطهرِ وقى إنّـي أنـا الـعباس أغدوا بالسقا
ولا أخـاف الـشرَّ يـوم الملتقى

لقد أعلن قمر الهاشميّين عن بطولاته النادرة , فهو لا يرهب الموت ، ويسخر من الحياة دفاعاً عن الحقّ , ودفاعاً عن إمام المسلمين وريحانة الرسول () .
وانهزمت جيوش الاُمويِّين أمامه ، ولكن الوضر الجبان زيد بن الرقّاد الجهني كمن له من وراء نخلة , ولم يستقبله بوجهه , فضربه على يده فقطعها ، فلم يحفل بها أبو الفضل وراح يرتجز :
واللهِ إن قـطعتمُ يميني إنّي اُحامي أبداً عن ديني
وعـن إمامٍ صادقِ اليقينِ نجلِ النبيّ الطاهرِ الأمينِ

ودلّل بهذا الرجز عن الأهداف العظيمة التي ناضل من أجلها وهي الدفاع عن الدين ، والدفاع عن إمام المسلمين وريحانة رسول الله () ، ولم يبعد قمر بني هاشم وفخر عدنان حتّى كمن له من وراء نخلة رجس من أرجاس المجرمين ، وهو الحكيم بن الطفيل الطائي , فضربه على يساره فبراها ، وحمل الشهم النبيل القربة بأسنانه ، وجعل يركض بالماء إلى عطاشى آل النبي غير حافل بما كان يعانيه من نزف الدماء وآلام الجروح وشدّة الظمأ .

وهذا منتهى ما وصلت إليه الإنسانيّة في جميع أدوارها من الرحمة والحنان والوفاء ، وبينما هو يركض إذ أصاب القربة سهم غادر فاُريق ماؤها , ووقف البطل حزيناً ؛ فقد كان إراقة الماء أشدّ عليه من ضرب السيوف وطعن الرماح .
الصفحة (264)

وشدّ عليه رجس فعلاه بعمود من حديد على هامة رأسه ففلق هامته فهوى إلى الأرض ، وهو يؤدي تحيّته ووداعه الأخير إلى أخيه قائلاً : عليك منّي السّلام أبا عبد الله .
وحمل الأثير كلماته إلى أخيه فمزّقت أحشاءه ، وانطلق وهو خائر القوى ، منهدّ الركن حتّى انتهى إلى أخيه وهو يعاني آلام الاحتضار ، فألقى بنفسه عليه وجعل يوسعه تقبيلاً قائلاً : (( الآن انكسر ظهري ، وقلّت حيلتي )) .
وجعل أبو الأحرار يطيل النظر في أخيه وهو شاحب اللون وتمثّلت أمامه مُثل أبي الفضل التي لا ندّ لها في جميع مراحل التأريخ ؛ فليس هناك اُخوّة تضارع اُخوّة أبي الفضل لأخيه أبي الأحرار ؛ فقد أبدى من الوفاء والولاء لأخيه ما يفوق حدّ الوصف . وقام الثاكل الحزين عن أخيه بعد ما فارقته الحياة وهو لا يتمكّن أن يقلّ قدميه من الأسى والحزن , وقد بان عليه الانكسار ، واتّجه صوب المخيّم وهو يكفكف دموعه , فاستقبلته سكينة بلهفة قائلة : أين عمي ؟
فأجابها بنبرات مشفوعة بالبكاء والعبرات بشهادته ، وذعرت حفيدة الرسول سيدة النساء زينب (عليها السّلام) ، فوضعت يدها على قلبها الذي مزّقته كوارث كربلاء ، وصاحت : وا أخاه ! وا عباساه ! وا ضيعتنا بعدك !
وشارك الإمام () شقيقته في النياحة على أخيه ، ورفع صوته : (( وا ضيعتنا بعدك يا أبا الفضل ! )) . لقد شعر الإمام وشقيقته بالضياع والغربة بعد أن فقد أبا الفضل ، وكانت هذه الكارثة من أفجع الكوارث التي رُزئت بها حفيدة الرسول .


فسلام عليك يا أبا الفضل يوم ولدت ، ويوم استشهدت ، ويوم تبعث حيّاً .
مصرع الرضيع ()

ومن الفجائع التي مُنيت بها سيدة النساء مصرع الرضيع ؛ فقد اُغمي عليه من شدّة الظمأ ، فجاءت به اُمّه إلى السيّدة زينب مستجيرة بها , وعرضته على أخيها فأخذه وجعل يوسعه تقبيلاً ، وقد غارت عيناه وذبلت شفتاه من شدّة العطش ، فحمله الإمام () إلى الجيش الاُموي لعلّهم يسقونه جرعة من الماء ، فلم ترقَّ قلوب اُولئك الممسوخين ، وانبرى إليه الرجس الخبيث حرملة بن كاهل ، فسدّد له سهماً وجعل يفتخر أمام أصحابه قائلاً : خذ هذا فاسقه .
واخترق السهم ـ يالله ـ رقبة الطفل ، فلمّا أحسَّ بحرارة السهم أخرج يديه من القماط ، وجعل يُرفرف على صدر أبيه كالطير المذبوح ، وانحنى رافعاً رأسه إلى السماء فمات على ذراع أبيه .

أيّ صبر كان صبر أبي عبد الله ! كيف استطاع أن يتحمّل هذه الرزايا والكوارث التي تميد من هولها الجبال ؟!
والتفت الإمام إلى شقيقته فناولها ولده المذبوح(1) ، ورفع الإمام () يديه وكانتا مملوءتين من دم طفله , فرمى به إلى السماء وقال : (( هوّن ما نزل بي إنّه بعين الله )) . ولم تسقط من ذلك الدم الطاهر قطرة واحدة إلى الأرض كما روى ذلك الإمام الباقر () .
الفاجعة الكبرى

ووقف أبو الأحرار في الميدان وقد أحاطت به جيوش الاُمويِّين , وهو ثابت الجنان ,
ـــــــــــــــــــــ
(1) اللهوف / 50 .
الصفحة (266)

لم يوهن عزيمته مصارع أصحابه وأهل بيته , وكان كالطود الشامخ ، وقد روى الإمام زين العابدين () صمود أبيه قال : (( كان كلّما يشتدّ الأمر يشرق لونه ، وتطمئن جوارحه )) .

فقال بعضهم : انظروا كيف لا يُبالي بالموت ! وقال عبد الله بن عمّار : فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده وأصحابه أربط جأشاً منه ، ولا أمضى جناناً منه ! ووالله ما رأيت قبله ولا بعده مثله(1) .
وحمل أبيّ الضيم على أرجاس البشرية فجعل يُقاتلهم أعنف قتال وأشدّه ، وحمل على الميمنة وهو يرتجز :
القتل أولى من ركوبِ العارِ والعارُ أولى من دخولِ النارِ

وحمل على الميسرة وهو يرتجز :
أنـا الحسين بن علي آلـيـت أن لا أنـثني
أحـمي عـيالات أبي أمضي على دين النبي

أجل أنت الحسين () ، وأنت ملأت فم الدنيا شرفاً ومجداً ، فلم تُشاهد اُمم العالم وشعوب الأرض مثلك يا مفخرة الإسلام ؛ فقد صمدت أمام الأهوال والكوارث التي لا يطيق حملها أيّ مصلح على وجه الأرض ، وقد مضيت على دين جدّك الرسول مُجدداً له ، ولولاك لما أبقى الاُمويّون والقرشيون أيّ ظلّ لدين الله .
وداعه لعقائل الوحي

ومضى الحسين () يودّع عقائل النبوّة ، وسيّدات نساء الدنيا ، ويأمرهنَّ بالخلود إلى الصبر ، ونظر إلى شقيقته زينب وهي غارقة بالدموع فعزّاها وأمرها بالصبر ، وأن
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ ابن كثير 8 / 188 .
الصفحة (267)

تقوم برعاية أطفاله ، ولمّا أراد الخروج أحطنَ به السيدات ليتزوّدن منه ، وهنّ يذرفن أحرّ الدموع ، والتفت الإمام زين العابدين () إلى عمّته زينب ، فقال لها : (( عليَّ بالعصا والسيف )) .
ـ ما تصنع بهما ؟
ـ (( أمّا العصا فأتوكّأ عليها ، وأمّا السيف فأذبّ به عن ابن رسول الله )) . وكانت الأمراض قد ألّمت به , فنهاه الإمام الحسين () وأمسكته عمّته زينب .
وأمر الإمام () حرم الرسالة بلبس الاُزر ، والاستعداد للبلاء ، والتسليم لقضاء الله ، وقال لهن : (( استعدوا للبلاء ، واعلموا أنّ الله تعالى حاميكم وحافظكم , وسينجيكم من شرّ الأعداء ، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ، ويعذّب عدوّكم بأنواع العذاب ، ويعوّضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة ، فلا تشكّوا ، ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم )) .
إنّه هذا الإيمان ، وهذا الصبر أجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش عليه . إنّ هذه الرزايا تتصدّع من هولها الجبال ، وتميد بحلم أيّ مصلح كان ، وقد تجرّعها أبيّ الضيم من أجل رفع كلمة التوحيد التي جهدت الاُسر القرشيّة على إطفاء نورها .
مناجاته مع الله

واتّجه الإمام العظيم في تلك اللحظات الحاسمة من حياته إلى الله تعالى ، فأخذ يناجيه ويتضرّع إليه ، ويشكو إليه ما ألمّ به من الخطوب قائلاً : (( صبراً على قضائك يا رب ، لا إله سواك ، يا غياث المستغيثين ما لي ربّ سواك ، ولا معبود غيرك ، صبراً على حكمك . يا غياث مَنْ لا غياث له ، يا دائماً
الصفحة (268)

لا نفاد له ، يا محيي الموتى ، يا قائماً على كلّ نفس ، احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين ))(1) .
أرأيتم هذا الإيمان الذي تفاعل مع شعور الإمام وعواطفه ؟ فقد صبر على قضائه ، وفوّض إليه جميع ما نزل به من الخطوب . يقول الدكتور الشيح أحمد الوائلي :
يا أبا الطفّ و ازدهى بالضحايا مـن أديمِ الطفوفِ روضخميلُ
نـخبةٌ مـن صـحابةٍ و شقيقٌ و رضـيـعٌ مـطوّقٌ وشـبولُ
والـشبابُ الفتيان جفّ ففاضت طـلعةٌ حـلوةٌ ووجـهٌٍ جـميلُ
و تـوغلتَ تـستبينَ الـضحايا وزواكـي الـدماءِ مـنها تسيلُ
و مـشت في شفاهكَ الغرِّ نجوى نـمَّ عـنها الـتحميدُ والـتهليلُ
لكَ عتبي يا ربّ إن كانَ يرضيـ ـك فهـذا إلــى رضـاكَ قـليلُ
الهجوم عليه

وهجمت على سبط رسول الله () العصابة المجرمة التي تحمل رجس الأرض وخبث اللئام ، فحملوا عليه من كلّ جانب ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح .

ويقول بعض المؤرخين : إنّه لم يُضرب أحد في الإسلام كما ضُرب الحسين ؛ فقد وجد به مئة وعشرون جراحة , ما بين ضربة سيف , وطعنة رمح , ورمية سهم(2) .
ومكث أبو الأحرار مدّة من الزمن على وجه الأرض وقد فتكت الجراحات بجسمه ، وقد هابه الجميع ونكصوا من الإجهاز عليه .

يقول السيّد حيدر :
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 288 .
(2) الحدائق الوردية 1 / 126 .
الصفحة (269)
فما أجلت الحربُ عن مثله صـريعاً يُـجبِّن شجعانَها
خروج العقيلة (عليها السّلام)

وخرجت حفيدة الرسول من خبائها وهي تندب أخاها بأشجى ما تكون الندبة ، وتقول بذوب روحها : ليت السماء وقعت على الأرض ! وصاحت بالخبيث الدنس عمر بن سعد قائلة : يا عمر ، أرضيت أن يُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ؟! فأشاح الخبيث بوجهه عنها ودموعه تسيل على لحيته المشؤومة(1) .
ولم تعد العقيلة الطاهرة تقوى على النظر إلى أخيها وهو بتلك الحالة , فانصرفت إلى خبائها لترعى المذاعير من النساء والأطفال .
الإجهاز على الإمام ()

أحاط أعداء الله بالإمام من كلّ جانب وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح ورمياً بالحجارة ، فصاح بهم : (( أعلى قتلي تجتمعون ؟! أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله . وأيم الله , إنّي لأرجو أن يُكرمني الله بهوانكم ثمّ ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون )) .
والتفت الخبيث عمر بن سعد إلى شبث بن ربعي فقال : انزل فجئني برأسه . فامتنع وقال : أنا بايعته ثمّ غدرت به ، ثمّ أنزل فأحتز رأسه ! لا والله لا أفعل ذلك . فأنكر ابن سعد كلامه وقال :
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 290 .
الصفحة (270)

إذاً أكتب إلى ابن زياد . ولم يعتن شبث بذلك ، وقال : اكتب له(1) .
وبادر المجرم الخبيث شمر بن ذي الجوشن , وكان من أعدى المجرمين على الإمام () , فاحتز رأسه الشريف كما في بعض الروايات(2) .
لقد استشهد الإمام العظيم من أجل أن يرفع كلمة الله في الأرض ويطيح بدولة الظلم والبغي التي أقامتها الأحقاد القرشيّة على الإسلام . لقد قدّم الإمام () روحه ثمناً للقرآن ، وثمناً لكلّ ما تسمو به الإنسانيّة من شرف وعزّ وإباء .
لقد رفع الإمام () راية الإسلام عالية خفّاقة وهي ملطّخة بدمه ودم الشهداء من أهل بيته وأصحابه الممجّدين ، وهي تضيء في رحاب الكون وتفتح الآفاق الكريمة لشعوب العالم واُمم الأرض .
العقيلة (عليها السّلام) أمام الجثمان المقدّس

وانبرت حفيدة الرسول () إلى جثمان أخيها ، وقد رأت ـ ويا لهول ما رأت ـ رأت الجثمان المقدّس وقد مزّقته سيوف البغاة ورماحهم ، وقد مُثِّل به كأفظع وأقسى ما يكون التمثيل ، لقد كان منظراً تلجم منه الألسن ، وتجمد منه الدماء ، وتهلع منه القلوب .

