العودة   منتديات احباب الحسين عليه السلام > القسم الاسلامي > المنتدى الاسلامي العام
المنتدى الاسلامي العام يختص بكل مواضيع الثقافة الإسلامية على مذهب أهل البيت (عليهم السلام)
روابط مفيدة مشاركات اليوم البحث


نظرية الكسب في أفعال العباد

المنتدى الاسلامي العام


إضافة رد
   
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 29-12-2014, 10:35 PM   رقم المشاركة : 1
الكاتب

العلوية ام موسى الاعرجي

الصورة الرمزية العلوية ام موسى الاعرجي


الملف الشخصي









العلوية ام موسى الاعرجي غير متواجد حالياً


نظرية الكسب في أفعال العباد

تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين.
أمّا بعد، فهذه رسالة موجزة وضعتُها لتبيين معالم نظرية الكسب التي تبنّاها الإمام الأشعري وأشاعها في الأوساط العلمية.
وحقيقة تلك النظرية عبارة عن أنّ اللّه سبحانه هو الخالق و العبد هو الكاسب، وأنّ الخلق والإيجاد في أفعال الإنسان من اللّه سبحانه، والكسب والاكتساب من العبد، فالثواب والعقاب لأجل الكسب.
ولمّا كان القول بنظرية الكسب نابعاً من القول بالتوحيد في الخالقية وحصرها في اللّه سبحانه بالمعنى الذي اختاره أهل الحديث، يجب تبيين نظريتهم في هذا الأصل، ثمّ تبيين نظرية الكسب التي تبنّاها الأشعري وغيره لدفع وصمة الجبر عن أفعال العباد، وإيضاح المراحل التي مرّت على النظرية عبْر قرون.
فتبيين الحقّ في عامّة جوانب الموضوع يأتي ضمن فصول:
1
التوحيد في الخالقية
عند أهل الحديث
إنّ من الأُصول المسلَّمة عند أهل الحديث( [1]) ـ وتبعهم الإمام الأشعري ـ انّ أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه وليس للإنسان أيُّ دور في إيجاد أفعاله وإنشائها، بل كلّ ما في الكون من الجواهر والأعراض مخلوق للّه سبحانه بالمباشرة، وليس بينه سبحانه و عالم الكون أيّ واسطة في الإيجاد والإفاضة حتّى على نحو الظلِّية والتبعيَّة ولو بإذن اللّه سبحانه.
وبعبارة أُخرى: ليس في صفحة الوجود مؤثّر أصلي وتبعي، ذاتي وظلّي إلاّ اللّه سبحانه، وهو تعالى اسمُه، قائم مكان عامّة العلل التي تتصوّرها الفلاسفة والمتكلّمون ـ وأخصُّ بالذكر علماء الطبيعة ـ عللاً مؤثّرة ولو بإذنه تعالى ولا يشذُّ منه فعل الإنسان فهو مخلوق للّه سبحانه، خلقاً مباشرياً ويعبّر عنه بـ«خلق الأعمال» أو «خلق الأفعال».
قد انتقل الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (260ـ 324هـ) من الاعتزال ـ بعد ما قضى أربعة عقود من عمره فيه ـ إلى منهج أهل السنّة وبالأخص منهج الإمام أحمد ابن حنبل (164ـ 241هـ)، وقد دخل جامع البصرة وارتقى كرسياً ونادى بأعلى صوته: أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان; كنت أقول بخلق القرآن، وانّ اللّه لا تراه الأبصار، وانّ أفعال الشر أنا أفعلها; وأنا تائب مقلع، معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم.( [2])
ولأجل إيقاف القارئ الكريم على حقيقة التوحيد في الخالقية بالمعنى الذي تبنّاه الإمام أحمد وبعده الإمام الأشعري نأتي ببعض نصوصهم.
1. قال الشيخ الأشعري في الباب الثاني من كتاب«الإبانة» في عقائد أهل الحديث:
إنّه لا خالق إلاّ اللّه، وإنّ أعمال العبد مخلوقة للّه ومقدورة كما قال: (وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تعمَلُون) ( [3]) . وانّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يُخْلَقون، كما قال سبحانه: (هَلْ مِنْ خالِق غَيرُ اللّه) ( [4]) . ( [5])
2. وقال في «مقالات الإسلاميّين» عند نقل عقائد أهل الحديث وأهل السنّة: واقرّوا: انّه لا خالق إلاّ اللّه، وانّ سيئات العباد يخلقها اللّه، وانّ أعمال العباد يخلقها اللّه عزّ وجلّ، وانّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً.( [6])
3. وقال في «اللمع»: إن قال قائل: لم زعمتم أنّ أكساب العباد مخلوقة للّه تعالى؟ قيل له: قلنا ذلك لأنّ اللّه تعالى قال: (وَاللّه خلَقكُم وما تَعْمَلُون) وقال : (جزاء بِما كانُوا يَعْمَلُون) ، فلمّا كان الجزاء واقعاً على أعمالهم كان الخالق لأعمالهم.( [7])
وترى لِدَّة هذه العبارات في غير واحد من الرسائل التي أُلّفت لبيان عقيدة أهل الحديث والأشاعرة ـ التي اشتُقَّت من أهل الحديث ـ ننقل منها ما يتعلّق بالمتأخرين منهم.
4. قال السيد الشريف الجرجاني في «شرح المواقف»: إنّ أفعال العباد الاختيارية، واقعة بقدرة اللّه سبحانه وحدها وليس لقدرتهم تأثير فيها، واللّه سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختياراً، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما، فيكون فعل العبد مخلوقاً للّه إبداعاً وإحداثاً ومكسوباً للعبد، والمراد بكسبه إيّاه، مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك من تأثير ومدْخل في وجوده، سوى كونه محلاً له، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري.( [8]) 5. وقال الزبيدي في «إتحاف السادة»: إنّ الإله، هو الذي لا يمانعه شيء، وإنّ نسبة الأشياء إليه على السويّة، وبهذا بطل قول المجوس وكلّ من أثبت مؤثراً غير اللّه من علّة أو طبع أو ملك أو إنس أو جن ، و لذلك لم يتوقف علماء ماوراء النهر في تكفير المعتزلة حيث جعلوا التأثير للإنسان.( [9])
وهذا المقدار من النصوص يكفي فيما هو المقصود(وما أبعد بينه و بين ما يمرّ عليك من ابن تيميّة من أنّ أكثر أهل السنّة يعترفون بالعلل الطبيعية) .
وحاصل تلك العقيدة هو إنكار الأسباب والمسبّبات في صحيفة الوجود عامّة، فليس هنا إلاّ خالق واحد هو اللّه سبحانه وما سواه مخلوق، و ليس بين الخالق وعامّة المخلوقات أيُّ سبب تبعي أو علّة يؤثر بإذنه سبحانه.
وعلى ضوء هذا التفسير: أنكروا العلّيّة والمعلولية والتأثير والتأثّر بين الموجودات الإمكانية، فزعموا انّ آثار الظواهر الطبيعية كلّها مفاضة منه سبحانه من دون أن يكون هناك رابطة بين الظاهرة المادية وآثارها، فعلى مذهبهم «النار حارّة» بمعنى انّه جرت سنّة اللّه على إيجاد الحرارة عند وجود النار مباشرة من دون أن تكون هناك علقة بين النار وحرارتها، والشمس وإضاءتها، والقمر وإنارته، بل عادة اللّه سبحانه جرت على إيجاد الضوء والنور مباشرة عقيب وجود الشمس والقمر دون أن يكون هناك نظام وقانون تكويني باسم العلّيّة والمعلولية، وعلى ذلك فليس في صفحة الوجود إلاّ علّة واحدة، ومؤثر واحد، يؤثّر بقدرته وسلطانه في كلّ الأشياء من دون أن يُعمل سبحانه قدرته ويظهر سلطانه عن طريق إيجاد الأسباب والمؤثرات، بل هو بنفسه شخصياً قائم مقام جميع ما يُتصور من العلل والأسباب التي كشف عنها العلم طيلة قرون.
وقد سادت هذه الفكرة على شرائح واسعة من العلماء والمفكّرين طيلة عصور متمادية، فيقولون: «جرت عادة اللّه على خلق هذا بعد ذلك» أي خلق الحرارة بعد النار والبرودة بعد الماء، وقد بلغ إصرارهم على إنكار أصل العلّّيّة حداً كفّروا من يتفوّه بالعلّيّة أو مقتضى الطبيعة ـ كما نقله الزبيدي ـ.
وهذا هو الأزهر كان يُدّرس فيها قول الناظم:
ومن يقل بالطبع أو بالعلّة *** فذاك كفـر عند أهل الملّـة
نعم ظهر في الآونة الأخيرة مفكِّرون آثروا اتّباع الحقّ على تقليد الأئمة وأصحروا بالحقيقة كما تأتي أسماؤهم ونصوصهم فانتظر.
2
التوحيد في الخالقية عند الإماميّة ( [10])
اتّفق أهل القبلة ـ إلاّ من شذّ كالمعتزلة ـ على التوحيد في الخالقية وانّه لا خالق إلاّ اللّه سبحانه، وقد قامت الإمامية منهم بتفسيره بوجه لا ينافي القول بنظام الأسباب والمسبّبات والعلل الطبيعية ومعاليلها، وإليك حاصل نظريتهم.
إنّ الخالقية المستقلّة النابعة من الذات، غير المعتمدة على شيء منحصرة باللّه سبحانه ولا يشاركه فيها شيء، وأمّا غيره سبحانه فإنّما يقوم بأمر الخلق والإيجاد بإذن منه وتسبيب، ويعدّ الكلّ جنوداً للّه سبحانه، يعملون بتمكين منه لهم .ويظهر هذا المعنى من ملاحظة الأُمور التالية:
الأوّل: لا يشك المتدبّر في الذكر الحكيم في أنّه كثيراً ما يُسنِد آثاراً إلى الموضوعات الخارجية والأشياء الواقعة في دار المادة، كالسماء وكواكبها ونجومها والأرض وجبالها وبحارها وبراريها وعناصرها ومعادنها والسحاب والرعد والبرق والصواعق والماء والأعشاب والأشجار والحيوان والإنسان إلى غير ذلك من الموضوعات الواردة في القرآن الكريم. فمن أنكر إسناد القرآن آثار تلك الأشياء إلى أنفسها فإنّما أنكره باللسان، وقلبه مطمئن بخلافه، وسيوافيك في الفصل التالي شيء من الآيات الناصّة على ذلك.
الثاني: انّ القرآن يُسند إلى الإنسان أفعالاً لا يقوم بها إلاّ هو، ولا يصحّ إسنادها إلى اللّه سبحانه بلا واسطة، كأكله وشربه ومشيه وقعوده ونكاحه وحربه وجداله وصلاته وصيامه، فهذه أفعال قائمة بالإنسان مستندة إليه، فهو الذي يأكل ويشرب ويحارب ويجادل ويفهم و يصلّي و يصوم وهو سبحانه منزّه عن هذه الأفعال.
الثالث: انّ اللّه سبحانه أمر الإنسان بالطاعة أمر إلزام، ونهاه عن المعصية نهيَ تحريم، فيجزيه بالطاعة، ويعاقبه بالمعصية. فلو لم يكن للإنسان دور في ذلك المجال، وتأثير في الطاعة والعصيان فما هي الغاية من الأمر والنهي، وما معنى الجزاء والعقوبة؟!
وهذه الأُمور الثلاثة إذا قارنها الباحث إلى قوله سبحانه: (قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلّ شَيء وَهُوَ الْواحدُ القَهّار) ( [11]) الذي يدلّ على بسط فاعليته وعلّيته على كلّ شيء، يَستنتج منها انّ النظام الإمكاني على اختلاف هويّاته وأنواعه، فعّال ومؤثر في آثاره، لكن بتقديره سبحانه ومشيئته وإذنه وهو القائل جلّ وعلا:(الّذي أعطى كلّ شَيء خَلْقَهُ ثُمّ هَدى) ( [12]) والقائل تعالى: (والّذي قَدّرَ فَهَدى) ( [13]) ، وأنّ مظاهر الكون وأعمالها وآثارها وحركاتها وسكناتها تنتهي إلى قضائه وتقديره وهدايته وإجرائه نظام الأسباب والمسببات في صحيفة الكون.
فعلى هذا فالأشياء في جواهرها وذواتها وحدود وجودها وخصوصياتها تنتهي إلى الخلقة الإلهية، كما أنّ أفعالها التي تصدر عنها في ظل تلك الخصوصيات تنتهي إليه أيضاً وليس العالم ومجموع الكون إلاّ مجموعة متوحّدة يتّصل بعضها ببعض ويتلاءم بعضها مع بعض، ويؤثر بعضها في بعض، واللّه سبحانه وراء هذا النظام ومعه وبعده ولا خالق ولا مدبّر حقيقة وبالأصالة إلاّ هو كما لا حول ولا قوة إلاّ باللّه.
وبعبارة أُخرى:انّ التدبر في الآيات الواردة في التوحيد في الخالقية إذا فسّرت على نحو التفسير الموضوعي( [14]). يثبت أنّ آثار الموجودات الإمكانية آثار لها، وفي الوقت نفسه تنتهي الأسباب إلى اللّه سبحانه. فجميع هذه الأسباب والمسببات يرتبط بعضها ببعض ويؤثر بعضها في بعض، وفي الوقت نفسه مرتبطة باللّه سبحانه وإليه ينتهي النظام الإمكاني والعلل والمعاليل.
وليس السبب منقطعاً عن اللّه، وفي الوقت نفسه ليس المسبب فعلاً مباشرياً له سبحانه فبذلك يجمع بين القول بحصر الخالقية في اللّه سبحانه، والقول بنظام العلل والمعاليل المنتهية إليه والقائمة به، فالخالقية المستقلة النابعة من الذات، منحصرة باللّه سبحانه، والخالقية الظلية والتبعية، النابعة من قدرته سبحانه من خصائص النظام الإمكاني، ولنعم قول القائل: «فالفعل فعل اللّه وهو فعلنا».
