وعليه، فإن المؤمن لسانُ حالهِ: يارب، إن كانَ ولابدَ من البلاء، فاجعل بلائي قُربة إليك: (اللهم!.. لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا آخر همنا، ولا مبلغ علمنا).. فرقٌ بين أن يُبتلى الإنسان؛ لأنهُ قالَ: الله ثُمَ استقام {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}.. وبين إنسان يُبتلى بضررٍ من تقصيرهِ، ومن عدمِ تدبيرهِ في الحياة.. فإذن، إن هؤلاء الذينَ قُتلوا في سبيل الله، أصابهم البلاء؛ ولكن نعمَ البلاء!..
تحمل الشدائد..
إن الذي يُريد حياة مخملية حريرية؛ هذا الإنسان يخيبُ ظنه.. تقول الآية: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}: اللام لام التأكيد، والنون نون التأكيد.. فالشاب الذي تربى في بيئةٍ مترفة، عندما يواجه أول أزمة في الحياة؛ ينهار لأنهُ لم يكن متعوداً على الأزمات.. ولكن نرى بعض أولاد الفقراء، وبعض الأيتام؛ عباقرة ومتفوقين؛ لأنهم تحملوا ما تحملوا منذُ نعومة أظفارهم.. عن علي (ع) أنه قال: (ألا وإن الشجرة البرية؛ أصلب عودا!.. والروائع الخضرة؛ أرق جلوداً!.. والنباتات البدوية؛ أقوى وقوداً، وأبطأ خموداً)!.. شجرة البر أين، وأشجار الزينة أين؟.. شجرة الزينة إذا لم تُسقَ لمدة يوم أو يومين؛ فإنها تذبل.. ولكن انظروا إلى شجر النخيل في الشوارع، في قمة حر الصيف؛ وهُنَ باسقات!.. المؤمن لهُ هذهِ الحالة من تحمل الشدائد، بل توقع الشدائد!..
الصدق في النطق..
{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.. عندما يكون هناك إنسان مصاب بنزيف، فإن الإسعاف الأولي هو تضميد جراحهُ فوراً.. وكذلك فإنه عند وقوع المصيبة، فإن الذي يُهدّئ الإنسان المؤمن، وحتى غير المؤمن إن كانَ عاقلاً؛ أن لا يرى نفسهُ مالكاً لشيء في هذه الدنيا: فهذا البدن مخلوقٌ للهِ -عزَ وجل- ورب العالمين أرادَ أن يبتليه بما يشاء من الأمراض.. والولد ملكٌ للهِ -عزَ وجل- فهو الذي صورنا في الأرحامِ كيفَ يشاء، وهو الذي أعطى وهو الذي أخذ.. إن هذا الاعتقاد يجعل الإنسان يرتاح!.. ولكن ما معنى {قَالُواْ}؟.. هل فقط يأخذ سبحة ويقول مائة مرة: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} وعندما يتألم يقول مائة مرة: (لا حول ولا قوة إلا بالله)؛ هذا القول هو المؤثر، أم أن هُناك ما وراء القول؟.. صاحب تفسير الميزان عندما يصل إلى {قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ} في كلمة جامعة مانعة، يقول: "ومن المعلوم: أن ليس المراد بالقول مجرد التلفظ بالجملة من غير حضور معناها بالبال، ولا مجرد الإخطار من غير تحقق بحقيقة معناها.. وهي أن الإنسان مملوك لله بحقيقة الملك، وأن مرجعه إلى الله -سبحانه-، وبه يتحقق أحسن الصبر؛ الذي يقطع منابت الجزع والأسف، ويغسل رين الغفلة".. أي لا اللفظ ولا التصور الذهني، بل هُناكَ حقيقة.. فالإنسان عندما يقول: (لا إلهَ إلا الله)؛ عليهِ أن يعيش معنى التوحيد والانقطاع، ومالكية الله -عزَ وجل- لكُل ما في هذا الوجود.. وهذا القانون يجري في كُل الأذكار!.. في دُعاءِ كُميل يقول: (...وَاِلـهي وَمَوْلايَ!.. اَتُسَلِّطُ النّارَ عَلى وُجُوه خَرَّتْ لِعَظَمَتِكَ ساجِدَةً، وَعَلى اَلْسُن نَطَقَتْ بِتَوْحيدِكَ صادِقَةً)؟!.. حيث أن هُناكَ من ينطق بالتوحيد، ولكنهُ غيرُ صادق.. فإذن، إن النطق بالتوحيد لا يحلُ المشكلة، حلُ المشكلة إنما يكون بالصدقِ في النطق.
جزاء الصبر..
{أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.. هذه الآية هي الآية اللاحقة لآية الاسترجاع، وهي تتحدث عن جزاء الذينَ قالوا: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}؛ فهنيئاً لمن أُعطيَ هذا الجزاء!.. لا تنسوا بأنَ اللهَ -عزَ وجل- من صفاتهِ ومن شؤونهِ في كُلِ لحظة {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.. رب العالمين يُعامل المُبتلى: بماله أو ببدنهِ؛ معاملتهُ لحبيبه المُصطفى -صلى الله عليه وآله-.. رب العالمين يصلي على النبي، ويُصلي على أهل البلاء.. وكل من أُصيب بنقصٍ في مالهِ أو في ثمراته؛ هو من أهل البلاء.. إذن، {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ}، لا الصلوات فحسب!.. بل {وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.. كانَ بالإمكان أن يقول: وأولئكَ هم الذينَ اهتدوا، ولكنه قال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}؛ أي هؤلاء وصلوا إلى المنزل، وليسوا في الطريق.. هؤلاء لا يمشون ويعلمون أينَ الطريق؛ بل دخلوا الدار، ووصلوا إلى لقاء المولى جلَ اسمه.