لقد وقفت العقيلة أمامه بجلال وحشمة وقد أحاط بها الأعداء ، فرمقت السماء بطرفها وقالت هذه الكلمات التي ارتسمت مع الفلك ثمّ دارت فيه ، وهي تشعّ بروح الإيمان والإخلاص إلى الله تعالى قائلة : اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان .
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 291 .
(2) مقتل الخوارزمي 2 / 36 ، وغيره .
الصفحة (271)

لقد رضيت بما عانته حفيدة الرسول () من أهوال هذه الكارثة التي تذوب من هولها الجبال ؛ لأنّها في ذات الله تعالى الذي هامت في الإنابة إليه .
لقد تجلّت معاني الوراثة النبويّة في سيدة النساء زينب (عليها السّلام) ، وبرزت في شخصيتها معالم شخصية جدّها الرسول () , ووصيّة أبيها الإمام أمير المؤمنين () .
حرق الخيام

وأوعزت القيادة العامة إلى الجند بحرق خيام آل النبي () , فحملوا أقبسة من النار وهم ينادون : احرقوا بيوت الظالمين(1) .
لقد كان بيت الإمام () ـ حسب ما يزعمون ـ بيت الظلم , وبيت ابن مرجانة وسيده يزيد حفيد أبي سفيان بيت العدل ! فيالله أمام هذا الظلم الذي لم يقع نظيره في تأريخ الاُمم والشعوب !
وتنصّ بعض المصادر إلى أنّ عمر بن سعد أمر بحرق الخيام بما فيها من النساء والأطفال ، وقد حاول الشمر ذلك , إلاّ أنّ شبث بن ربعي عذله ومنعه عن ذلك .
وعلى أيّ حال ، فحينما التهبت النار في خيم آل النبي فررن بنات الرسالة وعقائل الوحي من خباء إلى خباء ، أمّا اليتامى فقد علا صراخهم وتعلّق بعضهم بأذيال عمّته الحوراء لتحميه من النار ، وهام بعضهم على وجهه لا يلوي على شيء .
لقد كان ذلك المنظر من أفجع وأقسى ما مرّ على آل النبي () ، ولم يغب عن
ـــــــــــــــــــــ
(1) التاريخ المظفري / 228 .ذهن الإمام زين العابدين () طيلة المدّة التي عاشها بعد أبيه ، وكان يذكره مشفوعاً بالأسى والحزن ، وهو يقول : (( والله ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلاّ وخنقتني العبرة ، وتذكّرت فرارهنَّ يوم الطفّ من خيمة إلى خيمة , ومن خباء إلى خباء ، ومنادي القوم ينادي : احرقوا بيوت الظالمين )) .
سلب حرائر الوحي

وعمد أراذل أهل الكوفة ، وعبيد ابن مرجانة إلى سلب حرائر النبوّة وعقائل الوحي ؛ فسلبوا ما عليهنَّ من حلي وحلل ، وعمد بعض الأنذال إلى السيدة اُمّ كلثوم فسلب قرطيها ، وأسرع وغد خبيث نحو السيدة فاطمة بنت الحسين فانتزع خلخالها وهو يبكي ، فقالت له السيدة : ما لك تبكي ؟
ـ كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله () .
ولمّا رأت ذلك أنكرت عليه ، وطلبت منه أن لا يسلبها , فأجابها : أخاف أن يأخذه غيري(1) .
وعمد الأرجاس إلى نهب جميع ما في الخيام من ثقل ومتاع ، كما عمدوا إلى ضرب بنات رسول الله () بكعوب رماحهم وهنَّ يلذن بعضهنَّ ببعض من الرعب ، وقد سقطت السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين مغشياً عليها من شدّة الضرب ، فلمّا أفاقت رأت عمّتها السيدة اُمّ كلثوم تبكي عند رأسها(2) .
إنّ مأساة بنات الوحي وعقائل الرسالة تذوب من هولها الجبال .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مسير أعلام النبلاء 3 / 204 .
(2) حياة الإمام الحسين () 3 / 302 .
الصفحة (273)
إنقاذ العقيلة لزين العابدين ()

وهجم الفجرة الجفاة على الإمام زين العابدين () , وكان مريضاً قد أنهكته العلّة ، فأراد الخبيث الأبرص شمر بن ذي الجوشن قتله , فنهره حميد بن مسلم وقال له : سبحان الله ! أتقتل الصبيان ؟ إنّما هو مريض .
فلم يعنَ به الخبيث ، ورام قتل الإمام () إلاّ أنّ العقيلة سارعت نحوه فتعلّقت به ، وقالت : لا يُقتل حتّى اُقتل دونه(1) .
فكفّ اللئيم عنه ، ولولا السيدة زينب لمُحيت ذرّية أخيها الحسين () .
ليلة الحادي عشر

وأقسى ليلة مرّت على حفيدة الرسول () هي ليلة الحادي عشر من المحرّم ؛ فقد أحاطت بها جميع رزايا الدنيا ومصائب الأيام ؛ فقد تسلّحت بالصبر وقامت برعاية أيتام أخيها ؛ فقد سارعت تلتقط الأطفال الذين هاموا على وجوههم من الخوف ، وتجمّع العيال في تلك البيداء الموحشة وهي تسلّيهم وتصبّرهم على تحمل تلك الرزايا ، وأمامها الأشلاء الطاهرة قد تناثرت في البيداء , واُحرقت أخبيتها ، وقد أحاط بها أرجاس البشرية ووحوش الأرض .
العقيلة تؤدّي صلاة الشكر

وقامت العقيلة في تلك الليلة القاسية فأدّت صلاة الشكر لله تعالى على ما حلّ بها وبأهلها من الكوارث والخطوب ، طالبة من الله أن يتقبّل ما مُنيت به من الرزايا ، وأن
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ القرماني / 108 .
الصفحة (274)

يثيبها على ذلك , ويتقبّل ما جرى عليها وعلى أخيها من المصائب(1) . كما أدّت وردها من صلاة الليل ، وقد استولى عليها الضعف فأدّت الصلاة من جلوس(2) .
العقيلة (عليها السّلام) تندب أخاها

ونظرت حفيدة الرسول () إلى جثمان أخيها وهو مقطّع الأعضاء قد فُصل عنه الرأس الشريف ، فلم تملك نفسها , وصاحت بصوت يُذيب القلوب : يا محمّداه ! هذا حسين بالعراء ، مرمّل بالدماء ، مقطّع الأعضاء ، وبناتك سبايا ، وذرّيتك مقتّلة(3) .
ووجم القوم مبهوتين ، وفاضت دموعهم ، وبكى العدو والصديق(4) ؛ فقد استبان عظم الجريمة التي اقترفوها , وودّوا أنّ الأرض قد خاست بهم .
العقيلة (عليها السّلام) تخفّف لوعة زين العابدين ()

وجزع الإمام زين العابدين () كأشدّ ما يكون الجزع حينما رأى جثمان أبيه وجثت أهل بيته وأصحابه منبوذة بالعراء , لم ينبرِ أحد إلى مواراتها ، وبصرت به العقيلة وهو يجود بنفسه ، فقالت له : ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وإخوتي ؟ فوالله إنّ هذا لعهد من الله إلى جدّك وأبيك ، ولقد أخذ الله ميثاق اُناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معروفون في أهل السماوات ، إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المُقطّعة والجسوم
ـــــــــــــــــــــ
(1) زينب الكبرى / 62 .
(2) حياة الإمام الحسين () 3 / 309 .
(3) خطط المقريزي 2 / 280 ، البداية والنهاية 8 / 193 .
(4) جواهر المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب / 140 .
الصفحة (275)

المضرّجة فيوارونها ، وينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء , لا يُدرس أثره ، ولا يُمحى رسمه على كرور الليالي والأيام ، وليجهدنَّ أئمّة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد أثره إلى علوّاً(1) .
وأزالت سيّدة النساء ما ألمّ بابن أخيها من الحزن العميق ؛ فقد أحاطته علماً بما سمعته من جدّها وأبيها من قيام جماعة من المؤمنين بمواراة الجثث الطاهرة ، وسينصب لها علم لا يُمحى أثره حتّى يرث الله الأرض ومَنْ عليها . وقد جدّ الأقزام من ملوك الاُمويِّين وإخوانهم العباسيّين على محو تلك المراقد العظيمة فلم تزدد إلاّ علوّاً ، وبقيت شامخة على الدهر كأعزّ مرقد على وجه الأرض .
لقد مضت ذكرى أبي الأحرار تملأ الدنيا إشراقاً وفخراً كأسمى ذكرى تعتزّ بها الإنسانيّة في جميع أدوارها .
ـــــــــــــــــــــ
(1) كامل الزيارات / 221 . سبايا آل البيت (عليهم السّلام) في الكوفة

وحُملت عقائل النبوّة وحرائر الوحي سبايا إلى الكوفة ومعهنَّ الأيتام ، وقد ربطوا بالحبال , وحملوا على جمال بغير وطاء ، وقد عزفت أبواق الجيش وخفقت راياتهم ، وكان منظراً رهيباً تهلع منه القلوب .

وقد وصفه مسلم الجصّاص يقول : دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة , فبينما أُجصص الأبواب ، وإذا بالزعقات قد ارتفعت من جميع الكوفة ، فقلت لأحد خدام القصر : ما لي أرى الكوفة تضجّ ؟
ـ الساعة يأتون برأس خارجي خرج على يزيد .
ـ مَنْ هذا الخارجي ؟
ـ الحسين بن عليّ .
وكان هذا النبأ كالصاعقة على رأسه ؛ فقد أخذ يلطم على وجهه حتّى خشي على عينيه أن تذهبا ، وغسل يديه من الجص وخرج من القصر .

يقول : فبينما أنا واقف والناس يتوقّعون وصول السبايا والرؤوس إذ أقبل أربعون جملاً تحمل النساء والأطفال ، وإذا بعلي بن الحسين على بعير بغير غطاء , وأوداجه تشخب دماً ، وهو يبكي ويقول :
يا اُمةَ السوءِ لا سقياً لربعكمُ يـا اُمـةً لم تراعِ جدّنا فينا
لو أنّنا ورسول اللهِ يجمعنا يوم القيامة ما كنتم تقولونا
الصفحة (278)
تسيّرونا على الأقتابِ عاريةً كأنّنا لم نشيّد فيكمُ دينا(1)

وتحدّث حذيم بن شريك الأسدي عن ذلك المنظر المؤلم , [حيث] يقول : قدمت إلى الكوفة سنة (61هـ) عند مجيء علي بن الحسين من كربلاء إلى الكوفة ، ومعه النسوة وقد أحاطت بهم الجنود ، وقد خرج الناس ينظرون إليهم , وكانوا على جمال بغير غطاء ، فجعلت نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن , ورأيت عليّ بن الحسين قد أنهكته العلّة وفي عنقه الجامعة ، ويده مغلولة إلى عنقه ، وهو يقول بصوت ضعيف : (( إنّ هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا , فمَنْ قتلنا ؟! )) .
وانبرت إحدى السيدات , فسألت إحدى العلويات وقالت لها : من أيّ الأسارى أنتن ؟ فأجابتها العلوية : نحن اُسارى أهل البيت .
وكان هذا النبأ كالصاعقة عليها , فصرخت وصرخت اللاتي كنّ معها ، ودوّى صراخهن في أرجاء الكوفة ، وبادرت المرأة إلى بيتها فجمعت ما فيه من اُزر ومقانع فجعلت تناولها إلى العلويات ليتسترنَ بها عن أعين الناس ، كما بادرت سيدة اُخرى فجاءت بطعام وتمر ، وأخذت تلقيه على الصبية التي أضناها الجوع ، ونادت السيدة اُمّ كلثوم من خلف الركب : إنّ الصدقة حرام علينا أهل البيت(2) .
ولمّا سمعت الصبية التي تربّت بآداب أهل البيت مقالة عمّتهم رمى كلّ واحد ما في يده أو ما في فمه من الطعام ، وراح يقول لمَنْ معه : إنّ عمّتي تقول : الصدقة حرام علينا أهل البيت .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مقتل الحسين () ـ عبد الله نور الله ، (مخطوط) .
(2) حياة الإمام الحسين () 3 / 335 .



خطاب العقيلة زينب (عليها السّلام)

وحينما رأت حفيدة الرسول () زينب الجموع الزاخرة التي ملأت الشوارع والأزقة ، وقد أحاطت بها , اندفعت إلى الخطابة لبلورة الرأي العام ، وإظهار المصيبة الكبرى التي داهمت العالم الإسلامي بقتل ريحانة رسول الله () , وتحميل الكوفيّين مسؤولية هذه الجريمة النكراء ؛ فهم الذين نقضوا ما عاهدوا الله عليه من نصرة الإمام الحسين () والذبّ عنه ، ولكنّهم خسروا ذلك , وقتلوه ثمّ راحوا ينوحون ويبكون كأنّهم لم يقترفوا هذا الإثم العظيم .