وباختصار: إنّ العوالم الممكنة من عاليها إلى سافلها متساوية النسبة إلى قدرته سبحانه، فالجليل والحقير، والثقيل والخفيف عنده سواسية، لكن ليس معنى «المساواة» هو قيامه تعالى بكلّ شيء مباشرة، وخلع التأثير عن الأسباب والعلل، بل يعني أنّ اللّه سبحانه يُظهر قدرته وسلطانه عن طريق خلق الأسباب، وبعث العلل نحو المسببات والمعاليل، والكلّ مخلوق له، ومظاهر قدرته وحوله، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه.
فالأشعري، خلع الأسباب والعلل ـ وهي جنود اللّه سبحانه ـ عن مقام التأثير والإيجاد، كما أنّ المعتزلي( [15]) عزل سلطانه عن ملكه وجعل بعضاً منه في سلطان غيره، أعني: فعل العبد في سلطانه.
والحقّ الذي عليه البرهان ويصدّقه الكتاب هو كون الفعل موجوداً بقدرتين، لكن لا بقدرتين متساويتين، ولا بمعنى علّتين تامّتين، بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأُولى وشؤونها وجنودها:(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ) ( [16]) وقد جرت سنّة اللّه تعالى على خلق الأشياء بأسبابها، فجعل لكلّ شيء سبباً، وللسبب سبباً، إلى أن ينتهي إليه سبحانه، والمجموع من الأسباب الطولية علّة واحدة تامّة كافية لإيجاد الفعل، والتفصيل يطلب من محله، ونكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصادق (عليه السلام) :«أبى اللّه أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب، فجعل لكلّ شيء سبباً وجعل لكلّ سبب شرحاً».( [17])
وبهذه النظرية ـ أي نظرية كون العالم مخلوقاً على النظام السببي و المسببي وانّ فيه فواعل اضطرارية كما أنّ فيه فواعل اختيارية ـ تتناسق الأُمور الثلاثة الماضية( [18]) وتتوحّد نتائجها، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بالنظرية الأُولى فانّها توجب التضاد بين الأُمور الثلاثة المسلمة.
3
مضاعفات حصر الخالقية
على ضوء التفسير الأشعري
قد تقدّم انّ المسلمين إلاّ من شذّ تبعاً للذكر الحكيم والبراهين العقلية اتّفقوا على حصر الخالقية في اللّه سبحانه وعدُّوه من مراتب التوحيد ولا يصحّ الحصر ولا ينسجم مع سائر الأُصول إلاّ إذا فسر على النحو الذي مرّ آنفاً، فالقول بهذا الحصر ـ على ما فسرنا ـ لا ينافي الإيمان بالعلل والأسباب الطولية والنظام السائد على العالم من العلّية والمعلولية، المنتهي إلى اللّه سبحانه.
غير انّ الإمام الأشعري ومن تبعه أخذوا بظواهر بعض الآيات فأنكروا أصل التأثير حتّى الظلي والتبعي في غيره سبحانه ولم يعترفوا إلاّ بعلة واحدة وهي اللّه سبحانه، القائم مكان عامة العلل، فجعلوا الظواهر كلّها مخلوقة للّه بالمباشرة وبلا توسط سبب وكأنّ من أنكر ذلك التفسير فقد أنكر التوحيد في الخالقية، غير انّ ذلك التفسير مردود من جهات نشير إلى بعضها.
الأُولى: تصريح القرآن بتأثير العلل الطبيعة
إنّ القرآن الكريم يصرح بوضوح كامل بتأثير بعض الأشياء في بعض ويكشف عن نظام سائد على العالم نظاماً عليّاً ومعلولياً، سببياً ومسببياً، ونحن نذكر في المقام بعض الآيات:
1. (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ وَجَنّاتٌ مِنْ أَعْناب وَزَرعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوان يُسْقَى بِماء واحِد وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلى بَعْض فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذلكَ لآيات لِقَوْم يَعْقِلُونَ) .( [19])
وجملة (يُسقَى بِماء واحِد) كاشفة عن دور الماء وأثره في إنبات النباتات ونمو الأشجار، ومع ذلك يفضل بعض الثمار على بعض.
وأوضح دليل على ذلك قوله تعالى في الآيتين التاليتين:
2. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) .( [20])
3. (أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلى الأَرْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) .( [21])
ففي هاتين الآيتين يصرح الكتاب العزيز ـ بجلاء ـ بتأثير الماء في الزرع، إذ أنّ «الباء» تفيد السببية ـ كما تعلم ـ.
4. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبال فِيهَا مِنْ بَرَد فَيُصيبُ بِهِ من يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصارِ) .( [22]) ففي هذه الآية نرى ـ لو أمعنا النظر ـ كيف بيّن القرآن الكريم المقدّمات الطبيعية لنزول المطر والثلج من السماء من قبل أن يعرفها العلم الحديث ويطّلع عليها بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية واكتشاف عللها ومقدّماتها.
فقبل أن يتوصل العلم الحديث إلى معرفة ذلك ـ بزمن طويل ـ سبق القرآن إلى بيان تلك المقدّمات في عبارات هي:
1. يزجي(يحرك) سحاباً.
2. ثمّ يؤلّف (ويركِّب) بينه.
3. ثمّ يجعله ركاماً (أي كتلة متراكمة متكاثفة).
فينسب هذه المراحل إلى اللّه تعالى. ثمّ يقول:
4. فترى الودق (أي المطر) يخرج من خلاله.
5. يكاد سنابرقه يذهب بالأبصار.
وهكذا يصرح اللّه سبحانه بتأثير الأسباب والعلل الطبيعية في المرحلتين الأخيرتين، غاية ما هنالك أنّ تأثير هذه العلل والأسباب بإذن اللّه ومشيئته بحيث إذا لم يشأ هو سبحانه لتعطلت هذه العلل عن التأثير.
5. (اللّهُ الّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) .( [23])
وأيّة جملة أوضح من قوله: (فَتُثيرُ سَحاباً) أي الرياح، فالرياح في نظر القرآن هي التي تثير السحاب وتسوقه من جانب إلى جانب آخر.
إنّ الإمعان في عبارات هذه الآية يهدينا إلى نظرية القرآن ورأيه الصريح حول «تأثير العلل الطبيعية بإذن اللّه».
ففي هذه الجمل جاء التصريح:
1. بتأثير الرياح في نزول المطر.
2. وتأثير الرياح في تحريك السحب.
3. كما جاء التصريح بانتساب انبساط السحب في السماء إلى اللّه. 4. وتجمع السحب ـ فيما بعد ـ على شكل قطع متراكمة إلى اللّه سبحانه.
5. ثمّ نزول المطر بعد هذه التفاعلات والمقدمات.
فإذا ينسب القرآن هذين الأمرين ـ الثالث والرابع ـ إلى اللّه وانّه (هو) يبسط السحاب في السماء و(هو) الذي يجعله كسفاً، فإنّما يقصد ـ من وراء ذلك ـ التنبيه إلى مسألة «التوحيد الأفعالي» الذي يعبّر عنه بالتوحيد في الخالقية، وفي الوقت نفسه«لا منافاة بين هذه النسبة والقول بتأثير العلل الطبيعية في بسط السحب وجمعها.
على أنّ الآيات التي تؤكد على دور العلل الطبيعية وتأثيرها المباشر وتعتبر العالم مجموعة من الأسباب للمسببات التي تعمل بإرادة اللّه وإذنه، وتكون فاعليتها فرعاً من فاعليته سبحانه، أكثر من أن ينقل في المقام، وفيما ذكرنا من الآيات كفاية لمن تدبّر.
الثانية: انتفاء الغاية من إيجاد القدرة في الإنسان
إذا صحّ تقسيم الفاعل إلى فاعل قادر مختار، يتوصّل إلى مقاصده بالمشيئة وإعمال القدرة; وفاعل مضطرّ، يقع مصدراً للآثار، من دون إرادة وإعمال القدرة، فالإنسان من مصاديق القسم الأوّل بل من أفضل مصاديقه، فهو يصدر عن فكر ورويّة وميل واشتياق، وعزم وجزم، وإعمال للقدرة التي وهبها اللّه سبحانه له، وهذا شيء يدركه وجدان كلّ إنسان حرّ التفكير ولا يبطله أي دليل وبرهان حتّى أنّ الشيخ الأشعري استدلّ على كون الإنسان مختاراً في فعله، بالفرق بين الحركتين: الاكتسابية والاضطرارية فقال: فإذا كانت حركة المرتعش من الفالج والمرتعد من الحمى حركة اضطرارية، وإذا كانت الحركة الأُخرى بخلاف هذا الوصف لم يكن اضطراراً، لأنّ الإنسان في ذهابه ومجيئه، وإقباله وإدباره بخلاف المرتعش من الفالج والمرتعِد من الحمى، يعلم الإنسان التفرقة بين الحالين من نفسه وغيره علمَ اضطرار لا يجوز معه الشك.( [24])
فإذا كان هذا حال الإنسان وهذه مواهبه وعطاياه، فما هي الغاية من خلق القدرة في الإنسان التي لا دور لها في الإنشاء والإيجاد، سوى حديث المقارنة، مقارنة القدرة مع الحادثة من دون أن يكون بين قدرة العبد وفعله أي صلة .
إنّ إبعاد قدرة العبد عن التأثير في مصير الإنسان، يضادّ وجدانَ كلّ فاعل، أوّلاً، ويُضفي على تزويد الإنسان بها، شأن اللغوية ثانياً، ويُعرِّف خالق القدرة لاعباً ثالثاً، قال سبحانه:(وَما خَلَقنا السماء والأَرضَ وما بيْنَهُما لاعِبِين) .( [25])
إنّ التوحيد في الخالقية، من المعارف العليا القرآنية والتي لم يصل إليها حتى الأوحدي من الفلاسفة إلاّ عن طريق التدبّر في آيات الذكر الحكيم، ومن خالفه من المعتزلة فإنّما خالفه بزعم انّه يخالف عدلَه وتنزيهه سبحانه غير انّ الذي يخالف عدله، ويضاد تنزيهه، هو حصر الخالقية بالمعنى الذي تبنّاه أهل الحديث والأشاعرة، فانّه يضاد كونه حكيماً، عادلاً، نزيهاً عن اللغو واللعب حيث خلق في الإنسان القدرة التي لا دور لها في حياته في عاجله وآجله، وأمّا تفسيره على النهج الذي عرفت وقد سار عليه أئمة أهل البيت فهو يدعم كونه سبحانه حكيماً، عادلاً، نزيهاً من اللغو والعبث.
وكم من عائب قولاً صحيحاً *** و آفتـه مــن الفهـم السقيـم
الثالثة: كلّ فاعل مسؤول عن فعله
إنّ العقلاء قاطبة ـ حتى أهل الحديث والأشاعرة ـ يرى الإنسان مسؤولاً عن فعله وعمله، وليس المحسِن والمسيء عندهم سواسية، بل يُثاب الأوّل، ويُعاقب الثاني، كلّ وفقَ عمله، ومدى مسؤوليته، وهذا فرع أن يكون للفاعل دور في فعله، وعمله، ولو أصاب رأسه حجر فأدماه، فيحمّل مسؤولية الإدماء على عاتق الرامي، دون الحجر، وذلك لأنّ له شعوراً وارادة، دون الآخر، وعلى ضوء ذلك يصف الذكر الحكيم بأنّ الإنسانَ مسؤول عن عمله ويقول: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤولون) ( [26]) بل يعد أدوات المعرفة أيضاً، مسؤولة ويقول (إِنَّ السَّمعَ والبصرَ والفُؤادَ كُلُّ أُولئكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤولاً) ( [27]) ، وذلك لأنّها بيد الإنسان، أداة طيّعة يستخدمها كيف ما شاء.
فإذا كان هذا لسانَ العقل والعقلاء وصريحَ الذكر الحكيم فلو كانت أفعاله وأعماله، مخلوقة للّه، على نحو تفقد صلتَها بالإنسان، فما معنى كونه مسؤولاً عن عمل، قام به غيره، أو مجزياً بفعل غيره، وليس لجسمه أو روحه دور، سوى كونه ظرفاً و وعاءً لفعل الغير يخلقه فيه.
إذ كيف يثاب أو يعاقب على ما ليس له فيه شأن؟! وكيف يكون معاقباً وقد جنى غيره وفق قول القائل:
غيري جنى وأنا المعاقَبُ فيكم *** فكأنني سبّابة المتندم
إنّ هذه التوالي الفاسدة التي يدركها كلّ إنسان واع ووجدان حرّ دفعت الشيخ الأشعري، ومن لفّ لفّه إلى الخروج عن هذا المأزق باختراع «نظرية الكسب» حتّى يتخلّصوا ممّا يترتب على خلق الأعمال من التوالي الفاسدة، فإذا قيل لهم: كيف يُثاب المرء أو يُعاقب على عمل لم يوجده هو؟ وكيف يتفق هذا مع ما هو مقرّر في عدالة اللّه وحكمته في تكليف خلقه؟
أجابوا: انّ العباد وإن لم يكونوا خالقين لأعمالهم لكنّهم كاسبون لها، وهذا الكسب هو مناط التكليف ومدار الثواب والعقاب وبه يتحقّق عدل اللّه وحكمته فيما شرّع للمكلّفين.
قالوا: إنّ هنا نصوصاً تثبت بأنّه لا خالق إلاّ هو، كقوله (اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْء) ( [28])، (هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ اللّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالأَرْض) ( [29]) إلى غير ذلك.
وبجانب هذا توجد نصوص، تَنسب أعمال العباد إليهم، وتُعلّق رضوان اللّه للمحسنين منهم وتعلّق غضبه للمسيئين منهم و يقول:(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) ( [30]) ، (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها)( [31]) إلى غير ذلك من الآيات.