وهذا نصّ خطابها : الحمد لله ، والصلاة على جدّي محمّد وآله الطيّبين الأخيار . أمّا بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل(1) والغدر ، أتبكون ؟! فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنّة ، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً ، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم . ألا وهل فيكم إلاّ الصلف والنطف ، والصدر الشيف ، وملق الإماء ، وغمز الأعداء , أو كمرعى على دمنة ، أو كفضّة على ملحودة ، ألا ساء ما قدّمتم لأنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون !
أتبكون وتنتحبون ؟! إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ؛ فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً ، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة ، ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهل الجنّة ، وملاذ خيرتكم ، ومفزع نازلتكم ، ومنار
ـــــــــــــــــــــ
(1) في نسخة : ( الغدر ) .
الصفحة (280)

حجّتكم ، ومدرة سنّتكم ؟! ألا ساء ما تزرون ، وبعداً لكم وسحقاً ! فلقد خاب السعي ، وتبّت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضُربت عليكم الذلّة والمسكنة .
ويلكم يا أهل الكوفة ! أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم , وأيّ كريمة له أبرزتم , وأيّ دم له سفكتم , وأيّ حرمة له انتهكتم ؟! لقد جئتم بها صلعاء عنقاء , سوداء فقماء ـ وفي بعضها : خرقاء شوهاء ـ كطلاع الأرض وملء السماء . أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تُنصرون ؟ فلا يستخفنّكم المهل ؛ فإنّه لا يحفزه البدار , ولا يخاف فوت الثار ، وإنّ ربّكم لبالمرصاد(1) .
لقد قرعتهم عقيلة الرسول بخطابها البليغ ، وعرّفتهم زيف إسلامهم ، وكذب دموعهم ، وأنّهم من أحطّ المجرمين ؛ فقد اقترفوا أفضع جريمة وقعت في الأرض ؛ فقد قتلوا المنقذ والمحرّر الذي أراد لهم الخير ، وفروا بقتله كبد رسول الله () , وانتهكوا حرمته ، وسبوا عياله ، فأيّ جريمة أبشع من هذه الجريمة ؟!
اضطراب الرأي العام

واضطرب أهل الكوفة من خطاب سليلة النبوّة ، ووصف حذيم الأسدي مدى الأثر البالغ الذي أحدثته العقيلة في خطابها , يقول :
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 335 .
الصفحة (281)

لم أرَ والله خفرة أنطق منها ، كأنّما تُفرغ عن لسان الإمام أمير المؤمنين () ، ورأيت الناس بعد خطابها حيارى ، واضعي أيديهم على أفواههم ، ورأيت شيخاً قد دنا منها يبكي حتّى اخضبّت لحيته , وهو يقول : بأبي أنتم واُمّي ! كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونسلكم لا يبور ولا يخزى أبداً(1) .
ورأى الإمام زين العابدين () الوضع الراهن لا يساعد على استمرارها في الخطاب ، فقطع عليها خطبتها قائلاً : (( اسكتي يا عمّة ، فأنت بحمد الله عالمة غير معلّمة ، وفهمة غير مفهمة ))(2) .
خطاب السيدة فاطمة (عليها السّلام)

وانبرت السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين () فخطبت أبلغ خطاب وأروعه ، وكانت طفلة , وقد برزت فيها معالم الوراثة النبويّة ، فقالت : الحمد لله عدد الرمل والحصى ، وزنة العرش إلى الثرى ، أحمده واُؤمن به وأتوكّل عليه ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً () عبده ورسوله ، وأنّ ذرّيّته ذُبحوا بشطّ الفرات , بغير ذخل ولا ترات .
اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب ، وأن أقول عليك خلاف ما أنزلت من أخذ العهود لوصيّة عليّ بن أبي طالب () ، المسلوب حقّه ، المقتول بغير ذنب ـ كما قُتل ولده بالأمس ـ في بيتٍ من بيوت الله ، فيه معشر مسلمة بألسنتهم .

تعساً لرؤوسهم !
ـــــــــــــــــــــ
(1) نور الأبصار / 276 .
(2) الاحتجاج ـ الطبرسي 2 / 304 ـ 305 .
الصفحة (282)

ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته , حتّى قبضته إليك محمود النقيبة ، طيّب العريكة ، معروف المناقب ، مشهور المذاهب ، لم تأخذه اللّهمّ فيك لومة لائم , ولا عذل عاذل .

هديته يا ربّ للإسلام صغيراً ، وحمدت مناقبه كبيراً ، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك صلواتك عليه وآله حتّى قبضته إليك ، زاهداً في الدنيا غير حريص عليها ، راغباً في الآخرة ، مجاهداً لك في سبيلك ، رضيته فاخترته وهديته إلى صراط مستقيم .
أمّا بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر والخُيَلاء ، فإنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم ، وابتلاكم بنا ، فجعل بلاءنا حسناً ، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا ، فنحن عيبة علمه , ووعاء فهمه وحكمته ، وحجّته على أهل الأرض في بلاده لعباده ؛ أكرمنا الله بكرامته , وفضّلنا بنبيّه محمّد () على كثير ممّن خلق تفضيلاً بيّناً .
فكذّبتمونا وكفّرتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالاً , وأموالنا نهباً ، كأنّنا أولاد ترك أو كابل ، كما قتلتم جدّنا بالأمس ، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت ؛ لحقد متقدّم , قرّت لذلك عيونكم ، وفرحت قلوبكم ؛ افتراء على الله ومكراً مكرتم والله خير الماكرين .
فلا تدعُوَنّكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا , ونالت أيديكم من أموالنا ؛ فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة ( فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) .
الصفحة (283)

تبّاً لكم ! فانتظروا اللعنة والعذاب ، فكأنّ قد حلّ بكم ، وتواترت من السماء نقمات ، فيسحتكم بعذاب , ويذيق بعضكم بأس بعض , ثمّ تخلّدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ، ألا لعنة الله على الظالمين .
ويلكم ! أتدرون أيّة يدٍ طاعنتنا منكم , وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا ؟! أم بأيّة رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا ؟! قست والله قلوبكم ، وغلظت أكبادكم ، وطُبع على أفئدتكم ، وخُتم على أسماعكم وأبصاركم [سوّل لكم الشيطان وأملى لكم , وجعل على بصركم] غشاوةً فأنتم لا تهتدون .
فتبّاً لكم يا أهل الكوفة ! أيّ ترات لرسول الله () قِبَلكم , وذحول له لديكم بما غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب () جدّي وبنيه وعترة النبيّ الأخيار صلوات الله وسلامه عليهم ؟!

وافتخر بذلك مفتخركم فقال :
نحن قتلنا عليّاً وبني علي بـسيوف هنديّة ورماحِ
وسبَينا نساءهم سبيَ تركٍ و نطـحناهم فـأيّ نطاحِ

بفيك أيّها القاتل الكثكث والأثلب(1) ، افتخرت بقتل قوم زكّاهم الله وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ! فاكظم واقع كما
ـــــــــــــــــــــ
(1) الكثكث : التراب . الأثلب : فتات الحجارة والتراب .
الصفحة (284)

أقعى أبوك ، فإنّما لكلّ امرئ ما اكتسب وما قدّمت يداه . أحسدتمونا ـ ويلاً لكم ! ـ على ما فضّلنا الله !
فما ذنبنا إن جاش دهراًً بحورنا وبحرُك ساجٍ لا يواري الدعامصا

( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ )(1) .
تحدّثت سليلة النبوّة في خطابها الرائع البليغ عن اُمور بالغة الأهمية ذكرناها بالتفصيل في كتابنا (حياة الإمام الحسين) .
صدى خطابها

وأثّر خطاب السيدة الزكية فاطمة في نفوس الجماهير ؛ فقد وجلت منه عيونهم , ووجلت قلوبهم ، وعرفوا عظيم ما اقترفوه من الإثم , فاندفعوا ببكاء قائلين : حسبك يابنة الطاهرين ؛ فقد أحرقت قلوبنا ، وأنضجت نحورنا ، وأضمرت أجوافنا .
وأمسكت السيدة عن الكلام ، وتركت جماهير الكوفيّين في محنتهم وشقائهم .
خطاب السيّدة اُمّ كلثوم (عليها السّلام)

وانبرت حفيدة الرسول السيدة اُمّ كلثوم(2) إلى الخطابة , فأومأت إلى الناس
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 339 .
(2) ذهب السيد المقرّم وغيره إلى أنّ السيّدة اُمّ كلثوم هي السيدة زينب (عليها السّلام) .


يتبع












عرض البوم صور الشيخ عباس محمد   رد مع اقتباس
قديم 02-08-2015, 11:29 PM   المشاركة رقم: 4
معلومات العضو
الشيخ عباس محمد

إحصائية العضو







 
 


التوقيت

التواجد والإتصالات
الشيخ عباس محمد غير متواجد حالياً

كاتب الموضوع : الشيخ عباس محمد المنتدى : منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
افتراضي

بالسكوت ، فلمّا سكنت الأنفاس بدأت بحمد الله والثناء عليه ، ثمّ قالت : مه يا أهل الكوفة ، سوءاً لكم ! ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه , وانتهبتم أمواله وورثتموه , وسبيتم نساءه ونكبتموه ؟! فتبّاً لكم وسحقاً !
ويلكم ! أتدرون أيّ دواه دهتكم , وأيّ وزر على ظهوركم حملتم , وأيّ دماء سفكتموها ؟! قتلتم خير رجالات بعد النبي () ، ونُزِعت الرحمة من قلوبكم ، ألا إنّ حزب الله هم الغالبون , وحزب الشيطان هم الخاسرون .
واضطرب الكوفيّون من خطابها , فنشرت النساء شعورهن , ولطمن الخدود ، ولم يرَ أكثر باكٍ ولا باكية مثل ذلك اليوم .
خطاب الإمام زين العابدين ()

وانبرى إلى الخطاب الإمام زين العابدين () , فقال بعد حمد الله والثناء عليه : (( أيّها الناس ، مَنْ عرفني فقد عرفني ، ومَنْ لم يعرفني فأنا أُعَرِّفه بنفسي ؛ أنا علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات من غير ذحل ولا ترات(1) ، أنا ابن مَنْ انتُهك حريمه , وسُلب نعيمه , وانتُهب ماله , وسُبي عياله ، أنا ابن مَنْ قُتل صبراً وكفى بذلك فخراً .
أيّها الناس ، ناشدتكم الله هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي
ـــــــــــــــــــــ
(1) الترات : هو مَنْ ظلم حقّه .
الصفحة (286)

وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه ؟! فتبّاً لِما قدّمتم لأنفسكم , وسوءاً لرأيكم ! بأيّة عين تنظرون إلى رسول الله () إذ يقول لكم : قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أُمّتي ؟! )) .
وجرّدهم بهذه الكلمات من الإسلام ، ودلّهم على جرائمهم وآثامهم التي سوّدت وجه التأريخ ، وقد علت أصواتهم بالبكاء ، ونادى مناد منهم : هلكتم وما تعلمون .
واستمر الإمام في خطابه قائلاً : (( رحم الله امرأً قَبِل نصيحتي وحفظ وصيّتي في الله وفي رسوله وأهل بيته ؛ فإنّ لنا في رسول الله أُسوة حسنة )) .
فهتفوا قائلين : نحن يابن رسول الله سامعون مطيعون ، حافظون لذمامك , غير زاهدين فيك ، ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرك يرحمك الله ؛ فإنّا حرب لحربك وسلم لسلمك ، نبرأ ممّن ظلمك وظلمنا .
وردّ الإمام عليهم هذا الولاء الكاذب قائلاً : (( هيهات هيهات أيّتها الغدرة المكرة ! حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم ، أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى أبي من قبل ؟ كلا وربّ الراقصات(1) ؛ فإنّ الجرح لمّا يندمل ، قُتل أبي صلوات الله عليه بالأمس وأهل بيته معه ، ولم يُنس ثكل رسول الله () وثكل أبي وبني أبي ، ووجده بين لهاتي , ومرارته بين حناجري وحلقي ،
ـــــــــــــــــــــ
(1) الراقصات : هي النجوم .
الصفحة (287)

وغصصه تجري في فراش صدري ))(1) .
وأمسك الإمام () عن الكلام ، وتركهم حيارى يندبون حظّهم التعيس .
في مجلس ابن زياد

وأُدخلت عقائل الوحي ومخدّرات النبوّة وهنَّ في ذلّ الأسر ، قد شُهرت على رؤوسهنَّ سيوف الكافر ابن مرجانة سليل الأرجاس والخيانة ، وهو في قصر الإمارة وقد امتلأ القصر بالسفكة المجرمين من جنوده ، وهم يهنّئونه بالظفر , ويحدّثونه بجرائمهم التي اقترفوها يوم الطفّ , وهو جذلان مسرور يهزّ أعطافه فرحاً وسروراً ، وبين يديه رأس زعيم الاُمّة وريحانة رسول الله () ؛ فجعل الخبيث يعبث بالرأس الشريف وينكته بمخصرته ، وهو يقول متشمّتاً : ما رأيت مثل هذا الوجه قطّ .
إنّه وجه النبوة والإمامة ، ووجه الإسلام بجميع مبادئه وقيمه .
ولم ينه ابن مرجانة كلامه حتّى سدّد له الصحابي أنس بن مالك سهماً , فقال له : إنّه كان يشبه النبي(2) .
والتاع الخبيث من كلامه ، ولم يجد أيّ مجال للردّ عليه .
الطاغية مع عقيلة الوحي (عليها السّلام)

ولمّا روى المجرم الخبيث ابن مرجانة أحقاده من رأس ريحانة رسول الله () , التفت إلى عائلة الإمام الحسين () , فرأى سيدة منحازة في ناحية من مجلسه ، وعليها أرذل
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 342 .
(2) أنساب الأشراف / 222 .
الصفحة (288)

الثياب , وقد حفّت بها المهابة والجلال ، فانبرى ابن مرجانة سائلاً عنها ، فقال : مَنْ هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها ؟
فأعرضت عنه احتقاراً واستهانة به ، وكرّر السؤال فلم تجبه , فانبرت إحدى السيّدات فأجابته : هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله () .
فالتاع الخبيث الدنس من احتقارها له ، واندفع يظهر الشماتة بلسانه الألكن قائلاً : الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم ، وأبطل اُحدوثتكم .
فثارت حفيدة الرسول () وأجابته بشجاعة أبيها , محتقرة له قائلة : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا يابن مرجانة(1) .
وكانت هذه الكلمات كالصاعقة على رأس هذا الوضر الخبيث ، لقد قالت هذا القول الصارم وهي مع بنات رسول الله () في قيد الأسر , قد نُصبت فوق رؤوسهنَّ حراب الظالمين , وشُهرت عليهن سيوف الشامتين .
ولم يجد ابن مرجانة كلاماً يُجيب به سوى التشفّي قائلاً : كيف رأيت صنع الله بأخيك ؟
فأجابته حفيدة الرسول ومفخرة الإسلام بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة : ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل ، فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينكم وبينهم ، فتُحاجّ وتُخاصم ، فانظر لمَنْ الفلج يومئذ ، ثكلتك اُمّك يابن مرجانة !
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 6 / 263 .
الصفحة (289)

وفقد الحقير الدنس إهابه من هذا التبكيت والاحتقار اللاذع ، فهمّ أن يضرب العقيلة , فنهاه عمرو بن حريث وقال له : إنّها امرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها .
يالله ! يا للمسلمين ! ابن مرجانة يروم أن يعتدي على عقيلة بني هاشم وحفيدة الرسول ! إنّ المسؤول عن هذا الاعتداء الصارخ على الأُسرة النبويّة وعلى عقائل الوحي مؤتمر السقيفة والشورى ؛ فهم الذين سلّطوا على المسلمين الاُمويِّين , خصوم الإسلام وأعداء البيت العلوي ، وحجبوا آل البيت عن القيادة الروحية لهذه الاُمّة .
وعلى أيّ حال ، فإنّ ابن مرجانة التفت إلى العقيلة مظهراً لها التشفّي بقتل أخيها قائلاً : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك .
وغلب الأسى والحزن على العقيلة (عليها السّلام) من هذا التشفّي الآثم ، وتذكّرت حماتها الصفوة من الاُسرة النبويّة ، فأدركتها لوعة الأسى ، وقالت : لعمري لقد قتلت كهلي , وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإن كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت .
وتهافت غيظ ابن مرجانة ، وراح يقول : هذه سجّاعة ، لعمري لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً . فردّت عليه العقيلة : إنّ لي عن السجاعة لشغلاً ، ما للمرأة والسجاعة(1) !
ما أخسّ هذه الحياة وما ألأمها التي جعلت حفيدة الرسول أسيرة عند
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 344 .
الصفحة (290)

ابن مرجانة ، وهو يبالغ في احتقارها !
إنقاذ العقيلة للإمام زين العابدين ()

وأدار ابن مرجانة بصره في بقية الأسرى من أهل البيت (عليهم السّلام) , فوقع بصره على الإمام زين العابدين () ، وقد أنهكته العلّة , فسأله : مَنْ أنت ؟
ـ (( عليّ بن الحسين )) .
فصاح به الرجس الخبيث : أوَ لم يقتل الله علي بن الحسين ؟
فأجابه الإمام () بأناة : (( قد كان لي أخ يُسمّى عليّ بن الحسين قتلتموه ، وإنّ له منكم مطالباً يوم القيامة )) .
فثار ابن مرجانة ، ورفع صوته قائلاً : الله قتله .
فأجابه الإمام () بكلّ شجاعة وثبات : (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) ، (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه) .
ودارت الأرض بابن مرجانة ولم يعرف ما يقول ، وغاظه أن يتكلّم هذا الغلام الأسير بقوّة الحجّة ، والاستشهاد بالقرآن الكريم ، فرفع عقيرته قائلاً : وبك جرأة على ردّ جوابي ! وفيك بقية للردّ عليّ ! والتفت إلى بعض جلاديه فقال له : خذ هذا الغلام واضرب عنقه .
وطاشت أحلام العقيلة (عليها السّلام) , وانبرت بشجاعة لا يرهبها سلطان ، فاحتضنت ابن أخيها وقالت لابن مرجانة :



حسبك يابن زياد ما سفكت من دمائنا ! إنّك لم تُبقِ منّا أحداً ، فإن كنت عزمت على قتله فاقتلني معه .
وبُهر الطاغية وانخذل ، وقال متعجّباً : دعوه لها ، عجباً للرحم ودّت أن تُقتل معه !
ولولا موقف العقيلة (عليها السّلام) لذهبت البقيّة من نسل أخيها التي هي مصدر الخير والفضيلة في دنيا العرب والإسلام . لقد أنجا الله زين العابدين () من القتل المحتّم ببركة العقيلة (عليها السّلام) ؛ فهي التي أنقدته من هذا الطاغية الجبّار(1) .
حبس عقائل الوحي

وأمر ابن مرجانة بحبس مخدّرات الرسالة وعقائل الوحي فاُدخلنّ في سجن يقع إلى جانب المسجد الأعظم ، وقد ضيّق عليهنَّ أشدّ التضييق ، فكان يجري على كلّ واحدة في اليوم رغيفاً واحداً من الخبز ، وكانت العقيلة تؤثر أطفال أخيها برغيفها وتبقى ممسكة حتّى بان عليها الضعف فلم تتمكّن من النهوض , وكانت تُصلّي من جلوس ، وفزع الإمام زين العابدين () من حالتها , فأخبرته بالأمر .
ورفضت عقيلة بني هاشم مقابلة أيّة امرأة من الكوفيات , وقالت : لا يدخلنّ علينا إلاّ أُمّ ولد , أو مملوكة ؛ فإنّهنّ سُبين كما سُبينا .
واُلقي على بنات رسول الله () حجر قد ربط فيه كتاب جاء فيه : إنّ البريد قد سار بأمركم إلى يزيد , فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالهلاك ، وإن لم تسمعوا بالتكبير فهو الأمان . وحدّدوا لمجيء الكتاب وقتاً ، وفزعت العلويات وذُعرن ، وقبل قدوم البريد بيومين اُلقي عليهم حجر آخر فيه كتاب جاء فيه : أوصوا واعهدوا فقد قارب
ــــــــــــــــ
(1)
الصفحة (292)

وصول البريد . وبعد انتهاء المدّة جاء أمر يزيد بحمل الأسرى إلى دمشق(1) .

وصرّح بعض المؤرّخين أنّ يزيد كان عازماً على استئصال نسل الإمام أمير المؤمنين () , إلاّ أنّه بعد ذلك عدل عن نيّته .
وبقيت العائلة النبويّة في السجن ، فلمّا جاءت أوامر يزيد بحملهم إلى دمشق لتعرض على أهل الشام كما عرضت على أهل الكوفة فقد حُملت السبايا ، وأمّا رؤوس العترة الطاهرة الذين أرادوا أن يقيموا في هذا الشرق حكومة الإسلام والقرآن فقد حُملت ليراها أهل الشام , ويتلذّذ بمنظرها يزيد .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 37 .
الصفحة (293)
سبايا آل النبي (عليهم السّلام) في دمشق

وعانت عقائل الوحي ومخدّرات النبوّة والإمامة جميع ضروب المحن والبلاء أيام مكثهنَّ في الكوفة ؛ فقد عانينَ مرارة السجن , وشماتة الأعداء ، وذلّ الأسر . وبعدما صدرت الأوامر من دمشق بحملهن إلى يزيد أمر ابن مرجانة بتسيير رؤوس أبناء النبي () وأصحابهم إلى الشام لتُعرض على الشاميّين كما عرضت على الكوفيّين ؛ حتّى تمتلأ قلوب الناس فزعاً وخوفاً , وتظهر مقدرة الاُمويِّين وغلبتهم على آل الرسول .
وقد سُيّرت رؤوس العترة الطاهرة مع الأثيم زهير بن قيس الجعفي ، كما سُيّرت العائلة النبويّة مع محفر بن ثعلبة من عائدة قريش ، وشمر بن ذي الجوشن ، وقد أوثقت بالحبال , وأُركبت على أقتاب الجمال , وهنَّ بحالة تقشعر منها ومن ذكرها الأبدان ، وترتعد لها فرائص كلّ إنسان(1) .
وسارت قافلة الأسرى لا تلوي على شيء حتّى انتهت إلى القرب من دمشق ، فاُقيمت هناك حتّى تتزيّن البلد بمظهر الزهو والأفراح .

ومن الجدير بالذكر أنّ مخدّرات النبوّة وباقي الأسرى قد التزموا جانب الصمت , فلم يطلبوا أيّ شيء من اُولئك الأنذال الموكّلين بهم ؛ وذلك لعلم العلويات بعدم الاستجابة لأيّ شيء من مطالبهنَّ .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تحفة الأنام في مختصر الإسلام / 84 .وأمرت حكومة دمشق الدوائر الرسمية وشبه الرسمية بإظهار الزينة والفرح للنصر الذي أحرزته بقتل أبناء النبي () .

ووصف بعض المؤرّخين تلك الزينة بقوله : ولمّا بلغوا ـ أي أُسارى أهل البيت (عليهم السّلام) ـ ما دون دمشق بأربعة فراسخ استقبلهم أهل الشام وهم ينثرون النثار فرحاً وسروراً حتّى بلغوا بهم قريب البلد ، فوقفوهم عن الدخول ثلاثة أيام وحبسوهم هناك حتّى تتوفّر زينة الشام وتزويقها بالحليّ والحلل , والحرير والديباج , والفضة والذهب وأنواع الجواهر ، على صفة لم يرَ الراؤون مثلها لا قبل ذلك اليوم ولا بعده .

ثمّ خرج الرجال والنساء ، والأصاغر والأكابر ، والوزراء والأمراء ، واليهود والمجوس والنصارى وسائر الملل إلى التفرّج , ومعهم الطبول والدفوف , والبوقات والمزامير ، وسائر آلات اللهو والطرب ، وقد كحّلوا العيون وخضّبوا الأيدي ، ولبسوا أفخر الملابس , وتزيّنوا أحسن الزينة ، ولم يرَ الراؤون أشدّ احتفالاً ولا أكثر اجتماعاً منه ، حتّى كأن الناس كلّهم حشروا جميعاً في صعيد دمشق(1) .
لقد أبدى ذلك المجتمع الذي تربّى على بغض أهل البيت (عليهم السّلام) جميع ألوان الفرح والسرور بإبادة العترة الطاهرة وسبي حرائر النبوّة .
وروى سهل بن سعد الساعدي ما رآه من استبشار الناس بقتل الحسين () ، يقول : خرجت إلى بيت المقدس حتّى توسّطت الشام ، فإذا أنا بمدينة مطّردة الأنهار , كثيرة الأشجار ، قد علّقت عليها الحجب والديباج , والناس فرحون مستبشرون ، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول ، فقلت في نفسي : إنّ لأهل الشام عيداً لا نعرفه ؟!

فرأيت قوماً يتحدّثون , فقلت لهم : ألكم بالشام عيد لا نعرفه ؟
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 369 .
الصفحة (295)

ـ نراك يا شيخ غريباً ؟
ـ أنا سهل بن سعد قد رأيت رسول الله () .
ـ يا سهل ، ما أعجبك أن السماء لا تمطر دماً ، والأرض لا تنخسف بأهلها !
ـ وما ذاك ؟
ـ هذا رأس الحسين يُهدى من أرض العراق .
ـ وا عجباً ! يُهدى رأس الحسين والناس يفرحون ! من أيّ باب يدخل ؟

وأشاروا إلى باب الساعات ، فأسرع سهل إليها ، وبينما هو واقف وإذا بالرايات يتبع بعضها بعضاً ، وإذا بفارس بيده لواء منزوع السنان وعليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله () , وهو رأس أبي الأحرار ، وخلفه السبايا محمولة على جمال بغير وطاء .

وبادر سهل إلى إحدى السيّدات فسألها : مَنْ أنتِ ؟
ـ أنا سكينة بنت الحسين .
ـ ألك حاجة ؛ فأنا سهل صاحب جدّك رسول الله ؟
ـ قل لصاحب هذا الرأس أن يقدّمه أمامنا حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه , ولا ينظرون إلى حرم رسول الله () .
وأسرع سهل إلى حامل الرأس فأعطاه أربعمئة درهم فباعد الرأس عن النساء(1) .
الشامي مع زين العابدين ()

وانبرى شيخ هرم يتوكّأ على عصاه ليمتّع نظره بالسبايا ، فدنا من الإمام زين العابدين () , فرفع عقيرته قائلاً :
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 370 .
الصفحة (296)

الحمد لله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم .
وبصر به الإمام () فرآه مخدوعاً قد ضلّلته الدعاية الاُمويّة , فقال له : (( يا شيخ ، أقرأت القرآن ؟ )) .
فبُهت الشيخ من أسير مكبول ، فقال له بدهشة : بلى !
ـ (( أقرأت قوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ، وقوله تعالى : ( وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) ، وقوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) ؟ )) .
وبُهر الشيخ وتهافت فقال : نعم ، قرأت ذلك !
فقال له الإمام () : (( نحن والله القربى في هذه الآيات . يا شيخ ، أقرأت قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ؟ )) .
ـ بلى .
ـ (( نحن أهل البيت الذين خصّهم الله بالتطهير )) .
ولمّا سمع الشيخ ذلك من الإمام () ذهبت نفسه حسرات على ما فرّط في أمر نفسه ، وتلجلج وقال للإمام () بنبرات مرتعشة : بالله عليكم أنتم هم ؟!
ـ (( وحقّ جدّنا رسول الله () إنّا لنحن هم من غير شكّ )) .
وودّ الشيخ أنّ الأرض قد وارته ولم يجابه الإمام بتلك الكلمات القاسية ، وألقى بنفسه على الإمام وهو يوسع يديه تقبيلاً ، ودموعه تجري على سحنات وجهه قائلاً : أبرأ إلى الله ممّن قتكلم .وطلب من الإمام () أن يمنحه العفو والرضا , فعفا الإمام عنه(1) .
سرور يزيد (لعنه الله)

وغمرت يزيد موجات من الفرح حينما جيء له بسبايا أهل البيت (عليهم السّلام) ، وكان مطلاّ على منظر في جيرون ، فلمّا نظر إلى الرؤوس والسبايا قال :
لـمّا بـدت تـلكَ الحمول وأشرقتْ تـلكَ الـرؤوس على شفا جيرونِ
نـعبَ الغرابُ فقلت قل أو لا تقل فقد اقتضيت من الرسولِ ديوني(2)

لقد أخذ ابن هند ثأره من ابن فاتح مكة ومحطّم أوثان قريش ؛ فقد أباد العترة الطاهرة , وسبى ذراريها ؛ تشفّياً وانتقاماً من الرسول الذي قتل أعلام الاُمويِّين .
رأس الإمام () عند يزيد (لعنه الله)

وحمل الخبيث الأبرص شمر بن ذي الجوشن ومحفر بن ثعلبة العائدي رأس ريحانة رسول الله وسيّد شباب أهل الجنّة هدية إلى الفاجر يزيد بن معاوية ، فسرّ بذلك سروراً بالغاً ؛ فقد استوفى ثأره وديون الاُمويِّين من ابن رسول الله ، وقد أذن للناس إذناً عاماً ليظهر لهم قدرته وقهره لآل النبي () .

وازدحم الأوباش والأنذال من أهل الشام على البلاط الاُموي وهم يعلنون فرحتهم الكبرى , ويهنّئون يزيد بهذا النصر الكاذب(3) ، وقد وضع الرأس الشريف بين يدي سليل الخيانة فجعل ينكثه بمخصرته ، ويقرع ثناياه اللتين كان رسول الله () يرشفهما ، وجعل يقول : لقد لقيت بغيك يا حسين(4) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 371 .
(2) مقتل الحسين () ـ المقرّم / 437 .
(3) البداية والنهاية 8 / 198 .
(4) حياة الإمام الحسين () 3 / 374 .
الصفحة (298)

ثمّ التفت إلى عملائه وأذنابه فقال لهم : ما كنت أظنّ أبا عبد الله قد بلغ هذا السنّ ، وإذا لحيته ورأسه قد نصلا من الخضاب الأسود(1) .
وتأمّل في وجه الإمام () فغمرته هيبته , وراح يقول : ما رأيت مثل هذا الوجه حسناً قطّ(2) !
أجل ، إنّه كوجه رسول الله () الذي تحنو له الوجوه والرقاب ، والذي يشعّ بروح الإيمان .