فحملوا النصوص الأُولى على الخلق، وحملوا الثانية على الكسب جمعاً بين الأدلّة، فإذا قيل ما هذا الكسب؟ وما يراد به؟ وهل هو أيضاً موجود أو معدوم؟ فمالوا يميناً ويساراً حتّى يأتوا به تفسيراً معقولاً مع أنّه مضت على النظرية قرون عشرة لكنّها بقيت في محاق الإبهام، بل دخلت أخيراً في مدحرة الإنكار، وهذا هو الذي ندرسه في الفصول المقبلة بعد مقدّمة موجزة.
4
نظرية الكسب
بين
التفسير، والتكامل، والإبطال
قد تعرفت على أنّ القول بالتوحيد في الخالقية ـ الذي يعبّر عنه اليوم بعموم القدرة والإرادة ـ بالتفسير الذي قام به أهل الحديث والأشاعرة، صار ذا مضاعفات عديدة، أهمها: كون الإنسان مجبوراً لا مختاراً، مسيّراً لا مخيّراً، غير مسؤول عن عمله وفعله، لأنّ الفعل فعل اللّه لا فعله، وهو خالقه وموجده وليس له دور، سوى كونه وعاءً لفعل اللّه سبحانه.
كما تعرّفت على أنّ الشيخ الأشعري قد وقف على ما يترتب على تفسيره من النتائج الفاسدة، حاول أن يتخلّص من ذلك المأزق بطرح نظرية الكسب حتّى يكون للإنسان دور في مجال أفعاله وأعماله فصار سهم الخالق هو الإيجاد والإنشاء وسهم الإنسان هو الكسب والاكتساب، والثواب والعقاب على الكسب.
وقد مرّت على النظرية مراحل مختلفة عبر أجيال، وذلك لأنّ باذر الفكرة وغارسها مرّ عليها بإجمال دون أن يفسّرها ويبيّنها، فأخذ روّاد منهج الأشعري بتبيينها وتفسيرها تارة، وتطويرها وإكمالها ثانياً، إلى أن وصلت النوبة إلى العقول الحرّة، فأنكروها وأبطلوها وصرّحوا بأنّها نظرية لا تسمن ولا تغني من جوع وانّ المضاعفات و التوالي الفاسدة باقية بحالها، فها نحن نشرح كلّ واحد من هذه المراحل في فصل خاص حتى تسهل الإحاطة بها.
المرحلة الأُولى
في تبيين النظرية وتفسيرها
يظهر من غير واحد من كُتّاب تاريخ العقائد والمناهج الكلامية انّ الإمام الأشعري لم يكن مبتكراً لنظرية الكسب، بل لها جذور في كلمات من سبق عليه كجهم بن صفوان (المتوفّى128هـ) وضرار بن عمرو العيني الذي يعدّ من رجال منتصف القرن الثالث.
قال القاضي عبد الجبار: إنّ جهم بن صفوان ذهب إلى أنّ أفعال العباد لا تتعلّق بنا وقال: إنّما نحن كالظروف لها، حتى أنّ ما خلق فينا كان وإن لم يخلق لم يكن.
وقال ضرار بن عمرو: إنّها متعلّقة بنا ومحتاجة إلينا، ولكن جهة الحاجة إنّما هي الكسب، فقد شارك جهماً في المذهب وزاد عليه في الإحالة.( [32])
إنّ الشيخ الأشعري نقل في كتاب «مقالات الإسلاميّين واختلاف المصلّين» انّ ضرار بن عمرو ممّن كان يذهب إلى أنّ العبد كاسب، قال: والذي فارق ضرار بن عمرو به المعتزلة، قوله: إنّ أعمال العباد مخلوقة وانّ فعلاً واحداً لفاعلين أحدهما خَلَقَه وهو اللّه، والآخر اكتسبه وهو العبد، وانّ اللّه عزّ وجلّ فاعل لأفعال العباد في الحقيقة، وهم فاعلون لها في الحقيقة.( [33])
وقد نقل العلاّمة الحلّي نظرية الكسب عمّن تقدّم على الشيخ الأشعري كالنجّار وحفص الفرد.( [34])
فسواء أكانت النظرية للإمام الأشعري أم لغيره، فقد مرّت عليها مراحل أُولاها، مرحلة التبيين والتفسير حتى تخرج عن الإبهام والغموض.
مرحلة التبيين
قد حاول غير واحد من أعيان الأشاعرة، أن يرفع النقاب عن وجه النظرية منهم الغزالي(450ـ505هـ) من مشاهير الأشاعرة في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس فقام بإيضاحها بكلام مبسوط يتلخّص فـي العنـوان التالي:
1. الكسب صدور الفعل من اللّه، عند حدوث القدرة في العبد
قال: ذهبت المجبرة إلى إنكار قدرة العبد فلزمها إنكار ضرورة التفرقة بين حركة الرعدة، والحركة الاختيارية، ولزمها أيضاً استحالة تكاليف الشرع. وذهبت المعتزلة إلى إنكار تعلّق قدرة اللّه تعالى بأفعال العباد من الحيوانات والملائكة والجن والإنس والشياطين، وزعمت أنّ جميع ما يصدر منها، من خلق العباد واختراعهم، لا قدرة اللّه تعالى عليها بنفي ولا إيجاب، فلزمتها شناعتان عظيمتان: إحداهما: إنكار ما أطبق عليه السلف من أنّه لا خالق إلاّ اللّه، ولا مخترع سواه.
والثانية: نسبة الاختراع والخلق إلى قدرة من لا يعلم ما خلقه، كأعمال النحل والعنكبوت وغيرهما من الحيوانات التي تقوم بأعاجيب الأعمال وغرائبها، ثمّ قال: وإنّما الحقّ إثبات القدرتين على فعل واحد، والقول بمقدور منسوب إلى قادرين، فلا يبقى إلاّ استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد. وهذا إنّما يبعد إذا كان تعلّق القدرتين على وجه واحد، فإن اختلفت القدرتان، واختلف وجه تعلّقهما فتوارد التعلّقين على شيء واحد غير محال، كما نبيّنه.
ثمّ إنّه حاول بيان تغاير الجهتين، وحاصل ما أفاد هو: إنّ الجهة الموجودة في تعلّق قدرته سبحانه على الفعل غير الجهة الموجودة في تعلّق قدرة العبد. والجهة في الأُولى جهة إيجادية تكون نتيجتُها وقوعَ الفعل في الخارج، وحصوله في العين. والجهة في القدرة الثانية جهة أُخرى، وهي صدور الفعل من اللّه سبحانه عند حدوث القدرة في العبد. فلأجل ذلك تُسمّى الأُولى خالقاً ومخترعاً، دون الثانية، فاستعير لهذا النمط من النسبة اسم الكسب تيمّناً بكتاب اللّه تعالى.
هذا توضيح مرامه وإليك نصّ عبارته: لما كانت القدرة (قدرة العبد) والمقدور جميعاً بقدرة اللّه تعالى: سُمّي خالقاً و مخترعاً، ولمّا لم يكن المقدور بقدرة العبد وإن كان معه، فلم يسمّ خالقاً ولا مخترعاً.( [35])
ثمّ اعترض على نفسه بما هذا حاصله: كيف تصحّ تسمية القدرة المخلوقة في العبد قدرة، إذا لم يكن لها تعلّق بالمقدور، فإنّ تعلق القدرة بالمقدور ليس إلاّ من جهة التأثير والإيجاد ـ وحصول المقدور بها ـ و أجاب عنه: بأنّ التعلّق ليس مقصوراً على الوقوع بها، بل هناك تعلّق آخر غير الوقوع، نظير تعلّق الإرادة بالمراد، والعلم بالمعلوم، فإنّهما يتعلّقان بمتعلّقهما بتعلّق، غير الوقوع ضرورة أنّ العلم ليس علّة للمعلوم، فإذاً لابدّ من إثبات أمر آخر من التعلّق سوى الوقوع.( [36])
وقد قام التفتازاني بتفسير الجهتين في شرح مقاصده وقال: لمّا بطل الجبر المحض بالضرورة، وكون العبد خالقاً لأفعاله بالدليل، وجب الاقتصاد في الاعتقاد، وهو انّها مقدورة بقدرة اللّه تعالى اختراعاً وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلّق يعبّـر عنه بالاكتساب وليس من ضرورة، تعلّق القدرة بالمقدور أن يكون على وجه الاختراع.( [37])
يلاحظ عليه: أنّ الغزالي لم يأت في تفسير نظرية الكسب بأمر جديد ولم يزد التفتازاني شيئاً على بيانه، وحاصله يتلخّص في كلمتين:
1. إنّ دور قدرة العبد ليس إلاّ دور المقارنة، فعند حدوث القدرة في العبد يقوم سبحانه بخلق الفعل.
2.إنّ للتعلّق أنواعاً ولا تنحصر في الإيجاد والوجود، والإيقاع والوقوع، بل هناك جهة أُخرى يُعبّر عنها بالكسب ـ فالعبد مصدر لهذه الجهة، وبذلك يسمّى كاسباً ـ.
ومع هذا التطويل فالإشكال باق بحاله، فإنّ وقوع الفعل مقارناً لقدرة العبد، لا يُصحّح نسبة الفعل إلى العبد، ولا تحمّل مسؤوليته، فإنّ نسبة المقارن إلى المقارن كنسبة تكلم الإنسان إلى نزول المطر في الصحراء، فإذا لم يكن لقدرة العبد تأثير في وقوع الفعل، كيف يصحّ في منطق العقل التفكيك بين الحركة الاختيارية، والحركة الاضطرارية؟ والغزالي بكلامه هذا نقض ما ذكره في صدر البحث حيث ردّ على المجبّرة بوجدان الفرق بين الحركتين، وهذا الفرق لا يتعقّل إلاّ في ظل تأثير قدرة العبد على الوقوع والوجود.
وأضعف من ذلك تنزيل تعلّق قدرة العبد بتعلّق العلم على المعلوم، مع أنّ واقعية العلم وماهيته هي الكشف التابع للمكشوف، فلا يصحّ أن يكون مؤثّراً في المعلوم وموجداً له، ولكن واقعية القدرة والسلطة، واقعية الإفاضة والإيجاد، فلا يتصوّر خلعها عن التأثير مع فرضـه قـدرة كاملة وبصورة علّة تامّة.
2. الكسب: توجه قدرة العبد صوب الفعل عند صدوره من اللّه
قام التفتازاني(712ـ792هـ) في «شرح العقائد النسفية» بتفسير الكسب بالوجه التالي وهو: انّ صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل كسب، وإيجاد اللّه تعالى الفعلَ عقيب ذلك خلق. والمقدور الواحد داخل تحت قدرتين، لكن بجهتين مختلفتين. فالفعل مقدور اللّه تعالى بجهة الإيجاد، ومقدور العبد بجهة الكسب، وهذا القدر من المعنى ضروري وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن تحقيق كون فعل العبد بخلق اللّه تعالى وإيجاده، مع ما فيه للعبد من القدرة والاختيار.( [38])
ويقرب من ذلك ما في متن المواقف للعضدي وشرحه للشريف الجرجاني قالا: وأمّا التكليف والتأديب والبعثة والدعوة فانّها قد تكون دواعي للعبد، إلى الفعل واختياره، فيخلق اللّه الفعل عقيبها عادة وباعتبار ذلك الاختيار المترتب على الدواعي يصير الفعل طاعة إذا وافق ما دعاه الشرع إليه ومعصية إذا خالفه ويصير علامة للثواب والعقاب.( [39])
ويرد على ما ذكروه انّ العزم والإرادة والاختيار من الأُمور الوجودية الممكنة فمن خالقها أهو اللّه سبحانه، أم العبد؟ وعلى الأوّل يلزم الجبر وعلى الثاني ينتقص القاعدة، أعني :التوحيد في الخالقية.
ثمّ إنّ نظرية الكسب بلغت من الإبهام إلى حد أنّ القمة من مشايخ الأشاعرة كالتفتازاني يعترف بعجزه عن تفسيرها حيث قال:«وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة...».
إلى هنا تمت المرحلة الأُولى من المراحل( [40]) التي مرّت على نظرية الكسب، وهنا من سلك مسلك العلمين: الغزالي والتفتازاني في تفسير النظرية، أعرضنا عن نقله روماً للاختصار، وحان وقت الانتقال إلى المرحلة الثانية، أعني: مرحلة التطوير والتكامل.
المرحلة الثانية
مرحلة التطوير والتكامل
قد يرى الباحث في كلمات الأشاعرة في هذه المرحلة معاني و مفاهيم جديدة حول نظرية الكسب على وجه يخرجها عن الإبهام الذي كان يصحب النظرية في المرحلة الأُولى، حتى كانت النظرية موصوفة باللغز كما في قول القائل:
ممّا يقال ولا حقيقة عنده *** معقولة تدنو إلى الأفهام
الكسب عند الأشعري والحال *** عند البهشمي وطفرة النظام( [41])
فعدّ الشاعرُ نظريةَ الكسب في إحاطة الإبهام بها في عداد نظرية «الحال» عند أبي هاشم و «الطفرة» عند النظام. وهذا دليل على قصور النظرية وعدم كفايتها لحلّ العقدة، وهناك كلام متين للقاضي عبد الجبار نأتي بنصه:
قال:إنّ فساد المذهب قد يكون بأحد طريقين:
أحدهما: بأن يُبيّن فساده بالدلالة.
والثاني: بأن يُبيّن أنّه غير معقول في نفسه، وإذا ثبت أنّه غير معقول في نفسه، كفيت نفسَك مؤونة الكلام عليه، لأنّ الكلام على ما لا يعقل لا يمكن... والذي يبيّن لك صحّة ما نقوله أنّه لو كان معقولاً لكان يجب أن يعقله مخالفو المجبّرة في ذلك، من الزيدية والمعتزلة والخوارج والإمامية. فإنّ دواعيهم متوافرة، وحرصهم شديد في البحث عن هذا المعنى، فلمّا لم يوجد في واحد من هذه الطوائف ـ على اختلاف مذاهبهم، وتنائي ديارهم، وتباعد أوطانهم، وطول مجادلتهم في هذه المسألة ـ من ادّعى أنّه عقل هذا المعنى أو ظنّه أو توهّمه، دلّ على أنّ ذلك ممّا لا يمكن اعتقاده والإخبار عنه ألبتة. وأحد ما يدلّ على أنّ الكسب غير معقول، هو أنّه لو كان معقولاً لوجب ـ كما عقله أهل اللغة وعبروا عنه ـ أن يعقله غيرهم من أرباب اللغات، وأن يضعوا له عبارة تُنبئ عن معناه. فلمّا لم يوجد شيء من اللغات ما يفيد هذه الفائدة، دلّ على أنّه غير معقول.( [42])
قال الشيخ المفيد:
ثلاثة أشياء لا تُعقل، وقد اجتهد المتكلّمون في تحصيل معانيها من معتقديها بكلّ حيلة فلم يظفروا منهم إلاّ بعبارات يتناقض المعنى فيها على مفهوم الكلام:
1. اتحاد النصرانية.
2. كسب النجارية.
3. أحوال البهشمية.
إلى أن قال: ومن ارتاب فيما ذكرناه في هذا الباب فليتوصل إلى إيراد معنى ـ في واحد منها ـ معقول، والفرق ] كذا [ بينها في التناقض والفساد، ليعلم أنّ خلاف ما حكمنا به هو الصواب! وهيهات.( [43])