وراح ابن معاوية يوسع ثغر الإمام () بالضرب وهو يقول : إنّ هذا وإيّانا كما قال الحصين بن الحمام :
أبى قومنا إن ينصفونا فانصفت قواضب فـي إيماننا تقطر الدما
نُـفلِّقنَ هـاماً من رجالٍ أعزّةٍ عـلينا و هم كانوا أعقّ وأظلما

ولم يتم الخبيث كلامه حتّى أنكر عليه أبو برزة الأسلمي , فقال له : أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين ؟! أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذاً لربّما رأيت رسول الله () يرشفه ! أما إنّك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك , ويجيء هذا ومحمد () شفيعه .
ثمّ قام منصرفاً عنه(3) .
السبايا في مجلس يزيد (لعنه الله)

وعمد الأنذال من جلاوزة الخبيث ابن الخبيث يزيد بن معاوية إلى عقائل الوحي وسائر الصبية , فربقوهم بالحبال كما تربق الأغنام ، فكان الحبل في عنق الإمام زين العابدين () إلى عنق العقيلة زينب (عليها السّلام) وباقي بنات رسول الله () ، وكانوا كلّما قصّروا عن
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الإسلام ـ الذهبي 2 / 351 .
(2) تاريخ القضاعي / 70 .
(3) تاريخ ابن الأثير 3 / 398 .
الصفحة (299)

المشي أوسعوهم ضرباً بالسياط ، وجاؤوا بهم على مثل هذه الحالة التي تتصدّع من هولها الجبال ، وهم يكبّرون ويهلّلون بسبيهم لبنات رسول الله وإبادتهم لعترته .
وأوقفت مخدّرات الرسالة بين يدي يزيد (لعنه الله) ، فالتفت إليه الإمام زين العابدين () فقال له : (( ما ظنّك برسول الله () لو رآنا على هذه الصِفة ؟ )) .
فتأثّر يزيد ، ولم يبق أحد في مجلسه إلاّ بكى ، وكان منظر العلويات مثيراً للعواطف ، فقال يزيد (لعنه الله) : قبّح الله ابن مرجانة ! لو كان بينكم وبينه قرابة لما فعل بكم هذا .
إنّه لم يصنع بالسيّدات العلويات بمثل هذه الأعمال إلاّ بأمر يزيد , وإرضاءً لعواطفه ورغباته ، واستجابة لعواطف القرشيّين الذين ما آمنوا بالإسلام , وكانت نفوسهم مترعة بالحقد لرسول الله () .
والتفت الطاغية إلى الإمام زين العابدين () فقال له : إيه يا عليّ بن الحسين ، أبوك الذي قطع رحمي , وجهل حقّي ، ونازعني سلطاني ، فصنع الله به ما رأيت .
فأجابه شبل الحسين بكلّ طمأنينة وهدوء بقوله تعالى : (( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ )) .
وثار الطاغية وقال للإمام : ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) .
فردّ عليه الإمام () : (( هذا في حقّ مَنْ ظلم لا في حقّ مَنْ ظُلِم )) .
الصفحة (300)

وزوى الإمام بوجهه عنه ولم يكلّمه ؛ استهانة به(1) .
خطاب العقيلة (عليها السّلام)

وأظهر الطاغية الآثم فرحته الكبرى بإبادته لعترة رسول الله () , فقد صفا له الملك ، واستوسقت له الاُمور ، وأخذ يهزّ أعطافه جذلاناً متمنّياً حضور القتلى من أهل بيته ببدر ؛ ليريهم كيف أخذ بثارهم من النبي () في ذرّيته ، وراح يترنّم بأبيات ابن الزبعري قائلاً أمام الملأ بصوت يسمعه الجميع :
لـيتَ أشـياخي ببدرٍ شهدوا جزعَ الخزرجِ من وقعِ الأسلْ
فـأهـلّوا واسـتهلّوا فـرحاً ثـمّ قـالوا يا يزيدَ لا تُشلْ
قـد قـتلنا القومَ من ساداتهمْ و عـدلـناه بـبدرٍ فـاعتدلْ
لـعبت هـاشمُ بـالمُلكِ فلا خـبرٌ جـاءَ و لا وحيٌ نزلْ
لـستُ من خندف إن لم أنتقمْ مـن بـني أحمدَ ما كان فَعَلْ

ولمّا سمعت العقيلة (عليها السّلام) هذه الأبيات التي أظهر فيها التشفّي بقتل عترة رسول الله () انتقاماً منهم لقتلى بدر ، وثبت كالأسد , فسحقت جبروته وطغيانه , فكأنّها هي الحاكمة والمنتصرة ، والطاغية هو المخذول والمغلوب على أمره ، وقد خطبت هذه الخطبة التي هي من متمّمات النهضة الحسينيّة .

قالت (عليها السّلام) : الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله أجمعين ، صدق الله كذلك يقول : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ )(2) .

أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا
ـــــــــــــــــــــ
(1) الإرشاد / 276 .
(2) سورة الروم / 10 .
الصفحة (301)

أقطار الأرض وآفاق السماء ، فأصبحنا نُساق كما تساق الإماء , أنّ بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة , وأنّ ذلك لعظيم خطرك عنده , فشمختَ بأنفك ، ونظرتَ في عطفك جذلان مسروراً حين رأيتَ الدنيا لك مستوسقة ، والأمور متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ؟! فمهلاً مهلاً ! أنسيت قول الله عزّ وجلّ : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ )(1) ؟
أمن العدل يابن الطُلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا , قد هتكت ستورهنّ ، وأبديت وجوهنّ ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهنّ أهل المنازل والمناهل(2) ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد ، والدَّنيّ والشريف ، ليس معهنّ من رجالهنّ وليّ ، ولا من حماتهنّ حميّ ؟!
وكيف تُرتجى مراقبة مَنْ لفظ فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه بدماء الشهداء ؟! وكيف لا يُستبطأ في بُغضنا أهل البيت مَنْ نظر إلينا بالشنف(3) والشنآن ، والإحن والأضغان ؟! ثمّ تقول غير مُتأثّم ولا مستعظم :
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران / 178 .
(2) المناهل : جمع منهل ، وهو موضع الشرب من العيون ، والمراد من يسكن فيها . المعاقل : سكنة الحصون .
(3) الشنف : البغض والعداء .
الصفحة (302)
لأهَـلّوا واستهلّوا فرحاً ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشَلْ

منتحياً على ثنايا أبي عبد الله () سيد شباب أهل الجنّة تنكتها بمخصرتك !
وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرّيّة محمّد () , ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب ؟! وتهتف بأشياخك زعمتَ أنّك تناديهم ! فلتردنّ وشيكاً موردهم ، ولتودّنّ أنّك شُللت وبُكمتَ ولم تكن قلتَ ما قلتَ , وفعلتَ ما فعلتَ . اللّهمّ خُذ بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلل غضبك بمَنْ سفك دماءنا وقتل حماتنا .
فوالله ما فريتَ إلاّ جلدك ، ولا حززتَ إلاّ لحمك ، ولتردنّ على رسول الله () بما تحمّلت من سفك دماء ذرّيّته ، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته ، وحيث يجمع الله شملهم , ويلمّ شعثهم , ويأخذ بحقّهم , ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ )(1) .
وحسبك الله حاكماً ، وبمحمّد () خصيماً ، وبجبرئيل ظهيراً ، وسيعلم مَنْ سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين ، بئس للظالمين بدلاً , وأيّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً !
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران / 163 .
الصفحة (303)

ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك ، إنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدور حرّى .
ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النُجباء بحزب الشيطان الطلقاء ! فهذه الأيدي تنطف(1) من دمائنا ، والأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل(2) , وتعفّرها اُمّهات الفراعل(3) . ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك ، وما ربّك بظلاّم للعبيد ، فإلى الله المشتكى ، وعليه المعوّل .
فكد كيدك ، واسعَ سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحونّ ذكرنا ، ولا تُميتُ وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها . وهل رأيك إلاّ فنداً ، وأيّامك إلاّ عدداً ، وجمعك إلاّ بدداً ، يوم ينادي المناد : ألا لعنة الله على الظالمين .
فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة , ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، ويحسن
ـــــــــــــــــــــ
(1) تنطف : أي تستوفي من دمائنا .
(2) العواسل : جمع عاسل ، وهو الذئب .
(3) الفراعل : جمع فرعل ، وهو ولد الضبع .


علينا الخلافة ، إنّه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل(1) .
وهذا الخطاب من متمّمات النهضة الحسينيّة ، ومن روائع الخطب الثورية في الإسلام ؛ فقد دمّرت فيه عقيلة بني هاشم وفخر النساء جبروت الاُموي الظالم يزيد ، وألحقت به وبمَنْ مكّنه من رقاب المسلمين العار والخزي ، وعرّفته عظمة الاُسرة النبويّة التي لا تنحني جباهها أمام الطغاة والظالمين .

وعلّق الإمام الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء على هذا الخطاب بقوله : أتستطيع ريشة أعظم مصوّر وأبدع ممثل أن يمثّل لك حال يزيد وشموخه بأنفه ، وزهوه بعطفه , وسروره وجذله باتّساق الاُمور ، وانتظام الملك , ولذّة الفتح والظفر , والتشفّي والانتقام بأحسن من ذلك التصوير والتمثيل ؟!

وهل في القدرة والإمكان لأحد أن يدفع خصمه بالحجّة والبيان والتقريع والتأنيب ، ويبلغ ما بلغته () بتلك الكلمات ، وهي على الحال الذي عرفت ، ثمّ لم تقتنع منه بذلك حتّى أرادت أن تمثّل له وللحاضرين عنده ذلّة الباطل ، وعزّة الحقّ , وعدم الاكتراث واللامبالاة بالقوم والسلطة والهيبة والرهبة ؟! أرادت أن تعرّفه خسّة طبعه ، وضعة مقداره ، وشناعة فعله ، ولؤم فرعه وأصله(2) .
ويقول المرحوم الفكيكي : تأمّل معي في هذه الخطبة النارية كيف جمعت بين فنون البلاغة وأساليب الفصاحة وبراعة البيان ، وبين معاني الحماسة وقوّة الاحتجاج وحجّة المعارضة , والدفاع في سبيل الحرية والحقّ والعقيدة ! بصراحة هي أنفذ من السيوف إلى أعماق القلوب ، وأحدّ من وقع الأسنّة في الحشا والمهج في مواطن القتال ومجالات النزال .

وكان الوثوب على أنياب الأفاعي ، وركوب أطراف
ـــــــــــــــــــــ
(1) أعلام النساء 2 / 504 ، بلاغات النساء / 21 ، حياة الإمام الحسين () 3 / 378 ـ 380 .
(2) السياسة الحسينيّة / 30 .
الصفحة (305)

الرماح أهون على يزيد من سماع هذا الاحتجاج الصارخ الذي صرخت به ربيبة المجد والشرف في وجوه طواغيت بني اُميّة وفراعنتهم في منازل عزّهم ومجالس دولتهم الهرقلية الارستقراطية الكريهة .

ثمّ إنّ هذه الخطبة التأريخية القاصعة لا تزال تنطق ببطولات الحوراء الخالدة وجرأتها النادرة ، وقد احتوت النفس القوية الحساسة الشاعرة بالمثالية الأخلاقية الرفيعة السامية ، وسيبقى هذا الأدب الحيّ صارخاً في وجوه الطغاة الظالمين على مدى الدهر وتعاقب الأجيال , وفي كلّ ذكرى لواقعة الطفّ الدامية المفجعة(1) .
محتويات الخطاب

وحلّلنا محتويات خطاب العقيلة في كتابنا (حياة الإمام الحسين) ، وننقله لما فيه من مزيد الفائدة ، وهذا نصّه : وكان هذا الخطاب العظيم امتداداً لثورة كربلاء ، وتجسيداً رائعاً لقيمها الكريمة وأهدافها السامية ، وقد حفل بما يلي :
أولاً : إنّها دلّلت على غرور الطاغية وطيشه ؛ فقد حسب أنّه هو المنتصر بما يملك من القوى العسكريّة التي ملأت البيداء , وسدّت آفاق السماء , إلاّ أنّه انتصار مؤقّت . ومن طيشه أنّه حسب أنّ ما أحرزه من الانتصار كان لكرامته عند الله تعالى , وهوان لأهل البيت (عليهم السّلام) ، ولم يعلم أنّ الله إنّما يملي للكافرين في الدنيا من النعم ليزدادوا إثماً , ولهم في الآخرة عذاب أليم .
ثانياً : إنّها نعت عليه سبيه لعقائل الوحي ، فلم يرعَ فيهم قرابتهم لرسول الله () ، وهو الذي منَّ عليهم يوم فتح مكة فكان أبوه وجدّه من الطلقاء ، فلم يشكر للنبي () هذه اليد ، وكافئه بأسوأ ما تكون المكافئة .
ثالثاً : إنّ ما اقترفه الطاغية من سفكه لدماء العترة الطاهرة فإنّه مدفوع بذلك ؛
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 381 .
الصفحة (306)