ولأجل وجود هذا النقص الواضح حول النظرية حاول بعض روّاد الأشاعرة الذين قامت بهم خيمة هذا المنهج وأشادوا بنيانه، ورفعوا قوائمه، ان يُفسّر النظرية مزيجة بشيء من التطوير والإكمال حتّى يخرج عن عداد الأحوال لأبي هاشم أو الطفرة للنظام، واذكر منهم الأقطاب الثلاثة :
1. أبو بكر محمد الطيب القاضي المعروف بابن الباقلاني(المتوفّى 403هـ)
إنّ القاضي الباقلاني من أئمّة الأشاعرة، فقد بذل وسعه في دعم المنهج الأشعري والذب عنه بحماس ولولا القاضي و بعض أترابه، كابن فورك الاصفهاني (المتوفّى 406هـ) لما كان للمنهج الأشعري نصيب من السعة والشمول، وقد اعتنقه ـ إلى يومنا هذا ـ عامّة أهل السنّة ـ غير أهل الحديث ـ . وقد أضفى القاضي على نظرية الكسب مفهوماً جديداً، صحّ أن يعبر عنه بالتطوير، وقال ما هذا حاصله:
الدليل قد قام على أنّ القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد، لكن ليست الأفعال أو وجوهها واعتباراتها تقتصر على وجهة الحدوث فقط، بل هاهنا وجوه أُخرى هي وراء الحدوث.
ثمّ ذكر عدّة من الجهات والاعتبارات وقال: إنّ الإنسان يفرّق فرقاً ضرورياً بين قولنا: أوجد، وبين قولنا: صلى وصام وقعد وقام. وكما لا يجوز أن تضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد، فكذلك لا يجوز أن تضاف إلى العبد، جهة ما يضاف إلى الباري تعالى.
فأثبت القاضي تأثيراً للقدرة الحادثة،وأثرها هو الحالة الخاصة، وهو جهة من جهات الفعل، حصلت نتيجة تعلّق القدرة الحادثة بالفعل، وتلك الجهة هي المتعيّنة لأن تكون مقابلة بالثواب والعقاب، فإنّ الوجود من حيث هو وجود لا يُستحق عليه ثواب وعقاب، خصوصاً على أصل المعتزلة، فإنّ جهة الحسن والقبح هي التي تقابل بالجزاء، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان وراء الوجود، فالوجود من حيث هو وجود ليس بحسن ولا قبيح.
قال: فإذا جاز لكم إثبات صفتين هما حالتان، جاز لي إثبات حالة هي متعلّق القدرة الحادثة، ومن قال هي حالة مجهولة، فبيّنا بقدر الإمكان جهتها، وعرفنا أي شيء هي، ومثلناها كيف هي.( [44])
وحاصل كلامه ـ مع ما قمنا بتلخيصه ـ: هو أنّ للقدرة الحادثة تأثيراً في حدوث العناوين والخصوصيات التي هي ملاك الثواب والعقاب، وهذه العناوين وليدة قدرة العبد، حادثة بها، وإن كان وجود الفعل حادثاً بقدرته سبحانه.
فوجود الفعل مخلوق للّه سبحانه، لكن تعنونه بعنوان الصوم والصلاة والأكل والشرب راجع إلى العبد والقدرة الحادثة فيه.
يلاحظ عليه: أنّ هذه العناوين والجهات التي صارت ملاكاً للطاعة والعصيان لا تخلو من صورتين: إمّا أن تكون من الأُمور الوجودية وعندئذ تكون مخلوقة للّه سبحانه حسب الأصل المسلم.
وإمّا أن تكون من الأُمور العدمية فعندئذ لا تكون للكسب واقعية خارجية، بل يكون أمراً ذهنياً غنياً عن الإيجاد والقدرة. ومثل ذلك كيف يكون ملاكاً للثواب والعقاب؟
وباختصار: إنّ واقعية الكسب إمّا واقعية خارجية موصوفة بالوجود فحينئذ يكون مخلوقاً للّه سبحانه، ولا يكون للعبد نصيب في الفعل، أو لا تكون له تلك الواقعية بل يكون أمراً وهمياً ذهنياً، فحينئذ لا يكون العبد مصدراً لشيء حتّى يثاب عليه أو يعاقب.
2. كمال الدين بن الهمام (789ـ861هـ)
إنّ كمال الدين محمد بن همام الدين مؤلّف كتاب «المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة»( [45]) تخلّص من المأزق بالقول بتخصيص ما دلّ على حصر الخالقية باللّه، بعزم العبد وقصده، فكلّ شيء مخلوق للّه سبحانه وهو خالقه إلاّ عزم العبد على الطاعة والعصيان فالخالق هو العبد، وإليك نصّه في ذلك المجال:
فإن قيل: لا شكّ انّه تعالى خلق للعبد قدرة على الأفعال، ولذا يدرك تفرقة ضرورية بين الحركة المقدورة وغيرها.
قلنا: إنّ براهين وجوب استناد كلّ الحوادث، إلى القدرة القديمة بالإيجاد، إنّما تلجئ إلى القول بتعلّق القدرة بالفعل بلا تأثير، لو لم تكن عمومات تحتمل التخصيص. فأمّا إذا وجد ما يوجب التخصيص فلا. لكن الأمر كذلك. وذلك المخصّص أمر عقلي، هو أنّ إرادة العموم فيها يستلزم الجبر المحض، المستلزم لضياع التكليف وبطلان الأمر والنهي.
ثمّ أوضح ذلك بقوله: لو عرّف اللّه تعالى العبد العاقل أفعالَ الخير والشر، ثمّ خلق له قدرة أمكنه بها من الفعل والترك، ثمّ كلّفه بالإتيان بالخير ووعده عليه. وترك الشر وأوعده عليه، بناء على ذلك الإقدار لم يوجب ذلك نقصاً في الإلوهية. إذ غاية ما فيه أنّه أقدره على بعض مقدوراته لحكمة صحّة التكليف واتجاه الأمر والنهي. غير أنّ السمع ورد بما يقتضي نسبة الكلّ إليه تعالى بالإيجاد وقطعها عن العباد. فلنفي الجبر المحض وصحّة التكليف وجب التخصيص، وهو لا يتوقّف على نسبة جميع أفعال العباد إليهم بالإيجاد، بل يكفي لنفيه أن يقال:
جميع ما يتوقف عليه أفعال الجوارح من الحركات، وكذا التروك التي هي أفعال النفس من الميل والداعية التي تدعو والاختيار، بخلق اللّه تعالى، لا تأثير لقدرة العبد فيه. وإنّما محلّ قدرته، عزمه عقيب خلق اللّه تعالى هذه الأُمور في باطنه عزماً مصمّماً بلا تردّد، فإذا أوجد العبد ذلك العزم، خلق اللّه تعالى له الفعل. فيكون منسوباً إليه تعالى من حيث هو حرّكه، وإلى العبد من حيث هو زنى ونحوه. فعن ذلك العزم الكائن بقدرة العبد المخلوقة للّه تعالى، صحّ تكليفه وثوابه وعقابه. وكفى في التخصيص تصحيح التكليف هذا الأمر الواحد. أعني: العزم المصمّم. وما سواه ممّا لا يحصى من الأفعال الجزئية والتروك كلّها مخلوقة للّه تعالى ومتأثّرة عن قدرته ابتداءً بلا واسطة القدرة الحادثة.( [46])
يلاحظ عليه: أنّ المجيب تصوّر أنّ القول بانحصار الخلق باللّه سبحانه يستند إلى دليل سمعي قابل للتخصيص كسائر عمومات الكتاب والسنّة في الأحكام الشرعية والسنن. ولكن القول به يستند إلى برهان عقلي غير قابل للتخصيص، وهو أنّ الممكن في ذاته وفعله قائم باللّه سبحانه، متدلّ به، وليس يملك لنفسه ذاتاً ولا فعلاً. ولا فرق في ذلك بين الأفعال الخارجية والأفعال القلبية، أعني: العزم والجزم فالكلّ ممكن، والممكن يحتاج إلى واجب في وجوده وتحقّقه، فينتج أنّ العزم والجزم في وجوده وتحقّقه محتاج إلى الواجب ومعلول لوجوده.
نعم، لو كان صاحب المسايرة وأساتذته وتلامذته ممّن يفرقون بين الخلقين: خلق على وجه الاستقلال وخلق على النحو التبعي لما صعب عليهم المقام.
3. ابن الخطيب«قدرة اللّه مانعة عن قدرة العبد»
إنّ لسان الدين ابن الخطيب يرى أنّ الكسب فعل يخلقه اللّه في العبد، كما يخلق القدرة والإرادة والعلم فيضاف الفعل إلى اللّه خلقاً لأنّه خالقه، وإلى العبد كسباً لأنّه محله الذي قام به ـ إلى أن قال: ـ إنّ الطاعة والمعصية للعبد من حيث الكسب، ولا طاعة ولا معصية من حيث الخلق، والخلق لا يصحّ أن يضاف إلى العبد، لأنّه إيجاد من عدم والفعل موجود بالقدرة القديمة لعموم تعلّق القدرة الحادثة بها.
فالقدرة الحادثة تتعلق ولا تؤثّر و هي ـ القدرة الحادثة ـ تصلح للتأثير لولا المانع و هو وجود القدرة القديمة، لأنّهما إذا تواردتا لم يكن للقدرة الحادثة تأثير.( [47])
وحاصل هذه النظرية: أنّ لقدرة العبد شأناً في التأثير لولا المانع، ولكن وجود القدرة القديمة مانع عن تأثير قدرة العبد الحادثة، ولولا سبق القدرة القديمة لكان المجال للقدرة الحادثة مفتوحاً.
يلاحظ عليه:
أوّلا: إذا كان دور الإنسان في مجال أفعاله دور الظرف والمحل، فلا معنى لإلقاء المسؤولية في الشرائع السماوية والأنظمة البشرية على عاتقه، لأنّ مكان الفعل لا يكون مسؤولاً عن الفعل المحقّق فيه، وقد صرح صاحب النظرية بكون الإنسان محلاً لإعمال قدرته سبحانه.
ثانياً: أنّ ما جاء في هذا البيان يغاير ما عليه الأشعري وأتباعه، فإنّهم لا يقيمون لقدرة الإنسان وزناً ولا قيمة، ولكن ابن الخطيب يعتقد بكونها قابلة للتأثير لولا سبق المانع وهو القدرة القديمة، ومع ذلك ليس بتام.
وذلك لأنّ فرض المانعية لإحدى القدرتين بالنسبة إلى الأُخرى إنّما يتم لو قلنا بأنّه سبحانه هو الفاعل المباشر لكلّ ما ظهر على صفحة الوجود الإمكاني، فعند ذاك يصحّ جميع ما تصوّر من أنّ قدرة الإنسان مغلوبة لقدرة الخالق، ولكنّه لم يثبت ، بل الثابت خلافه، وأنّ النظام الإمكاني نظام مؤلف من أسباب ومسببات، وكلّ مسبب يستمد ـ بإذنه سبحانه ـ عمّا تقدّمه من السبب تقدّماً زمانياً أو تقدّماً رتبياً وكمالياً.
وعلى ذاك الأصل يسقط حديث مانعية إحدى القدرتين، بل تُصبح قدرة العبد بالنسبة إلى قدرته تعالى، مجلى لإرادته ومظهراً لمشيئته، كيف وقد تعلّقت مشيئته بصدور فعل كلّ فاعل عن مبادئه التي أفاضها عليه، حتّى تكون النار مبدأً للحرارة عن إجبار واضطرار، والإنسان مصدراً لأفعاله عن قدرة واختيار، فلو قام كلّ بفعله فقد قام في الجهة الموافقة لإرادة اللّه لا المضادّة والمخالفة، فقيام هؤلاء أشبه بقيام الجنود بأمر آمرهم: (وَللّهِ جُنُودُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ وَكانَ اللّهُ عَلِيماً حَكيماً) ( [48])، (وَما يَعْلَمُ جُنُـودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ) . ( [49])
ثالثاً: أنّ هذه المحاولات والتمحّلات ناشئة عن تصوير القدرتين في عرض واحد، فلأجل ذلك يتصوّر تارة كون قدرته سبحانه مانعاً عن تأثير قدرة العبد، وأُخرى بأنّه لو تعلّقت قدرة العبد على ما تعلّقت به قدرته، يلزم توارد القدرتين على مقدور واحد.
ولكن الحقّ كون فعل العبد مقدوراً ومتعلّقاً بهما، ولا يلزم من ذلك أيّ واحد من المحذورين، لا محذور التزاحم والتمانع، ولا محذور اجتماع القدرتين التامتين على مقدور واحد، وذلك لأنّ قدرة العبد في طول قدرة اللّه سبحانه، فاللّه سبحانه بقدرته الواسعة أوجد العبد وأودع في كيانه القدرة، وأعطاه الإرادة والحرية والاختيار، فلو اختار أحد الجانبين فقد أوجده بقدرة مكتسبة من اللّه سبحانه، واختيار نابع عن ذاته، وحريّة هي نفس واقعيته وشخصيته، فالفعل منتسب إلى اللّه لكون العبد مع قدرته وإرادته، وما يحفّ به من الخصوصيات، قائم بذاته سبحانه، متدلّية بها، كما أنّه منتسب إلى الإنسان لكونه باختياره الذاتي وحريته النابعة من نفسه، اختار أحد الجانبين وصرف قدرته المكتسبة في تحقّقه، كما قال سبحانه:(وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللّه رَمى) ( [50]) ، (وَما تَشاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّه) .( [51])
فنفى عنه الرمي بعد إثباته له، وأثبت له المشيئة في ظل المشيئة الإلهية.
وما جاء في هذه الآيات من المعارف الإلهية لا يصل إليها إلاّ المتأمّل في آي الذكر الحكيم، وما نشر عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) حولها، وعليه «فالفعل فعل اللّه وهو فعلنا».( [52])
المرحلة الثالثة
مرحلة
الإنكار والإبطال
قد تعرّفت على المرحلتين المتقدّمتين اللتين مرّتا على نظرية الكسب وهي فيهما بين التبيين والتطوير ـ ولكن مشايخ الأشاعرة ـ عفا اللّه عنّا وعنهم ـ و إن بذلوا جهودهم الحثيثة لإيضاحها وتطويرها، ولكنّهم لم يأتوا بشيء يسمن ويغني من جوع، أو يروي الغليل ـ وكان الأمر على هذه الحالة إلى أن بعث اللّه رجالاً أبطالاً أدركوا خطورة الموقف، وجفاف النظرية ومضاعفاتها السيّئة، فنفضوا غبار التقليد عن عقولهم، وتفكّراتهم، ونظروا إلى الموضوع نظر متحرّر عن كلّ رأي مسبـق، فجعلوا لقدرة الإنسان نصيباً في أفعـاله وأعماله، منهم:
1. إمام الحرمين الجويني(المتوفّى 478هـ) نسبة الفعل إلى قدرة العبد حقيقة
إنّ أبا المعالي المعروف بإمام الحرمين، ذهب إلى أنّ لقدرة العباد تأثيراً في أفعالهم، وأنّ قدرتهم ستنتهي إلى قدرة اللّه سبحانه وإقداره، وأنّ عالم الكون مجموعة من الأسباب والمسبّبات، وكلّ مسبّب يستمد من سببه المقدّم عليه، وفي الوقت نفسه، ذاك السبب يستمد من آخر، إلى أن يصل إلى اللّه سبحانه. وإليك نص عبارته:
إنّ نفي هذه القدرة والاستطاعة ممّا يأباه العقل والحس، وأمّا إثبات قدرة لا أثر لها بوجه، فهو كنفي القدرة أصلاً. وأمّا إثبات تأثير في حالة لا يفعل، فهو كنفي التأثير، فلابدّ إذاً من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق، فإنّ الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم، والإنسان كما يحسُّ من نفسه الاقتدار، يحسّ من نفسه أيضاً عدم الاستقلال. فالفعل يستند وجوده إلى القدرة، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب، كنسبة الفعل إلى القدرة، وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر حتّى ينتهي إلى مسبب الأسباب، وهو الخالق للأسباب، ومسبباتها ـ المستغني على الإطلاق ـ فإنّ كلّ سبب مهما استغنى من وجه، محتاج من وجه، والباري تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له ولا فقر.
قال ( [53]) الشهرستاني بعد ما نقل كلامه هذا: وهذا الرأي إنّما أخذه من الحكماء الإلهيّين، وأبرزه في معرض الكلام. وليس تختص نسبة السبب إلى المسبّب ـ على أصله ـ بالفعل والقدرة (قدرة الإنسان) بل كلّ ما يوجد من الحوادث فذلك حكمة، وحينئذ يلزم القول بالطبع وتأثير الأجسام في الأجسام إيجاداً، وتأثير الطبائع في الطبائع إحداثاً، وليس ذلك مذهب الإسلاميّين، كيف، ورأي المحقّقين من العلماء أنّ الجسم لا يؤثر في الجسم.( [54])
هذا هو ما علّقه الشهرستاني على كلام إمام الحرمين وآخذه عليه، وهو غير صحيح. فإنّ المراد من العلّية الطبيعية بين الأجسام والمظاهر المادية، ليس هو الإيجاد والإحداث من كتم العدم، بل المراد هو تفاعل الأجسام والطبائع، بعضها مع بعض بإذنه سبحانه، كانقلاب الماء إلى البخار، والمواد الأرضية إلى الأزهار والأشجار، وغير ذلك ممّا كشف عنه الحسّ والعلم.
وأمّا الصور الطارئة على الطبائع عند التفاعل والانقلاب كصور الزَّهْر والشجر، فليست مستندة إلى نفس الطبائع، بل الطبائع معدات وممهدات لنزول هذه الصور من علل عليا، كشف عنها الذكر الحكيم عندما صرح بأنّ لعالم الكون مدبرات يدبرونه بإذنه سبحانه، قال: (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) .( [55])
إنّ كون العبد فاعلاً لفعله، وعالم الطبائع مؤثراً في آثاره فإنّما هو بمعنى كونهما «ما به الوجود» لا «ما منه الوجود»، وكم من فرق بين التعبيرين. فمن اعترف بالتأثير فقد اعترف بالمعنى الأوّل والسببية الناقصة، لا بالمعنى الثاني، أعني إفاضة الوجود، والخلق بالمعنى القائم باللّه سبحانه، فإنّ الخلق فيض يُبتدئ منه سبحانه، ويجري في القوابل والقوالب فيتجلّى في كلّ مورد بصورة وشكل، والإنسان بما أنّه مجبول على الاختيار، يصرف باختياره ما أُفيض عليه في مكان دون مكان و في صورة دون صورة. نعم ليس لغيره من الطبائع إلاّ طريق واحد وتجلّ فارد.
وأظن أنّ الشهرستاني لو وقف على الفرق بين الفاعلين، لما اعترض على كلام إمام الحرمين ـ بأنّه ليس من مذهب الإسلاميين ـ نعم هو ليس من مذاهب الحنابلة والأشاعرة، وأمّا العدلية بعامة طوائفها فهم قائلون بذلك، وقد عرفت قضاء القرآن والعقل في ذاك المجال.
2. أحمد بن تيمية(662ـ 728هـ) يعترف بتأثر قدرة العبد
إنّ أحمد بن تيمية من دعاة السلفية في القرن الثامن، وهو الذي أحيا مذهب السلف، بعد اندراسه، ودعا إليه بحماس وخالف الرأي العام في مسائل عديدة في العقائد والفقه، وأخذ برأي أهل الحديث في عامّة الموارد، حتّى في إجلاسه سبحانه فوق عرشه، ووصفه بأنّ له أطيطاً كأطيط الرحل، إلاّ أنّه خالفهم في تأثير العلل الطبيعية وقدرة العبد واستطاعته، وأنّما عدل عن آرائهم في هذا الموضوع وأخذ برأي العدلية من الإمامية والمعتزلة لأجل قوة البراهين التي أقامها العلاّمة الحلي رداً على قول الأشاعرة بأنّه لا دور للعبد في أفعاله، وذلك لأنّ مقالة مثل هذه تستلزم أشياء شنيعة.
فلم يجد ابن تيمية محيصاً إلاّ العدول عن رأي أهل الحديث والانسلاك في صفوف العدلية، وممّا يقضى به العجب انّه نسب مختاره إلى جمهور أهل السنّة المثبتين للقدر، وكأنّ الإمام أحمد أو الإمام الأشعري ليسا من أئمة أهل السنّة.
وعلى كلّ تقدير، فهذا نصّ كلامه:
إنّ جمهور أهل السنّة المثبتين للقدر، لا يقولون بما ذكره، بل جمهورهم يقولون بأنّ العبد فاعل حقيقة، وأنّ له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية، وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرّون بما دلّ عليه العقل من أنّ اللّه تعالى يخلق السحاب بالرياح، ويُنزّل الماء بالسحاب ويُنبِت النباتَ بالماء، ولا يقولون بأنّ قوى الطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها، بل يقرون أنّ لها تأثيراً لفظاً ومعنى.
ولكن هذا القول الذي حكاه هو (العلاّمة الحلّي) قول بعض المثبتة للقدر كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، حيث لا يثبتون في المخلوقات قوى الطبائع ويقولون: إنّ اللّه فعل عندها لا بها، ويقولون: إنّ قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل، وأبلغ من ذلك قول الأشعري بأنّ اللّه فاعل فعل العبد، وأنّ عمل العبد ليس فعلاً للعبد، بل كسب له، وإنّما هو فعل اللّه، وجمهور الناس من أهل السنّة من جميع الطوائف على خلاف ذلك، وأنّ العبد فاعل لفعله حقيقة.( [56])
أقول: إنّ الإمام في العقائد لدى أهل السنّة، هو الإمام أحمد، وبعده الإمام الأشعري، والمفروض أنّهم لا يقولون بتأثير قدرة العبد في فعله، ومعه: كيف يمكن أن ينسب إلى أهل السنّة غيره؟!
والحقّ أنّ ابن تيمية من رماة القول على عواهنه فيقضي ويبرم وينقض من دون أن يصدر من مصدر صحيح.
والعجب انّه ينسب إلى أهل السنّة بأنّهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية!!
كيف يقول ذلك والأزهر والأزهريون يردّدون في ألسنتهم قول القائل:
ومن يقل بالطبع أو بالعلة *** فذاك كفر عند أهـل الملـة
3. نظرية الشعراني(911ـ973هـ) وتأثير قدرة العبد في فعله
إنّ الشيخ الشعراني مؤلف كتاب «اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر» من أقطاب الحديث والكلام والتصوف، فقد أدرك بصفاء ذهنه انّ الاعتقاد بالكسب لا يتفارق الجبر قدر شعرة، فحاول أن يعالج المسألة من طريق الكشف فقال:
اعلم يا أخي أنّ هذه المسألة من أدقّ مسائل الأُصول وأغمضها، ولا يُزيل إشكالها إلاّ الكشف الصوفي، أمّا أرباب العقول من الفِرَق فهم تائهون في إدراكها، وآراؤهم فيها مضطربة. إذ كان أبو الحسن الأشعري يقول: ليس للقدرة الحادثة (قدرة العبد) أثر، وإنّما تعلّقها بالمقدور مثل تعلّق العلم بالمعلوم في عدم التأثير.
وقد اُعترض عليه بأنّ القدرة الحادثة إذا لم يكن لها أثر فوجودها وعدمها سواء، فإنّ قدرة لا يقع بها المقدور، بمثابة العجز. ولقوة هذا الاعتراض لجأ أصحاب الأشعري إلى القول بالجبر. وقال آخرون إنّ لها تأثيراً ما، وهو اختيار الباقلاني، لكنّه لما سئل عن كيفية هذا التأثير في حين التزامه باستقلال القدرة القديمة في خلق الأفعال، لم يجد جواباً. وقال: إنّا نلتزم بالكسب لأنّه ثابت بالدليل، غير أنّي لا يمكنني الإفصاح عنه بعبارة. وتمثل الشيخ أبو طاهر بقول الشاعر:
إذا لـم يكن إلاّ الأسنّة مركباً *** فلا رأي للمضطر إلاّ ركوبها
ثمّ قال: ملخص الأمر: أنّ من زعم أنّه لا عمل للعبد، فقد عاند، ومن زعم أنّه مستبد بالعمل، فقد أشرك; فلابدّ من القول بأنّه مضطر على الاختيار.( [57])
هذا، وقد أحسن الشيخ في نقد الكسب ولكن الإحالة إلى الكشف الصوفي إحالة إلى المجهول، أو إحالة إلى إدراك شخصي لا يكون حجّة للغير.
4. الشيخ عبده(1266ـ1323هـ) ، وتأثير قدرة العبد في فعله
لم نجد بين رحيل الشيخ الشعراني عام 937هـ إلى عصر مفتي الديار المصرية من ينفض غبار التقليد عن تفكيره، ولعلّ في هذه الفترة رجالاً أحراراً في التفكير، وصلوا إلى ما وصل إليه إمام الحرمين ومن جاء بعده، وعلى كلّ تقدير فقد خالف الشيخ محمد عبده، الرأي السائد على الأزهر والأزهريين وقام بوجههم وصرح بتأثير قدرة العبد في فعله.
كانت العقيدة الإسلامية في مصر تتجلّى في المذهب الأشعري وكان إنكار العلّية والمعلولية والرابطة الطبيعية بين الطبائع وآثارها من أبرز سمات ذاك المذهب، وكان التفوّه بخلافه، آية الإلحاد والكفر، وقد شنّ الماديون على هذه العقيدة أُموراً ملأوا بها صحفهم وكتبهم، منها:
1. إنّ الإلهيّين لا يعترفون بناموس العلّية والمعلولية، وينكرون الروابط الطبيعية بين الأشياء وآثارها، مع أنّ العلم ـ بأساليبه التجريبية المختلفة ـ يثبت ذلك بوضوح.
2. إنّ الإلهيّين يعترفون بعلّة واحدة وهي اللّه تعالى، وهم يقيمونه مقام جميع العلل، وينسبون كلّ ظاهرة مادية إليه سبحانه، وأحياناً إلى العوالم العِلْوية التي يعبّر عنها بالملك والجن والروح.
3. إنّ الإلهيّين ـ بسبب قولهم بأنّ أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه ـ لا يعتقدون بدور للإنسان في حياته وعيشه، فهو مجبور في السير على الخط الذي يرسمه له خالقه، ومكتوف الأيدي أمام تلاطم أمواج الحوادث، فلأجل ذلك لا يؤثّر في الإنسان شيء من الأساليب التربوية ولا يغيره إلى حال.
إلى غير ذلك من الإشكالات والمضاعفات والتوالي الفاسدة، التي لا تقف عند حدّ.
وقد وقف الشيخ عبده على خطورة الموقف، وأنّه ممّا يستحقّ أن يشتري لنفسه اللومَ والذمَ، بل الأمرَ الأشد من ذلك، في سبيل إظهاره الحقيقة، حتّى يدفع الهجمات الشعواء عن وجه الإسلام والمسلمين بقوة ورصانة.
نعم، قد أثّر في تفكير الشيخ عبده وأوجد فيه هذا الحافز والاندفاع، عاملان كبيران، كان لهما الأثر البالغ في بناء شخصيته الفكريـة والفلسفية والاجتماعيـة والسياسيـة، وهما:
1. اطّلاعه على نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في منفاه(بيروت).
2. اتّصاله بالسيد المجاهد جمال الدين الأسدآبادي (1254ـ 1316هـ).
ففي ضوء هذين العاملين، خالف الرأي العام في كثير من الموارد، ومنها أفعال العباد، فقال في رسالة التوحيد التي كتبها عام 1303هـ للتدريس في المدارس الإسلامية في بيروت سنة إقصائه من مصر إليها وقد وقف على نهج البلاغة في منفاه ـ:
يشهد سليم العقل والحواسّ من نفسه أنّه موجود ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه، ولا معلم يرشده، كذلك يشهد أنّه مدرك لأعماله الاختيارية، يزن نتائجها بعقله، ويقدّرها بإرادته، ثمّ يُصدرها بقدرة ما فيه، ويعد إنكار شيء من ذلك مساوياً لإنكار وجوده في مجافاته لبداهة العقل.
كما يشهد بذلك في نفسه يشهده أيضاً في بني نوعه كافة، متى كانوا مثله في سلامة العقل والحواس... وعلى هذا قامت الشرائع، وبه استقامت التكاليف، ومن أنكر شيئاً منه فقد أنكر مكان الإيمان من نفسه، وهو عقله الذي شرفه اللّه بالخطاب في أوامره ونواهيه.