بحكم نشأته ومواريثه ، فجدّته هند هي التي لاكت كبد سيّد الشهداء حمزة ، وجدّه أبو سفيان العدوّ الأول للإسلام ، وأبوه معاوية الذي أراق دماء المسلمين , وانتهك جميع ما حرّمه الله ، فاقتراف الجرائم من عناصره وطباعه التي فطر عليها .
رابعاً : إنّها أنكرت عليه ما تمثّل به من الشعر الذي تمنّى فيه حضور شيوخه الكفرة من الاُمويِّين ؛ ليروا كيف أخذ بثأرهم من النبي () بإبادته لأبنائه ، إلاّ أنّه سوف يرد موردهم من الخلود في نار جهنم .
خامساً : إنّ الطاغية بسفكه لدماء العترة الطاهرة لم يسفك إلاّ دمه ، ولم يفرِ إلاّ جلده ؛ فإنّ تلك النفوس الزكية حيّة وخالدة ، وقد تلفّعت بالكرامة ، وبلغت قمّة الشرف ، وإنّه هو الذي باء بالخزي والخسران .
سادساً : إنّما عرضت إلى مَنْ مكّن الطاغية من رقاب المسلمين ، فهو المسؤول عمّا اقترفه من الجرائم والموبقات ، وقد قصدت () مغزى بعيداً يفهمه كلّ مَنْ تأمّل فيه .
سابعاً : إنّها أظهرت سموّ مكانتها وخطر شأنها ؛ فقد كلّمت الطاغية بكلام الأمير والحاكم ؛ فاستهانت به ، واستصغرت قدره ، وتعالت عن حواره ، وترفّعت عن مخاطبته ، ولم تحفل بسلطانه . لقد كانت العقيلة على ضعفها وما ألمّ بها من المصائب أعظم قوّة وأشدّ بأساً منه .
ثامناً : إنّها عرضت إلى أنّ يزيد مهما بذل من جهد لمحو ذكر أهل البيت (عليهم السّلام) ، فإنّه لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً ؛ لأنّهم مع الحقّ ، والحقّ لا بدّ أن ينتصر . وفعلاً فقد انتصر الإمام الحسين () ، وتحوّلت مأساته إلى مجد لا يبلغه أيّ إنسان كان ، فأيّ نصر أحقّ بالبقاء وأجدر بالخلود من النصر الذي أحرزه الإمام () ؟
هذا قليل من كثير ممّا جاء في هذه الخطبة التي هي آية من آيات البلاغة والفصاحة ، ومعجزة من معجزات البيان ، وهي إحدى الضربات التي أدّت إلى
الصفحة (307)

انهيار الحكم الاُموي(1) .
جواب يزيد (لعنه الله)

ولم يستطع الطاغية الجواب على خطاب العقيلة (عليها السّلام) ؛ فقد انهار كبرياؤه وغروره , وتمثّل ببيت من الشعر وهو :
يا صيحةًً تُحمدُ من صوائحْ ما أهون الموت على النوائحِْ

ولا توجد أيّة مناسبة بين ذلك الخطاب الثوري الذي أبرزت فيه عقيلة الوحي واقع يزيد وجرّدته من جميع القيم والمبادئ الإنسانيّة ، وبين هذا البيت من الشعر الذي حكى أنّ الصيحة تحمد من الصوائح ، وأنّ النوح يهون على النائحات ، فأيّ ربط موضوعي بين الأمرين .
اضطراب الطاغية (لعنه الله)

وتلبّدت الأجواء السياسيّة على الطاغية ، وحار في أمره ؛ فقد فضحته العقيلة بخطابها الخالد ، وجرّدته من السلطة الشرعيّة ، وأخذت الأوساط الشعبيّة في دمشق تتحدّاه وتنقم عليه جريمته النكراء بإبادته لعترة رسول الله () ؛ فأخذ يلتمس له المعاذير ، فقال لأهل الشام : أتدرون من أين أتى ابن فاطمة ، وما الحامل له على ما فعل ، وما الذي أوقعه فيما وقع ؟
ـ لا .
ـ يزعم أن أباه خير من أبي ، واُمّه فاطمة بنت رسول الله خير من اُمّي ، وأنّه
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 382 ـ 383 .
الصفحة (308)

خير منّي وأحقّ بهذا الأمر .

فأمّا قوله : أبوه خير من أبي ؛ فقد حاجّ أبي أباه إلى الله عزّ وجلّ ، وعلم الناس أيّهما حكم له ؛ وأمّا قوله : اُمّه خير من اُمّي ، فلعمري إنّ فاطمة بنت رسول الله () خير من اُمي ؛ وأمّا قوله : جدّه خير من جدّي ، فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر وهو يرى أنّ لرسول الله () فينا عدلاً ولا ندّاً ، ولكنّه إنّما أتى من قلّة فقهه ، ولم يقرأ قوله تعالى : ( وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ )(1) .
لقد حسب الخبيث أنّ منطق الفضل عند الله تعالى إنّما هو الظفر بالملك والسلطان ، فراح يبني تفوّقه على الإمام () بذلك ، ولم يعلم أنّ الله تعالى لا يرى للملك أيّ قيمة ؛ فإنّه يهبه للبرّ والفاجر .
لقد تخبّط الطاغية وراح يبني مجده الكاذب على تغلّبه وقهره لسبط رسول الله () ، وقد خاب فكره وضلّ سعيه ؛ فقد انتصر الإمام () في ثورته انتصاراً لم يحرزه أيّ فاتح على وجه الأرض ، فها هي الدنيا تعجّ بذكره ، وها هو حرمه يطوف به المسلمون كما يطوفون ببيت الله تعالى ، وليس هناك ضريح على وجه الأرض أعزّ ولا أرفع من ضريح أبي الأحرار ، فكان حقّاً هذا هو النصر والفتح .
العقيلة (عليها السّلام) مع الشامي ويزيد (لعنه الله)

ونظر شخص من أهل الشام إلى السيدة الزكية فاطمة بنت الإمام الحسين () فقال ليزيد : هب لي هذه الجارية لتكون خادمة عندي .
وقد ظنّ أنّها من الخوارج فيحق له أن تكون خادمة عنده ، ولمّا سمعت العلوية ذلك سرت الرعدة بأوصالها ، وأخذت بثياب عمّتها مستجيرة بها , فانبرت العقيلة (عليها السّلام) وصاحت بالرجل :
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 6 / 226 ، سورة البقرة / 247 .
الصفحة (309)

كذبت ولؤمت ، ما ذلك لك ولا لأميرك .
واستشاط الطاغية غضباً من استهانة العقيلة به وتحدّيها لشأنه ، فقال لها : كذبت ، إنّ ذلك لي ، ولو شئت لفعلت .
فنهرته العقيلة (عليها السّلام) ووجّهت له سهاماً من منطقها الفياض قائلة : كلاّ والله ما جعل لك ذلك , إلاّ أن تخرج من ملّتنا ، وتدين بغير ديننا .
وفقد الطاغية إهابه ؛ فقد أهانته أمام الطغمة من أهل الشام , فصاح بالحوراء : إياي تستقبلين بهذا ! إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك .
ولم تحفل العقيلة (عليها السّلام) بسلطانه ولا بقدرته على البطش والانتقام ، فردّت عليه بثقة : بدين الله ودين أبي وجدّي اهتديت أنت وأبوك إن كنت مسلماً .
وأزاحت العقيلة بهذا الكلام الذي هو أشدّ من الصاعقة الستار الذي تستّر به الطاغية من أنّ الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السّلام) من الخوارج ؛ فقد استبان لأهل الشام أنّهم ذرّية رسول الله ، وأنّ يزيد كاذب بادّعائه .
وصاح الرجس الخبيث بالعقيلة : كذبتِ يا عدوّة الله .
ولم تجد العقيلة (عليها السّلام) جواباً تحسم به مهاترات الطاغية ، غير أن قالت : أنت أمير مسلّط ، تشتم ظلماً ، وتقهر بسلطانك .
وتهافت غضب الطاغية وأطرق برأسه إلى الأرض ، فأعاد الشامي كلامه إلى يزيد طالباً منه أن تكون بنت رسول الله () خادمة عنده , فصاح به يزيد : وهب الله لك حتفاً قاضياً(1) .
لقد احتفظت عقيلة الوحي بقواها الذاتية ، وإرادتها الواعية الصلبة التي
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 6 / 265 .

يتبع












عرض البوم صور الشيخ عباس محمد   رد مع اقتباس
قديم 02-08-2015, 11:30 PM   المشاركة رقم: 5
معلومات العضو
الشيخ عباس محمد

إحصائية العضو







 
 


التوقيت

التواجد والإتصالات
الشيخ عباس محمد غير متواجد حالياً

كاتب الموضوع : الشيخ عباس محمد المنتدى : منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها)
افتراضي

ورثتها من جدّها رسول الله () ، فقابلت الطاغية بهذا الكلام المشرّف الذي حقّقت به أعظم الانتصار .
يقول بعض الكتاب : وقد حقّقت زينب () ـ وهي في ضعفها واستكانتها ـ أوّل نصر حاسم على الطغاة وهم في سلطانهم وقوّتهم ؛ فقد أفحمته المرّة بعد المرّة ، وقد أظهرت للملأ جهله ، كما كشفت عن قلّة فقهه في شؤون الدين ؛ فإنّ نساء المسلمين لا يصحّ مطلقاً اعتبارهنَّ سبايا ومعاملتهنَّ معاملة السبي في الحروب(1) .
وأكبر الظنّ أن كلام الشامي كان فاتحة انتقاد ليزيد ، وبداية لتسرّب الوعي عند الشاميّين ؛ وآية ذلك أنّه لم يكن الشامي بليداً إلى هذا الحدّ ؛ فقد كان يكفيه ردّ الحوراء عليه وعلى يزيد ، ومقابلتها ليزيد بالعنف الذي أخرجته من ربقة الإسلام إن استجاب لطلب الشامي ، وهذا ممّا يشعر أنّ طلبه كان مقصوداً لأجل فضح يزيد .
النياحة على الحسين ()

وطلبنَ عقائل الوحي من الطاغية أن يفرد لهنَ بيتاً ليقمنَ فيه مأتماً على سيّد الشهداء () ؛ فقد نخز الحزن قلوبهنَّ , فلم يكن بالمستطاع أن يبدينَ ما ألمّ بهنّ من عظيم الأسى ؛ خوفاً من الجلاوزة الجفاة الذين جهدوا على منعهنَّ من البكاء على أبي عبد الله () .

يقول الإمام زين العابدين () : (( كلّما دمعت عين واحد منّا قرعوا رأسه بالرمح )) .

واستجاب يزيد لذلك ، فأفرد لهنَّ بيتاً , فلم تبقَ هاشمية ولا قرشيّة إلاّ لبسنَ السواد حزناً على الحسين () . وخلدنَ بنات الرسالة إلى النياحة سبعة أيام ، وهنّ يندبنَ سيّد الشهداء () بأقسى ما تكون الندبة ، وينحنَ على الكواكب من نجوم آل عبد المطلب ،
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 390 .
الصفحة (311)

وقد اهتزت الأرض من كثرة نياحهنَّ وبكائهنَّ(1) .
وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض ما عانته سيدة النساء زينب (عليها السّلام) من المصائب في دمشق .
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 392 . ولم تمكث سبايا أهل البيت (عليهم السّلام) زمناً كثيراً في دمشق ؛ فقد خشي الطاغية من وقوع الفتنة ووقوع ما لا تحمد عقباه ؛ فقد أحدث خطاب العقيلة زينب (عليها السّلام) وخطاب الإمام زين العابدين () انقلاباً فكرياً في جميع الأوساط الشعبيّة والأندية العامة ، وأخذ الناس يتحدّثون عن زيف وكذب الدعاية الاُمويّة من أنّ السبايا من الخوارج ، وإنّما هم من صميم الاُسرة النبويّة .

وقد جوبه يزيد بالنقد حتّى في مجلسه ، ونقم عليه القريب والبعيد ، وقد رأى الطاغية أن يسرع في ترحيل مخدّرات الرسالة إلى يثرب ليتخلّص ممّا هو فيه ، وقبل ترحيلهم أمر بأنطاع من الأبريسم ففرشت في مجلسه ، وصبّ عليها أموالاً كثيرة وقدّمها لآل البيت (عليهم السّلام) ؛ لتكون دية لقتلاهم وعوضاً لأموالهم التي نُهبت في كربلاء ، وقال لهم : خذوا هذا المال عوض ما أصابكم .
والتاعت مخدّرات الرسالة ، فانبرت إليه العقيلة اُمّ كلثوم ـ وأكبر الظنّ أنّها زينب (عليها السّلام) ـ فصاحت به : ما أقلّ حياءك وأصلف وجهك ! تقتل أخي وأهل بيتي وتعطيني عوضهم !
وقالت السيدة سكينة : والله , ما رأيت أقسى قلباً من يزيد ، ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شرّاً منه ،
الصفحة (314)

ولا أجفا منه !(1) .
وباء الطاغية بالفشل ؛ فقد حسب أنّ أهل البيت (عليهم السّلام) تغريهم المادة ، ولم يعلم أنّهم من صنائع الله ؛ فقد أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً .
السفر إلى يثرب

وعهد الطاغية إلى النعمان بن بشير أن يصحب ودائع رسول الله () إلى يثرب ويقوم برعايتهنَّ(2) , كما أمر بإخراجهنّ ليلاً من دمشق ؛ خوفاً من الفتنة واضطراب الرأي العام(3) .
وصول النبأ إلى يثرب

وانتهى نبأ الكارثة الكبرى بمقتل سبط الرسول () إلى يثرب قبل وصول السبايا إليها ، وقد حمل النبأ عبد الملك السلمي إليها بأمر من ابن مرجانة ، وقد وافى به عمرو بن سعيد الأشدق حاكم المدينة ، فاهتزّ فرحاً وسروراً ، وقال : واعية بواعية عثمان(4) .
وأمر بإذاعة ذلك بين الناس , فهرعوا وقد علاهم البكاء نحو الجامع النبوي ،
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 414 .
(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 300 .
(3)(4) حياة الإمام الحسين () 3 / 416 .
الصفحة (315)

وأسرع الأشدق إلى الجامع فاعتلى أعواد المنبر , وأظهر أحقاده وسروره بمقتل سبط الرسول () , فقال : أيّها الناس ، إنّها لدمة بلدمة ، وصدمة بصدمة ، كم خطبة بعد خطبة ، حكمة بالغة فما تُغني النذر ، لقد كان يسبّنا ونمدحه ، ويقطعنا ونصله ، كعادتنا وعادته ، ولكن كيف نصنع بمَنْ سلّ سيفه علينا يريد قتلنا إلاّ أن ندفعه عن أنفسنا ؟
وقطع عليه عبد الله بن السائب خطابه ، فقال له : لو كانت فاطمة حيّة ورأت رأس الحسين لبكت عليه .

وكان هذا أوّل نقد يُجابه به حاكم المدينة ، فصاح به : نحن أحقّ بفاطمة منك ؛ أبوها عمّنا ، وزوجها أخونا ، واُمّها ابنتنا ، ولو كانت فاطمة حيّة لبكت عليه ، وما لامت مَنْ قتله(1) . لقد زعم الأشدق أنّ سيدة النساء فاطمة (عليها السّلام) لو [رأت] رأس عزيزها لما لامت قاتله , ولباركته ؛ لأنّ في ذلك دعماً لحكم الاُمويِّين ، وتشييداً لعروشهم ، وبسطاً لسلطانهم الذي حمل جميع الاتجاهات الجاهليّة .
إنّ سيدة النساء لو كانت حيّة ورأت فلذة كبدها في عرصات كربلاء وهو يعاني من الخطوب والكوارث التي لم تجرِ على أيّ إنسان منذ خلق الله الأرض لذابت نفسها حسرات . وقد روى عليّ () عن رسول الله () أنّه قال : (( تُحشر ابنتي فاطمة يوم القيامة ومعها ثياب مصبوغة بدم ولدها ، فتتعلّق بقائمة من قوائم العرش ، فتقول : يا عدل , احكم بيني وبين قاتل ولدي . فيحكم
ـــــــــــــــــــــ
(1) مقتل الحسين () ـ المقرّم / 417 .
الصفحة (316)

لابنتي وربّ [الكعبة](*) ))(1) .
ويقول الشاعر :
لا بـدّ أن تردَ القيامةَ فاطمٌ وقميصها بدمِ الحسينِ ملطّخُ

فجيعة بني هاشم

وفُجع الهاشميون بقتل زعيمهم ، وعلا الصراخ والعويل من بيوتهم ، وخرجت السيدة زينب بنت عقيل ناشرة شعرها وهي تصيح : وا محمداه ! وا حسيناه ! وا إخوتاه ! وا اُهيلاه ! وجعلت تخاطب المسلمين قائلة :
مـاذا تـقولونَ إذ قـالَ النبي لكمْ مـاذا فـعلتم وأنـتم آخـرُ الأُممِ
بـعترتي و بـأهلي بـعدَ مفتقدي مـنهم أُسارى ومنهم ضُرّجوا بدمِ
ما كانَ هذا جزائي إذ نصحتُ لكمْ أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي

فأجابها أبو الأسود وهو غارق في البكاء يقول : ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ، وعلاه الجزع وراح يقول :
أقولُ وزادني حنقاً وغيظاً أزالَ اللهُ مـلكَ بني زيادِ
وأبعدهم كما بعدوا وخافوا كما بعدت ثمودُ وقومُ عادِ
ولا رجعت ركائبهم إليهمْ إذا وقفت إلى يومَ التنادِ(2)
ـــــــــــــــــــــ
(*) وردت المفردة هنا (وربِّ الجنة) , وهي مخالفة لجميع ما أوردته المصادر الاُخرى التي ذكرت ما أثبتناه , ولعله من خطأ النساخ . (موقع معهد الإمامين الحسنين)
(1) الصراط السوي في مناقب آل النبي () / 93 .
(2) مجمع الزوائد 9 / 199 ، المعجم الكبير ـ الطبراني 1 / 140 .
الصفحة (317)
مأتم عبد الله بن جعفر

وأقام عبد الله بن جعفر زوج العقيلة زينب (عليها السّلام) مأتماً على ابن عمّه سيّد شباب أهل الجنّة ، وجعل الناس يفدون عليه زرافات ووحداناً وهم يعزّونه بمصابه الأليم ، وكان عنده بعض مواليه يُسمّى أبا السلاسل , فأراد أن يتقرّب إليه ؛ لأنّ عبد الله قد استشهد ولداه مع الإمام الحسين () , فقال : ماذا لقينا من الحسين ؟!
ولمّا سمع ابن جعفر مقالته حذفه بنعله ، وقال له : يابن اللخناء ، تقول ذلك في الحسين ! والله لو شهدته لأحببت أن لا اُفارقه حتّى اُقتل معه ، والله إنّه لما يُسخى بنفسي عن ولدي ، ويهونّ عليّ المصاب بهما أنّهما اُصيبا مع أخي وابن عمّي مواسين له صابرين معه .

وأقبل على حضّار مجلسه فقال لهم : الحمد لله ، لقد عزّ عليّ المصاب بمصرع الحسين أن لا أكون واسيته بنفسي , فقد واساه ولداي(1) .
رأس الإمام () في المدينة

وأرسل الطاغية يزيد رأس ريحانة رسول الله وسيّد شباب أهل الجنّة إلى المدينة المنوّرة ؛ لإشاعة الرعب والخوف والقضاء على كلّ حركة ضدّه ، وجيء بالرأس الشريف إلى عمرو بن سعيد الأشدق حاكم المدينة ، فأنكر ذلك وقال : وددت والله أنّ أمير المؤمنين لم يبعث إلينا برأسه .
وكان في مجلسه الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم , فهزأ منه وقال :
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 4 / 357 .


بئس ما قلت ! هاته .
وأخذ مروان رأس الإمام وهو جذلان مسرور ، وجعل يهزّ أعطافه بشراً وسروراً , ويقول بشماتة :
يا حبّذا بردُكَ في اليدينِ ولونُكَ الأزهرُ في الخدينِِ

وجيء برأس الإمام () فنصب في جامع الرسول () ، وهرعنّ نساء آل أبي طالب إلى القبر الشريف بلوعة وبكاء ، فقال مروان :
عجّت نساءُ بني زبيد عجةً كعجيجِ نسوتنا غداةَ الأرنبِ

وجعل مروان يبدي سروره ، وهو يقول : والله لكأنّي أنظر إلى أيام عثمان(1) . ثمّ التفت إلى قبر النبي () فخاطبه : يا محمّد ، يوم بيوم بدر(2) .
لقد ظهرت الأحقاد الاُمويّة بهذا الشكل الذي ينمّ عن جاهليّتهم وكفرهم ، وأنّهم لم يؤمنوا بالإسلام طرفة عين .
السبايا في كربلاء

وطلب سبايا أهل البيت (عليهم السّلام) من الوفد الموكّل بحراستهم أن يعرّج بهم إلى كربلاء ليجدّدوا عهداً بقبر سيد الشهداء ، ولبّى الوفد طلبتهم فانعطفوا بهم إلى كربلاء ، وحينما انتهوا إليها استقبلنَ السيدات قبر الإمام أبي عبد الله بالصراخ والعويل ، وسالت الدموع منهنَّ كلّ مسيل ، وقضينَ ثلاثة أيام في كربلاء ، ولم تهدأ لهنَّ عبرة
ـــــــــــــــــــــ
(1) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان 5 / 101 .
(2) شرح نهج البلاغة 4 / 72 .
الصفحة (319)

حتى بُحّت أصواتهنَّ , وتفّتت قلوبهنَّ ، وخاف الإمام زين العابدين () على عمّته زينب (عليها السّلام) وباقي العلويات من الهلاك ، فأمرهنَّ بالسفر إلى يثرب , فغادرنَ كربلاء بين صراخ وعويل(1) .
إلى يثرب

واتّجه موكب أُسارى أهل البيت (عليهم السّلام) إلى يثرب ، وأخذ يجدّ في السير لا يلوي على شيء ، وقد غامت عيون بنات رسول الله () بالدموع وهنَّ ينحنَ ويندبنَ قتلاهنّ ، ويذكرنَ بمزيد من اللوعة ما جرى عليهنَّ من الذلّ .

وكانت يثرب قبل قدوم السبايا إليها ترفل في ثياب الحزن على اُمّ المؤمنين السيدة اُمّ سلمة زوجة النبي () ؛ فقد توفّيت بعد قتل الحسين () بشهر كمداً وحزناً عليه(2) .
نعي بشر للإمام ()

ولمّا وصل الإمام زين العابدين () بالقرب من المدينة نزل وضرب فسطاطه , وأنزل العلويات ، وكان معه بشر بن حذلم , فقال له : (( يا بشر ، رحم الله أباك لقد كان شاعراً ، فهل تقدر على شيء منه ؟ )) .
ـ بلى يابن رسول الله .
ـ (( فادخل المدينة وانع أبا عبد الله )) .
وانطلق بشر إلى المدينة ، فلمّا انتهى إلى الجامع النبوي رفع صوته مشفوعاً بالبكاء قائلاً :
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين () 3 / 422 .
(2) اللهوف / 116 .
الصفحة (320)
يا أهلَ يثربَ لا مقامَ لكم بها قُـتلَ الحسينُ فأدمعي مدرارُ
ألجسمُ منهُ بكربلاء مُضرّجٌ و الرأسُ منهُ على القناةِ يُدارُ

وهرعت الجماهير نحو الجامع النبوي وهي ما بين نائح وصائح تنتظر من بشر المزيد من الأنباء ، وأحاطوا به قائلين : ما النبأ ؟
ـ هذا علي بن الحسين مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ، وأنا رسوله إليكم اُعرّفكم مكانه .
وعجّت الجماهير بالبكاء ، ومضوا مسرعين لاستقبال آل رسول الله () الذي برّ بدينهم ودنياهم ، وساد البكاء وارتفعت أصوات النساء بالعويل , وأحطنَ بالعلويات ، كما أحاط الرجال بالإمام زين العابدين () وهم غارقون بالبكاء ، فكان ذلك اليوم كاليوم الذي مات فيه رسول الله () .
خطاب الإمام زين العابدين ()

وخطب الإمام زين العابدين () خطبة مؤثرة تحدّث فيها عمّا جرى على آل البيت (عليهم السّلام) من القتل والتنكيل والسبي والذلّ , ولم يكن باستطاعة الإمام () أن يقوم خطيباً ؛ فقد أحاطت به الأمراض والآلام , فاستدعى له بكرسي فجلس عليه ، ثمّ قال : (( الحمد لله ربّ العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، بارئ الخلائق أجمعين ، الذي بَعُد فارتفع في السموات العُلا ، وقرب فشهد النجوى ، نحمده على عظائم الاُمور ، وفجائع الدهور ، وألم الفواجع ، ومضاضة اللواذع ، وجليل الرزء ، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظّة , الفادحة الجائحة .
الصفحة (321)

أيّها القوم ، إنّ الله تعالى ـ وله الحمد ـ ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الإسلام عظيمة ؛ قُتل أبو عبد الله () وعترته ، وسُبي نساؤه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان ، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية .
أيّها الناس ، فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله , أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله ، أم أيّة عين منكم تحبس دمعها وتضنّ عن انهمالها ؛ فلقد بكت السبع الشداد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسماوات بأركانها ، والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان في لجج البحار ، والملائكة المقرّبون , وأهل السموات أجمعون ؟!
أيّها الناس ، أيّ قلب لا ينصدع لقتله , أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه , أم أيّ سمع يسمع هذه الثلمة التي ثُلمت في الإسلام ولا يصم ؟!
أيّها الناس ، أصبحنا مطرودين مشرّدين ، مذودين شاسعين عن الأمصار ، كأنّنا أولاد ترك أو كابل ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين ، إن هذا إلاّ اختلاق .
والله ، لو أنّ النبيّ () تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأوجعها , وأفجعها وأكظّها , وأفظعها وأفدحها ،
الصفحة (322)

فعند الله نحتسب فيما أصابنا وأبلغ بنا إنّه عزيز ذو انتقام )) .
وعرض الإمام () في خطابه إلى المحن السود التي عانتها الاُسرة النبويّة ، وما جرى عليها من القتل وسبي النساء ، وغير ذلك ممّا تتصدّع من هوله الجبال .

وانبرى إلى الإمام () صعصعة فألقى إليه معاذيره في عدم نصرته للحسين () , فقبل الإمام عذره , وترحّم على أبيه . ثمّ زحف الإمام () مع عمّاته وأخواته وقد أحاطت به الجماهير , وعلت أصواتهم بالبكاء والعويل , فقصدوا الجامع النبوي ، ولمّا انتهوا إليه أخذت العقيلة بعضادتي باب الجامع ، وأخذت تخاطب جدّها الرسول وتعزيه بمصاب ريحانته قائلة : يا جدّاه ، إنّي ناعية إليك أخي الحسين(1) .
وأقامت العلويات المأتم على سيد الشهداء () ، ولبسنَ السواد ، وأخذن يندبنه بأقسى وأشجى ما تكون الندبة .
مكافأة الحرس

وقام الحرس بخدمات ورعاية إلى السيدات ، فالتفتت السيدة فاطمة بنت الإمام أمير المؤمنين () , فقالت للعقيلة زينب (عليها السّلام) : لقد أحسن هذا الرجل إلينا فهل لك أن نصله بشيء ؟
فأجابتها العقيلة (عليها السّلام) : والله ما معنا شيء نصله به إلاّ حليّنا .
ـ نعم ، هو ما تقولين .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مقتل الحسين () ـ المقرّم / 472 .
الصفحة (323)

وأخرجن سوارين ودملجين وبعثتا بهما إليه , واعتذرتا له ، وتأثّر الرجل من هذا الكرم الغامر وهو يعلم ما هنَّ فيه من الضيق والشدّة ، فقال لهما باحترام : لو كان الذي صنعت للدنيا لكان في هذا ما يرضيني ، ولكن والله ما فعلته إلاّ لله , ولقرابتكم من رسول الله ()(1) .
حزن العقيلة (عليها السّلام)

وخلدت عقيلة آل أبي طالب إلى البكاء على انقراض أهلها(2) ، وكانت لا تجفّ لها عبرة ولا تفتر عن البكاء ، وكانت كلّما نظرت إلى ابن أخيها الإمام زين العابدين () يزداد وجيبها وحزنها ، وقد نخب الحزن قلبها الرقيق المعذّب حتّى صارت كأنّها صورة جثمان فارقته الحياة .
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 6 / 366 ، تاريخ ابن الأثير 3 / 300 .
(2) حياة الإمام الحسين () 3 / 428 .
الصفحة (324)
الصفحة (325)
إلى جنّة المأوى

وخلدت حفيدة الرسول () في يثرب إلى البكاء والنحيب ، وأخذت تراودها صباحاً ومساءً تلك الذكريات المروعة التي جرت على أخيها في صعيد كربلاء ، وما عاناه من الكوارث القاصمة التي تذوب من هولها الجبال ، فكانت دموعها تجري في كلّ لحظة على أخيها واُسرتها الذين حصدت رؤوسهم سيوف البغي ، ومثّلت بأجسامهم العصابات المجرمة .
لقد أخذت تلوح أمامها تلك المناظر الحزينة التي تعصف بالصبر حتّى ضاقت بها الأرض ، ولم تلبث أن ترفع صوتها عالياً مشفوعاً بالألم والبكاء قائلة : وا حسيناه ! وا أخاه ! وا عبّاساه ! وا أهل بيتاه ! وا مصيبتاه !