إلى أن قال: ودعوى أنّ الاعتقاد بكسب العبد.( [58]) لأفعاله يؤدي إلى الإشراك باللّه ـ و هو الظلم العظيم ـ دعوى من لم يلتفت إلى معنى الإشراك على ما جاء به الكتاب والسنّة، فالإشراك اعتقاد أنّ لغير اللّه أثراً فوق ما وهبه اللّه من الأسباب الظاهرة، وأنّ لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقين، وهو اعتقاد من يعظِّم سوى اللّه مستعيناً به في ما لا يقدر العبد عليه....
جاءت الشريعة لتقرير أمرين عظيمين، هما ركنا السعادة وقوام الأعمال البشرية:
الأوّل: إنّ العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته.
والثاني: إنّ قدرة اللّه هي مرجع لجميع الكائنات، وإنّ من آثارها ما يحول بين العبد وبين إنفاذ ما يريده، وإنّ لا شيء سوى اللّه يمكن له أن يمدّ العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه.
وقد كلّفه سبحانه أن يرفع همّته إلى استمداد العون منه وحده، بعد أن يكون قد أفرغ ما عنده من الجهد في تصحيح الفكر وإجادة العمل. وهذا الذي قرّرناه قد اهتدى إليه سلف الأُمّة، فقاموا من الأعمال بما عجبت له الأُمم، وعوّل عليه من متأخّري أهل النظر إمام الحرمين الجويني ، وإن أنكر عليه بعض من لم يفهمه.( [59])
5. الزرقاني والجمع بين النصوص
إنّ الشيخ محمد بن عبد العظيم الزرقاني مؤلّف كتاب «مناهل العرفان في علوم القرآن» أحد المحقّقين في العلوم القرآنية، وكتابه هذا، يدلّ على سعة باعه واطّلاعه ونزاهة قلمه و دماثة خلقه مع المخالفين، فقد طرح في كتابه مسألة خلق الأفعال وقال: ولنعلم أنّ المتخالفين في ذلك ما زالوا مع خلافهم، إخواناً مسلمين، تظلّهم راية القرآن ويضمّهم لواء الإسلام.
في القرآن الكريم والسنّة النبوية نصوص كثيرة على أنّ اللّه تعالى خالق كلّ شيء، وانّ مرجع كلّ شيء إليه وحده، وانّ هداية الخلق وضلالهم بيده سبحانه، ثمّ ذكر شيئاً من الآيات والروايات الواردة في هذا الصدد.
ثمّ قال: بجانب هذا توجد نصوص كثيرة أيضاً من الكتاب والسنّة، تنسب أعمال العباد إليهم وتعلن رضوان اللّه وحبّه للمحسنين فيها، كما تعلن غضبه وبغضه للمسيئين، ثمّ ذكر قسماً من الآيات والروايات الدالّة على ذلك، ثمّ خرج بالنتيجة التالية:
إنّ أهل السنّة بهرتهم النصوص الأُولى فقالوا : إنّ العبد لا يخلق أفعالَ نفسه الاختيارية وإنّما هي خلق اللّه وحده. وإذا قيل لهم: كيف يثاب المرء أو يعاقب على عمل لم يوجده هو؟ وكيف يتفّق هذا وما هو مقرر من عدالة اللّه وحكمته في تكليف خلقه؟ قالوا: إنّ العباد ـ و إن لم يكونوا خالقين لأعمالهم ـ كاسبون لها. وهذا الكسب هو مناط التكليف ومدار الثواب والعقاب، وبه يتحقّق عدل اللّه وحكمته فيما شرع للمكلّفين.
وهكذا حملوا النصوص الأُولى على الخلق وحملوا الثانية على الكسب جمعاً بين الأدلّة.
أمّا المعتزلة فقد بهرتهم النصوصُ الثانية وما يظاهرها من برهان العقل فرجّحوها وقالوا: إنّ العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية. وإذا قيل لهم: أليس اللّه خالق كلّ شيء ومنها أعمال العبد؟ قالوا: بلى إنّه خالق كلّ شيء حتّى أعمال عباده الاختيارية، بيد أنّه خلق بعض الأشياء بلا واسطة وخلق بعضها الآخر بواسطة، وأعمال المكلّفين من القبيل الثاني، خلقها اللّه بوساطة خلق آلاتها فيه، وآلاتها هي القدرة الكلية والإرادة الكلية الصالحتان للتعلق بكلّ من الطرفين. وليس لنا من حول ولا قوة سوى أنّنا استعملناها على أحد وجهيها، إمّا بحسن الاختيار وإمّا بسوء الاختيار. ثمّ لا مانع عندنا من القول بأنّه سبحانه خالق لأفعال عباده، ولكن على سبيل المجاز، باعتبار أنّه خالق أسبابها ووسائلها.
ثمّ قال هو: و لقد كان سلفنا الصالح يؤمنون بوحدانية اللّه وعدله، ويؤمنون بقدره وأمره، ويؤمنون بهذه النصوص وتلك النصوص، ويؤمنون بأنّ العبد يعمل ما يعمل و أنّ اللّه خالق كلّ شيء، ويؤمنون بأنّه تعالى تنزّه في قدره عن أن يكون مغلوباً أو عاجزاً، وتنزّه في أمره وتكليفه عن أن يكون ظالماً أو عابثاً. ثمّ بعد ذلك يصمتون، فلا يخوضون في تحديد نصيب عمل الإنسان الاختياري من قدرة اللّه، ونصيبه من قدرة العبد. ولا يتعرّضون لبيان مدى ما يبلغ فعل اللّه في قدره، ولا لبيان مدى ما يبلغ فعل العبد في امتثال أمره، ذلك ما لم يعلموه ولم يحاولوه، لأنّهم لم يكلّفوه، وكان سبحانه أرحم بعباده من أن يكلّفهم إيّاه، لأنّه من أسرار القدر أو يكاد، والعقل البشري محدود التفكير ضعيف الاستعداد. ومن شره العقول طلب ما لا سبيل لها إليه (وَما أُوتيتُمْ من العلمِ إِلاّ قَليلاً) .
لم يمتحنّا بما تعيا العقولُ به *** حرصاً علينا فلم نرتب ولم نهمِ( [60])
6. الشيخ شلتوت(1310ـ1383هـ) العبد فاعل بإرادته وقدرته
إنّ الشيخ شلتوت أحد المجتهدين الأحرار في القرن الماضي لا تأخذه في اللّه لومة لائم، فإذا شاهد الحق أجهر به، ولا يطلب رضى أحد، ولا يخاف غضب آخر، فهو ممّن اعترف بحرية الإنسان في مجال العمل، قال:
وقد تناول علماء الكلام في القديم والحديث هذه المسألة، وعُرِفت عندهم بمسألة الهدى والضلال، أو بمسألة الجبر والاختيار، أو بمسألة خلق الأفعال، وكان لهم فيها آراء فرّقوا بها كلمة المسلمين، وزلزلوا بها عقائد الموحدين العاملين، وصرفوا الناس بنقاشهم في المذاهب والآراء عن العمل الذي طلبه اللّه من عباده، وأخذوا يتقاذفون فيما بينهم بالإلحاد والزندقة،والتكفير والتفسيق، وما كان اللّه ـ و آياته بينات واضحات ـ ليقيم لهم وزناً فيما وقفوا عنده، وداروا حوله، ودفعوا الناس إليه.
ثمّ إنّ ذلك العيلم بعد ما ذكر آراء السلف المختلفة قال:
والذي نراه كما قلنا أنّ للعبد قدرة وإرادة ولم يخلقهما اللّه فيه عبثاً، بل خلقهما ليكونا مناط التكليف ومناط الجزاء وأساس نسبة الأفعال إلى العبد نسبة حقيقية، واللّه يترك عبده وما يختار لنفسه، فإن اختار الخير تركه فيه يدعوه سابقه إلى لاحقه، ولا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه; وإن اختار الشر، تركه فيه يدعوه سابقه إلى لاحقه، ولا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه، والعبد وقدرته واختياره كل ذلك بمشيئة اللّه وقدرته وتحت قهره، ولو شاء لسلب قوة الخير فكان العبد شرّاً بطبعه لا خير فيه، ولو شاء لسلبه قوة الشر فكان خيراً بطبعه لا شر فيه، ولكن حكمته الإلهية في التكليف و الابتلاء، قضت بما رسم، وكان فضل اللّه على الناس عظيماً.
ومن هنا يتبين أنّ العبد ليس مجبوراً، لا ظاهراً ولا باطناً، ولا مجزياً على ضلاله بإضلال اللّه إياه، فإنّ هذا أمر تأباه حكمة الحكيم وعدل العادل، وتمنع تصوّرَه.
القضاء والقدر ليس معناهما الإلزام
وبهذا يكون المؤمنون عمليّين، لا يعتذر الواحد منهم عن تقصير في واجب بالقضاء والقدر، فليس في القضاء والقدر إلاّ العدل المطلق، والحكمة الشاملة العامة، ليس فيهما إلاّ الحكم والترتيب، وربط الأسباب بالمسببات على سنّة دائمة مطّردة، هي أصل الخلق كلّه، وهي أساس الشرائع كلّها، وهي أساس الحساب والجزاء عند اللّه، وليس فيهما شيء من معاني الإكراه والإلزام. وإنّما معناهما الحكم والترتيب، فقضى: حكم وأمر، وقدر: رتب ونظم، وعلم اللّه بما سيكون من العبد باختياره وطوعه ـ شأن المحيط علمُه بكلّ شيء ـ ليس فيه معنى إلزام العبد بما علم اللّه أنّه سيكون منه، وإنّما هو العلم الكامل الذي لا يقصر عن شيء في الأرض ولا في السماء، ولا فيما كان وما يكون.( [61])
وبذلك تمت المراحل التي مرّت على نظرية الكسب التي شغلت بالَ المفكّرين عدة قرون وتركتْ بصماتِها على ثقافة المسلمين وعلى حياتهم بحجة انّ الإنسان مكتوف اليد، ليس له ولا لقدرته وإرادته أيُّ أثر في حياته.
قال أحمد أمين:غالت المعتزلة، بحرية الارادة، وغلوا فيها أمام قوم، سلَبُوا الانسانَ إرادتَه، حتّى جعلوه كالريشة في مهب الريح، أو كالخشبة في اليمّ. وعندي انّ الخطأ في القول بسلطان العقل، وحرية الإرادة، والغلوّ فيهما، خير من الغلوّ في أضدادهما، وفي رأيي انّه لو سادت تعاليم المعتزلة إلى اليوم كان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي، وقد أعجزهم التسليمُ وشلّهم الجبرُ، وقعد بهم التواكل.( [62])
ولو كان الكاتب واقفاً على منهج أئمّة أهل البيت في حرية الإنسان ، وحدود سلطان العقل لأذعن بأنّ المنهج في تحديد الحرية، خال عن الغلوّ، وانّه أعطى لكلّ حقّه، فما عاقه القول بالتوحيد في الخالقية، عن القول بحرية الإنسان، وانّ مصيره من حيث السعادة والشقاء بيده، كما لم يمنعه القول بتأثير قدرة العبد في انتخابه واختياره عن القول بالتوحيد في الأفعال، وانّ كلّ ما في الكون من دقيق وجليل قائم به سبحانه، ومفاض منه عبر العلل والأسباب .
لم يزل النقاش والجدال قائماً بين الأشاعرة والمعتزلة على قدم وساق، وكلّ يتهم الآخر بأشنع التهم، فالأشعري يتّهم المعتزلي بالشرك وانّ القول باستقلال الإنسان في فعله يستلزم أن يكون للّه شركاء بعدد الإنسان وهم عباده المكلّفون، وهذا يناقض عقيدة التوحيد، وبرهان الوحدانية; كما أنّ المعتزلة تتّهم الأشاعرة بأنّ قولهم بخلق الأعمال لا يتّفق مع القول بعدله وحكمته سبحانه، إذ كيف يثاب المرء أو يعاقب على عمل لم يوجده.
ولو رجع روّاد المنهجين، إلى منهج أئمّة أهل البيت لوقفوا على الحقّ الصراح، وانّ القول بالتوحيد في الخالقية لا يزاحم القول بالعدل والحكمة، (بشرط أن يفسر على النهج الصحيح) وانّ بين الأصلين كمال التلاؤم.
رُوي انّ القاضي عبد الجبار المعتزلي(المتوفّى415) دخل دارَ الصاحب بن عباد فرأى فيه أبا إسحاق الاسفرائيني الأشعري(المتوفّى413هـ) فقال القاضي: سبحان من تنزّه عن الفحشاء (يريد بذلك انّ القول بخلق الاعمال يستلزم انّه سبحانه خلق الفحشاء)، فأجابه أبو إسحاق: سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما شاء، ويريد انّ القول بوقوع أفعال العباد بلا مشيئة منه سبحانه يستلزم القول بتحقّق أُمور خارجة عن سلطانه.( [63])
ولو تتلمذ عميدا المعتزلة والأشاعرة على خريجي منهج أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) لوقفا على أنّ الشعارين غير متزاحمين، فاللّه سبحانه في الوقت الذي تنزّه عن الفحشاء لا يجري في ملكه إلاّ ما شاء، فَجعْلُ كلّ من الشعارين مقابلاً للآخر رهن الجمود على القول بعموم الخلقة على التفسير الذي سار عليه الأشعري، وعلى انقطاع فعل العبد عن قدرته سبحانه على النحو الذي سار عليه المعتزلة.
هذا تمام الكلام حول نظرية الكسب، ومراحلها التي مرّت بها وما لها من التوالي والمضاعفات.
بقيت هنا عدّة أُمور نذكرها تباعاً في خاتمة المطاف.
5
خاتمة المطاف
وفيها أُمور:
الأمر الأوّل
نسبة فعل العبد إلى اللّه فوق التسبيب
ربما يقال: انّ نسبة فعل العبد إلى اللّه سبحانه نسبةُ المسبَّب إلى السبب، واللّه سبحانه خلق الإنسان وزوّده بالقدرة فهو يفعل بقدرته سبحانه، و بما انّ العبد والقدرة من أفعاله سبحانه، يكون الصادر عن قدرة العبد فعلاً له سبحانه تسبيباً.
أقول: إنّ حديث التسبيب هو متلقّى النظر الساذج وكفى في النجاة الاعتقاد بذلك. وأمّا في النظرة الدقيقة فانّ نسبة فعل العبد إلى اللّه سبحانه فوق ذلك، لأنّ العالم الإمكاني بجواهره وأعراضه وطبائعه ومجرداته فقير بالذات لا يملك لنفسه شيئاً من الوجود، فالجميع قائم باللّه سبحانه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي، فلا يُمكن الفصل بين الوجود الإمكاني ووجود الواجب، فانّ الفصل آية الغناء، وهو يلازم الوجوب والمفروض انّه فقير بالذات حدوثاً و بقاء.