ثمّ تهوي إلى الأرض مغمىً عليها وقد صارت شبحاً ، وذوت كما ذوت اُمّها زهراء الرسول من قبل ، وكان أحبّ شيء لها مفارقة الدنيا والالتحاق بجدّها الرسول () ؛ لتشكو إليه ما عانته من الرزايا والأسر والسبي ، وما جرى على أخيها


من القتل والتمثيل .

ونتحدّث بإيجاز عن وفاتها ، وما قيل في زمانها ، والمكان الذي حظي بمرقدها .
إلى جنّة المأوى(*)

ولم تمكث العقيلة (عليها السّلام) بعد كارثة كربلاء إلاّ زمناً قليلاً حتّى تناهبت الأمراض جسمها ، وصارت شبحاً لا تقوى حتّى على الكلام ، ولازمت الفراش وهي تعاني آلام المرض ، وما هو أشقّ منه وهو ما جرى عليها من الرزايا ، وكانت ماثلة أمامها حتّى الساعات الأخيرة من حياتها .

وقد وافتها المنية ولسانها يلهج بذكر الله وتلاوة كتابه ، وقد صعدت روحها الطاهرة إلى السماء كأسمى روح صعدت إلى الله ، تحفّها ملائكة الرحمن وتستقبلها أنبياء الله ، وهي ترفع إلى الله شكواها وما لاقته من المحن والخطوب التي لم تجرِ على أيّ إنسان منذ خلق الله الأرض .
الزمان

انتقلت العقيلة () إلى جوار الله تعالى على أرجح الأقوال يوم الأحد لخمسة عشر مضين من شهر رجب سنة (62هـ)(1) ، وقد آن لقلبها الذي مزّقته الكوارث أن يسكن , ولجسمها المعذّب أن يستريح .
الأقوال في مرقدها

واختلف المؤرّخون في البقعة التي حظيت بجثمانها المعظم ، وهذه بعض الأقوال :
ـــــــــــــــــــــ
(*) هكذا ورد العنوان هنا مكرراً مع ما في الصفحة التي سبقته , وهي طريقة لا نكاد نجد لها نظيراً في جميع الكتب التي تمّ تصحيحها وتقويمها من قِبل موقعنا . (موقع معهد الإمامين الحسنين)
(1) السيدة زينب وأخبار الزينبيات ـ العبيدلي / 9 .
الصفحة (327)
1 ـ في البقيع

وذهب بعض المؤرّخين إلى أنّها توفّيت في يثرب ودفنت في بقيع الغرقد .

ويواجه هذا القول إنّها لو دفنت هناك لكان لها مرقد خاص كما هو الحال في غيرها من السادة المعظّمين من أبناء الاُسرة النبويّة . ومن المحتمل أنّها أوصت أن تُدفن في غلس الليل البهيم ، ويُعفى موضع قبرها ؛ تأسّياً باُمّها زهراء الرسول () .
2 ـ في الشام

وأفاد فريق من المؤرّخين أنّها توفّيت في إحدى قرى الشام , ويعزو بعضهم سبب سفرها إلى الشام أنّه حدثت في يثرب مجاعة عظيمة فهرب منها عبد الله بن جعفر مصاحباً معه زوجته العقيلة وسائر عائلته ، ولمّا انتهت العقيلة إلى ذلك المكان توفّيت فيه .

وحدوث المجاعة فيما نعتقد لا أساس له من الصحة ؛ لأنّ المؤرّخين والرواة لم يذكروا أنّه حدثت مجاعة في يثرب في ذلك الوقت , مضافاً إلى أنّ عبد الله بن جعفر كان من الأثرياء المعدودين في المدينة ، فهل ضاق نطاقه عن إعاشة عائلته حتّى يذهب إلى الشام ؟ كما إنّه كان من أندى الناس كفّاً ، ومن أكثرهم إسعافاً وعطاءً إلى الفقراء والبؤساء ، فكيف يتركهم ينهشهم الجوع وينهزم إلى الشام التي هي مقرّ السلطة الاُمويّة التي نكبته بسيّد أُسرته وابن عمّه الإمام الحسين () , وبولديه وغيرهما من أبناء الاُسرة النبويّة ؟!
وعلى أيّ حال ، فإنّ المشهور في الأوساط الإسلاميّة أنّ قبر العقيلة في الشام حيث هو قائم الآن ، وقد اُحيط بهالة من التقديس والتعظيم ، وتؤمّه الملايين من الزائرين متبرّكين ومتوسّلين به إلى الله تعالى ، شأنه شأن مرقد أخيها أبي الأحرار () الذي صار أعزّ مرقد في الأرض .

والذي نذهب إليه هو أنّ قبرها الشريف في الشام , وإليه ذهب الكثيرون من المحقّقين .
الصفحة (328)
3 ـ في مصر

وذهب جمهرة من المؤرّخين إلى أنّ قبر الصدّيقة الطاهرة زينب (عليها السّلام) في مصر ، وهذا هو المشهور عند كافّة المصريين .

ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للحديث عن سبب هجرتها لمصر ، وما يتعلّق بمرقدها المعظّم .
سبب هجرتها لمصر

وذكر المؤرّخون أنّ العقيلة (عليها السّلام) أخذت تلهب العواطف ، وتستنهض المسلمين للأخذ بثأر أخيها والانتفاض على السلطة الاُمويّة ، والتي كان من نتائجها أنّ المدينة أخذت تغلي كالمرجل ، وأعلنت العصيان المسلح على حكم الطاغية يزيد ، فأرسل إليها جيشاً مكثّفاً بقيادة الإرهابي المجرم مسلم بن عقبة فأنزل بالمدنيّين أقصى العقوبات ، وأكثرها صرامة وقسوة ، وأرغمهم على أنّهم خول وعبيد ليزيد ، ومَنْ أبى منهم نفّذ فيه حكم الإعدام .

وعلى أيّ حال ، فإنّ عمر بن سعيد الأشدق والي يثرب خشي من العقيلة (عليها السّلام) ، وكتب إلى يزيد خطرها عليه , فأمره بإخراجها من المدينة إلى أيّ بلد شاءت , فامنتعت وقالت : قتل ـ أي يزيد ـ خيارنا ، وساقنا كما تُساق الأنعام ، وحملنا على الأقتاب ، فوالله لا أخرج وإن اُهرقت دماؤنا .
وانبرت إليها السيدة زينب بنت عقيل ، فكلّمتها بلطف قائلة : يا بنت عمّاه ، قد صدقنا الله وعده ، وأورثنا الأرض نتبوّء منها حيث نشاء ، فطيبي نفساً ، وقرّي عيناً ، وسيجزي الله الظالمين ، أتريدين بعد هذا هواناً ؟ ارحلي إلى بلد آمن .
واجتمعنَ السيدات من نساء بني هاشم وتلطّفنَ معها في الكلام فأجابت , واختارت الهجرة إلى مصر ، وصحبنها في السفر السيّدة فاطمة بنت الإمام الحسين (عليها السّلام)
الصفحة (329)

واُختها سكينة (عليها السّلام) .

وانتهت إلى مصر لأيام بقيت من ذي الحجّة ، وقد استقبلها والي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري فأنزلها في داره بالحمراء , فأقامت فيه أحد عشر شهراً وخمسة عشر يوماً ، وانتقلت إلى جوار الله عشية يوم الأحد لخمسة عشر يوماً مضت من رجب سنة (62هـ) ، ودُفنت في دار مسلمة حيث مرقدها الآن في مصر .

هكذا ذكر العبيدلي(1) وغيره(2) .
زيارة المرقد

ويؤمّ المصريون وغيرهم من المسلمين المرقد المعظّم خصوصاً في يوم الأحد المصادف لليوم الذي توفّيت فيه العقيلة (عليها السّلام) ؛ فإنّهم يزدحمون على زيارته بما فيهم من العلماء والفقهاء ، وقد زارها في هذا اليوم كافور الأخشيدي ، وأحمد بن طولون ، والظافر بنصر الله الفاطمي ، وكان يأتي حاسر الرأس مترجّلاً , ويتصدّق عند القبر الشريف على الفقراء ، واقتدى به ملوك مصر واُمراؤها .
وإذا حلّ شهر رجب ، وهو الشهر الذي توفّيت فيه العقيلة (عليها السّلام) ، زحفت الجماهير إلى المرقد المعظّم , ويقيم الكثيرون فيه إلى النصف من رجب ، وهم يتلون كتاب الله والأدعية الشريفة ، وقد ذكر ذلك العبيدلي(3) .
عمارة المرقد

واُجريت على المرقد المعظّم في مصر عدّة عمارات وإصلاحات من قبل بعض
ـــــــــــــــــــــ
(1) السيدة زينب وأخبار الزينبيات / 21 .
(2) إسعاف الراغبين / 196 ، لواقح الأنوار ـ الشمراني / 23 ، الإتحاف بحبّ الأشراف / 93 ، مشارق الأنوار / 100 .
(3) السيدة زينب وأخبار الزينبيات / 60 ـ 61 .
الصفحة (330)

المحسنين من ملوك ووزراء وغيرهم ، كان منهم ما يلي :
1 ـ أمير مصر ونقيب الأشراف الزينبيّين ، الشريف فخر الدين ثعلب الجعفري الزينبي ؛ فقد أشاد عمارة مهمّة على المرقد الشريف .
2 ـ الأمير علي باشا الوزير ، والي مصر من قبل السلطان سليمان خان ؛ فقد شيّد المرقد وأضاف إليه مسجداً يتّصل به وذلك في سنة (956هـ) .
3 ـ الأمير عبد الرحمن كتخدا ؛ فقد عمّر المرقد وأنشأ به ساقية وحوضاً وذلك في سنة (1174هـ) .
4 ـ وفي سنة (1212هـ) ظهر صدع في بعض حوائط المسجد , فندبت حكومة عثمان المرادي لتجديده وإنشائه , فابتدأ العمل إلاّ أنّه توقّف لدخول الفرنسيّين لمصر ، وأكمله بعد ذلك الوزير يوسف باشا وذلك في سنة (1326هـ) .

وأرّخ ذلك بأبيات خطّت على لوح من الرخام وهي :
نـورُ بنت النبي زينب يعلو مـسجداً فـيه قبرها والمزارُ
قد بناه الوزير صدر المعالي يـوسف و هو للعلا مختارُ
زاد جلاله كما قلت و مسـ ـجد مـشـرق بــه أنــوارُ !

وحالت دون إتمام عمارته بعض الموانع فأكمله محمّد علي باشا الكبير جدّ الاُسرة العلوية .
5 ـ سعيد باشا ، أمر بتجديد الوجهة الغربية والبحرية من الضريح ، وذلك في سنة (1276هـ) , وبعد تمام العمارة كتب على لوح من الرخام التأريخ , وهذا نصه :
فـي ظـلّ أيـام السعيد محمد ربّ الفخار مليك مصر الأفخمِ
من فائض الأوقاف أتحف زينباً عون الورى بنت النبيّ الأكرمِ
مَن يأت ينوي للوضوء مؤرّخاً ويـسعد فإنّ وضوءَه من زمزمِ
الصفحة (331)

وكتب على باب المقام هذا البيت :
يا زائريها قفوا بالباب وابتهلوا بنت الرسول لهذا القطر مصباحُ

وليست العقيلة مصباحاً وشرفاً لمصر ، وإنّما هي فخر ونور لجميع أقاليم العالم الإسلامي .
6 ـ الخديوي محمّد توفيق باشا ، جدّد الباب المقابل لباب القبّة ، جدّده بالمرمر المصري والتركي وذلك في سنة (1294هـ) ، وفي سنة (1297هـ) أمر بتجديد القبّة والمسجد والمنارة , وتمّ البناء في سنة (1302هـ) ، وكتب على أبواب القبّة الشريفة هذه الأبيات :
باب الشفاعةِ عند قبّة زينبٍ يـلقاه غـادٍ لـلمقام ورائحُ
من يمن توفيق العزيز مؤرّخ نور على باب الشفاعة لائحُ

كما كتبت هذه الأبيات :
قـف توسّل بباب بنت عليّ بـخضوع وسـل إله السماءِ
تـحظ بـالعزّ والقبول وأرّخ باب اُخت الحسين باب العلاءِ

كما رسمت هذه الأبيات :
رفـعوا لـزينب بنت طه قبّةً عـلياء مـحكمة البناء مشيّدهْ
نور القبول يقول في تأريخها باب الرضا والعدل باب السيّدهْ

وفي هذا التأريخ نقشت القبّة والمشهد بنقوش رائعة وبديعة ، كان ذلك بأمر محمّد توفيق ، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن المرقد المعظم في مصر(1) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) زينب الكبرى / 125 ـ 126 .
الصفحة (332)

ويتشرف ويسمو كلّ قطر اُقيم فيه لسيّدة النساء العقيلة زينب (عليها السّلام) مرقد أو مقام ، فهي بحكم مواريثها وصفاتها أفضل سيّدة خلقها الله بعد اُمّها زهراء الرسول ، وبهذا تنطوي الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب .



والحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين












عرض البوم صور الشيخ عباس محمد   رد مع اقتباس
إضافة رد


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
حياة زينب ع 2 الشيخ عباس محمد منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها) 3 02-08-2015 11:23 PM
حياة زينب ع 1 الشيخ عباس محمد منتدى السيدة زينب (سلام الله عليها) 3 02-08-2015 11:18 PM
حجاب فاطمه الزهراء والسيده زينب عليهما السلام الوردة الفاطمية منتدى الزهراء البتول (سلام الله عليها) 7 19-04-2014 10:04 AM
مشهد من حياة أم المصائب زينب عليها السلام الخادم الصغير منتدى أهل البيت (عليهم السلام) 11 09-06-2012 04:50 PM
نبذة مختصرة من حياة السيدة زينب(عليها السلام) عاشق ابي عبد الله منتدى الوصي المرتضى (سلام الله عليه) 5 17-10-2010 02:02 PM


أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

Loading...

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات احباب الحسين