وأفضل جملة تعبر عن هذه العلقة الوثيقة قوله سبحانه: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) ( [64]) وقوله سبحانه: (ما يكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثة إِلاّ هُوَ رابعُهُم وَلا خَمْسة إِلاّ هُوَ سادِسُهُم ولا أدنى مِنْ ذلك ولا أكْثَرَ إلاّ هُو مَعَهُم أين ما كانُوا) ( [65]) ومفاد هاتين الآيتين هو كونه سبحانه مع كلّ موجود إمكاني من دون فرق بين الإنسان وفعله.
وليس المراد من المعية هو حلوله سبحانه في ذوات الأشياء وآثارها، بل المراد هو المعية القيومية.
وقد ذكر صدر المتألّهين تمثيلاً في المقام، وإليك بيانه:
إذا أردت التمثيل لتبيين كون الفعل الواحد فعلاً لشخصين على الحقيقة، فلاحظ النفس الإنسانية، وقواها، فاللّه سبحانه خلقها مثالاً، ذاتاً وصفة وفعلاً، لذاته وصفاته وأفعاله، قال سبحانه: (وَفِى الأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنينَ * وَفي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُون) .( [66]) وقد أُثر عن النبي والوصي القول بأنّه «من عرف نفسه، عرف ربّه».( [67])
إنّ فعل كلّ حاسّة وقوة من حيث هو فعل تلك القوة، فعل النفس أيضاً، فالباصرة ليس لها شأن إلاّ إحضار الصورة المبصرة، أو انفعال البصر منها، وكذلك السامعة، فشأنها إحضار الهيئة المسموعة أو انفعالها بها، ومع ذلك فكلّ من الفعلين، كما هو فعل القوة، فعل النفس أيضاً، لأنّها السميعة البصيرة في الحقيقة، وليس شأن النفس استخدام القوى بل هو فوق ذلك. لأنّا إذا راجعنا إلى وجداننا نجد انّ نفوسنا بعينها الشاعرة في كلّ إدراك جزئي، وشعور حسّي، كما أنّها المتحركة بكلّ حركة طبيعية أو حيوانية منسوبة إلى قواها. وبهذا يتّضح انّ النفس بنفسها في العين قوّة باصرة، وفي الأُذن قوة سامعة، وفي اليد قوة باطشة، وفي الرِِّّجل قوّة ماشية، وهكذا الأمر في سائر القوى التي في الأعضاء، فبها تبصر العين وتسمع الأُذن وتمشي الرجل. فالنفس مع وحدتها وتجرّدها عن البدن وقواه وأعضائه، لا يخلو منها عضو من الأعضاء عالياً كان أو سافلاً، ولا تبائنها قوة من القوى مدركة كانت أو محركة، حيوانية كانت أو طبيعية.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه كما ليس في الوجود شأن إلاّ وهو شأنه، كذلك ليس في الوجود فعل إلاّ فعله، لا بمعنى أنّ فعل زيد مثلاً ليس صادراً عنه، بل بمعنى انّ فعل زيد مع أنّه فعله بالحقيقة دون المجاز فهو فعل اللّه بالحقيقة. فكما أنّ وجود زيد بعينه أمر متحقّق في الواقع، منسوب إلى زيد بالحقيقة لا بالمجاز، وهو مع ذلك شأن من شؤون الحقّ الأوّل، فكذلك علمه وإرادته وحركته وسكونه وجميع ما يصدر عنه منسوب إليه بالحقيقة لا بالمجاز والكذب. فالإنسان فاعل لما يصدر عنه و مع ذلك ففعله أحد أفاعيل الحقّ الأوّل على الوجه اللائق بذاته سبحانه.( [68])
وفي الحديث القدسي إلماع إلى هذا النوع من النسبة بين الخالق والمخلوق، قال: «يابن آدم بمشيئتي كنتَ أنتَ الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوتي أدّيتَ إليّ فرائضي، وبنعمتي قوِيتَ على معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً قوياً».( [69])
فالأشاعرة خلعوا الأسباب والعلل وهي جنود اللّه سبحانه، عن مقام التأثير والإيجاد. كما أنّ المفوّضة عزلتْ سلطانَه عن ملكه وجعلت بعضاً منه في سلطان غيره. والحقّ الذي أيّده البرهان ويصدّقه الكتاب كون الفعل موجوداً بقدرتين، لكن لا بقدرتين متساويتين ولا بمعنى علّتين تامّتين بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأُولى وشؤونها وجنودها، (وَما يعلم جنود ربّك إلاّ هو) . ( [70])
الأمر الثاني
تنمية العلم في ظلّ القول بنظام الأسباب والمسبّبات
قد أوضحنا في محاضراتنا في «الإلهيات» انّ القول بأنّ المادة لم تزل أزلية، ولو صارت ذات سنن وقوانين فإنّما هي وليدة الصدفة،لا يدفع بالإنسان إلى التحقيق وسبر أغوار الطبيعة، وذلك إذ لا علم له بوجود سنن وأنظمة في داخل العالم حتّى يبحث عنه الإنسان، فلا محيص للباحث في سنن العالم والمستطلع للحقائق السائدة فيه ـ قبل الفحص عن السنن ـ عن اعتناق نظرية الخلقة وهي انّ العالَم مصنوع علم وقدرة واسعة، أخرجه من العدم إلى الوجود وأجرى فيه سنناً وأنظمة.
والحاصل: انّ الذي يبعث الإنسان إلى الفحص عن النظم والسنن هو نظرية الإلهيّين وهو انّ العالم مخلوق موجود واجب عالم قد مر، وأمّا النظرية الأُخرى أي عدم تدخّل علم وقدرة في النظم والسنن فيعرقل خُطا الباحث عن الغور في العالم.
هذا هو الذي أوضحنا حاله في «الإلهيات».
فنقول: إنّ إنكار العلل والمعاليل والأسباب والمسبّبات والاعتقاد بعلّة واحدة مكان العلل نظير القول بأنّ النظام مخلوق صدفة، وذلك لأنّ الذي يبعث الباحث عن الوجود وأسراره هو اعتقاده بأنّ كلّ ذرة في ذات هذا العالم مشتملة على قانون يريد أن يستكشفه ويفرغه في قالب العلم، وأمّا إذا اعتقد خلاف ذلك وانّه ليس للعالم إلاّ علّة واحدة وأنكر الأنظمة والسنن فلا يجد في نفسه باعثاً نحو الفحص والتحقيق، إذ لا علم له بوجود السنن والأنظمة حتّى يبحث عنها ، فدعامة العلم لا تقوم إلاّ بالقول بأنّه سبحانه تبارك وتعالى خلق العالم على نظام خاص وأجرى فيه شيئاً هو مظاهر علمه وقدرته.
وقد جرت سنّة اللّه تعالى على خلق الأشياء بأسبابها، فجعل لكلّ شيء سبباً و للسبب سبباً إلى أن ينتهي إلى اللّه سبحانه، والمجموع من الأسباب الطولية علّة واحدة تامّة كافية لايجاد الفعل، ونكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصادق(عليه السلام) حيث قال: «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب، فجعل لكلّ شيء سبباً وجعل لكلّ سبب شرحاً».( [71])
الأمر الثالث: نظرية «مالبرانس»
إنّ المنقول عن الفيلسوف الفرنسي «مالبرانس»(1631ـ 1715م) يتّحد مع نظرية الأشعري حرفاً بحرف، و من المظنون أنّه وقف على بعض الكتب الكلامية للأشاعرة، فأفرغ نظرية الكسب حسب ما تلقّاه من تلك الكتب في كتابه ، وحاصل ما قال:
إنّ كلّ فعل إنّما هو في الحقيقة للّه، ولكن يظهر على نحو ما يظهر، إذا تحقّقت ظروف خاصة إنسانية أو غير إنسانية حتّى لكأنّها يخيّل للإنسان أنّ الظروف هي التي أوجدته.
فهذه النظرية أولى بأن تسمّى بنظرية الاتّفاقية، أو نظرية الظروف والمناسبات، وهي نفس نظرية الأشعري حيث يرى أنّه لا تأثير للقدرة الحادثة في الأحداث، وإنّما جرت سنّة اللّه بأن يلازم بين الفعل المحدَث و بين القدرة المحدثة (بالكسر) له إذا أراد العبد وتجرد له، ويسمى هذا الفعل كسباً. فيكون خلقاً من اللّه، وكسباً من العبد، عندما يقع في متناول قدرته واستطاعته، من غير تعلّقه عليه.( [72])
وقد نقل «ذكاء الملك» نظرية ذلك الفيلسوف الفرنسي في موسوعته الفلسفية. وهي تبتني على إنكار قانون العلّية والمعلولية بين الأشياء، وأنّ كلّ ما يعدّ علّة لشيء فهو من باب المقارنة. فلو رأينا أنّ جسماً يحرك جسماً آخر، فذلك إدراك سطحي، والمُحْدِث هو اللّه سبحانه، وتلاقي الجسمين ظرف لقيامه بالتحريك، ومثله تحريك النفس عضواً من أعضاء البدن، فالمحرّك هو اللّه سبحانه وإرادة النفس ظرف ومحلّ لظهور فعله سبحانه.
ولا نعلّق على هذه النظرية سوى القول بأنّها مخالفة للبراهين الفلسفية القائمة على وحدة حقيقة الوجود في جميع المراتب، واختلافها بالشدة والضعف. فعندئذ لا معنى لأن يختصّ التأثير ببعض المراتب دون آخر مع الوحدة في الحقيقية.
إنّ إنكار التأثير على وجه الإطلاق بين الظواهر الطبيعية ومافوقها يخالف البرهان العقلي الفلسفي، أوّلاً; وصريح الذكر الحكيم، ثانياً; والفطرة السليمة الإنسانية، ثالثاً، والتفصيل في الجهات الثلاث موكول إلى محلّه.
الأمر الرابع: التفسير الخاطئ في قسم من الأُصول
قد تعرّفت على التفسير الخاطئ للتوحيد في الخالقية وانّ هذه العقيدة القرآنية كيف فسِّرت بصورة مشوهة حتّى صارت سبباً لانتفاء الغاية من خلق القدرة في الإنسان إلى غير ذلك من المضاعفات التي تعرّفت عليها. وفي تاريخ العقائد نظائر لهذا الأصل ابتليت بتفاسير خاطئة استوجب توالي فاسدة، نظير:
1. القضاء والقدر وسعتها لأفعال البشر.
2. علمه سبحانه بالكائنات وأفعال الإنسان.
3. البداء و انّ للإنسان أن يغيّر مصيره بالأعمال الصالحة والطالحة.
4. التقية التي هي سلاح الضعيف أمام من صادر حرياته.
ونظائرها فانّ كلاً من هذه الأُصول لها دلائل ساطعة في القرآن الكريم والسنّة تعدّ من المعارف العليا في الإسلام ولكنّها مع الأسف الشديد وقعت في إطار تفاسير باطلة صارت سبباً للطعن والغمز.
أمّا القضاء والقدر فقد فسّرا بنحو صارت نتيجته كون الإنسان مكتوف اليد، أو كالريشة في مهب الريح، أو كالخشبة في اليم، أو غير ذلك.
وأمّا الثاني، فقد جعلوا علمه الوسيع سبباً للجبر وانّه ليس للخاطئ إلاّ ارتكاب الخطأ و إلاّ ينقلب علمه جهلاً.
وأمّا الثالث، فقد فسروه بظهور ما خفي عليه سبحانه، وتعالى عن ذلك.
وأمّا الرابع، فقد جعلوه من فروع النفاق.
فيجب على الباحث أن يستنطق الكتاب والسنة فيها مجرداً عن كلّ رأي مسبق حتّى يقف على حقائق تلك الأُصول.
وبما انّه قد استوفينا الكلام في هذه الأُصول في عدة من مؤلّفاتنا فلا نجد حاجة إلى تكرارها، ومن أراد فليرجع إلى الصفحة أدناه.([73])
الأمر الخامس: تغيير عنوان المسألة في كتب المتأخّرين
إنّ العنوان الرائج في كتب القدماء هو خلق الأعمال و الأفعال ولكن العنوان الموجود بين المتأخرين غير ذلك فهم يعبرون عن المسألة بالعنوان التالي:
إنّ اللّه قادر على كلّ المقدورات أو انّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة اللّه سبحانه و تعالى وحده.( [74])
ولعل التعبير الثاني أفضل، وذلك لأنّ مادة الخلق لا تنسب إلى الفعل في لغة العرب، فلا تجد في الكتاب والسنّة ولا عند شعراء العصر الجاهلي من ينسب الخلق إلى الفعل ويقول خلق الأكل أو الشرب.
نعم ورد في القرآن الكريم قول إبراهيم: (وإنّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أوثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) ( [75]) فقد نسب الخلق إلى الإفك الذي هو يعدّ فعلاً للإنسان.
ولكن الإمعان في الآية يفسر لنا وجه هذه النسبة، فانّ الإفك كناية عن الاعتقاد بكون الأصنام إلهاً يُعبد، فقد صار هذا سبباً لنسبة الخلق إلى الفعل المتجسّم في ضمن «الأوثان» التي يتعلّق بها «الخلق» . وهذا يعرب عن أنّ العنوان الواضح هو ما اختاره المتأخّرون من عمومية قدرته لأفعال العباد.
الأمر السادس: في إيضاح الجهمية والنجارية والضرارية
إنّ هذه الطوائف الثلاث من دُعاة القول بالجبر وخلق الأعمال وانّ نصيب العبد من الفعل هو الكسب، ولذا حاولنا أن نقول فيهم كلمة للإيضاح.
تنتسب الجهمية إلى جهم بن صفوان(المتوفّى 128هـ) وهو تلميذ الجعد بن درهم الذي قتله خالد بن عبد اللّه القسري سنة 124هـ.
ويليهم في القول بالجبر النجارية وهم أصحاب الحسين بن محمد بن عبد اللّه النجار (المتوفّى عام 230هـ) وله مناظرات مع النظام .
وعرفهم الشهرستاني بقوله بأنّهم يقولون إنّ الباري تعالى هو خالق أعمال العباد خيرها وشرها، حسنها وقبيحها والعبد مكتسب لها، ويثبتون تأثيراً للقدرة الحادثة ويسمّون ذلك كسباً.( [76])
الضرارية نسبة إلى ضرار بن عمرو، و قد ظهر في أيام واصل بن عطاء، و قد ألف قيس بن المعتمر كتاباً في الردّ على ضرار سمّاه كتاب «الردّ على ضرار».
إنّ هذه الطائفة أيضاً تقول بأنّ أفعال العباد مخلوقة للّه حقيقة والعبد مكتسبها.( [77])



من مواضيع العلوية ام موسى الاعرجي » أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
» الحلقة الثانية : الشهادة فلسفة وعطاء
» الحلقة الاولى : الشهادة فلسفة وعطاء
» من اوصاف المومنين
» هَلْ تَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟
رد مع اقتباس
قديم 24-06-2017, 02:59 AM   رقم المشاركة : 2
الكاتب

عاشقة ام الحسنين

مراقـــبة عـــــامة

الصورة الرمزية عاشقة ام الحسنين


الملف الشخصي









عاشقة ام الحسنين غير متواجد حالياً


افتراضي

اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم ياكريم
يعطيك العآآفيه ..

طرح بقمة الذووووق والرووعه..
تسلم ايدك ع الطرح المميز لاعدمنآآك,...
بـ آانتظآآر جديدك بكل شووق
ودي وشذى الورد..


من مواضيع عاشقة ام الحسنين » أم البنين نجمة في سماء التضحية ‎‎
» الراهبة الحسينية.. أم البنين (ع)
» روحانيات
» اعراض المس في اليقظة و المنام
» الاعراض التي تصيب المسحور في اليقظة و المنام
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
أفعال, العباد, الكسب, في, نظرية

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
آفعال الصلاة عند آمير المؤمنين وسيد المتكلمين دمعة الكرار منتدى الوصي المرتضى (سلام الله عليه) 9 03-05-2012 03:16 AM
أفعال من كان عقله خاوياً Saielalmairefa احباب الحسين العام 5 04-02-2012 12:21 AM
حكمة أفعال الله واختياره الأصلح لعباده محب الصدر المنتدى الاسلامي العام 5 09-11-2011 10:50 AM
نتيجة قرعة آسيا تثير ردود أفعال واسعة Estate احباب الحسين للشباب والرياضة 2 02-08-2011 02:34 PM



تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

Loading...

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات احباب الحسين