اللهم صلّ على محمد و آل محمدوعجل فرجهم وارحمنا بهم ياكريم -- [بيت آيل للسقوط]
في أحد أزقة العراق الفقيرة التي تتناثر النفايات فيها هنا وهناك .. كان يمشي رجلان بخطى سريعة .. أحدهما يحمل في يده ظرفاً ابيض اللون ومصدح اسود (ميكروفون) والآخر يحمل على كتفه آلة التصوير .. وخلفهم بعض الأطفال يتراكضون بملابس مهلهلة ووجوه مغبرة ,شعث الشعور ضاحكين .. وصلا الى احد البيوت الخربة ذو باب خشبي قديم .. طرقا الباب .. فتحته امرأة في العقد الرابع من عمرها ,تغطي نصف وجهها بعبائتها البالية التي تحول سوادها لإخضرار من كثرة الإستخدام .. رحبت بهم بكرم العراقيين المعروف وأدخلتهم الى فناء البيت الخالي من أي شيء يذكر سوى حبل عُلقت عليه بعض الملابس المهترئة وفي جانب آخر موقد غاز صغير وبعض الأواني القديمة.. ومنه دخلوا الى غرفة صغيرة. بعد السلام سأل المذيع : أين نجلس ؟ أجابت المرأة بخجل : عذراً فالمكان لا يتناسب ومقامكم ولكن على كل حال نحن نجلس على الأرض إن أحببتم الجلوس .. سألها المصوّر بتعجب : أليس لديكم سجادة صغيرة على الأقل ؟ هزت المرأة رأسها نفياً بأسف .. جالا ببصرهما حول المكان بتفحص .. كان السقف مصنوع من سعف النخيل الجاف المتراص بعضه الى بعض مربوط بحبال غليظة من الليف الخشن , أما الجدران فهي طينية مدعمة بالخشب وبعض الأحجار البارزة , والأرضية تبدو ترابية تتناثر فيها الحصوات هنا وهناك وفي أحد الزوايا بضع مراتب اسفنجية وأغطية بسيطة لا تقي من البرد . أدار المصور عدسة الكاميرا موجهاً كلامه لصاحبه دون أن ينظر اليه : إذن فلنبدأ التصوير وقوفاً , هيا ابدأ .. بدأ المذيع يجري مقابلته مع المرأة عن الحالة البائسة التي يعيشونها بسبب الفقر المذقع .. طفلة في الخامسة كانت تقف بمحاذاة أمها تعدل حجابها الصغير لتدخل بضع شعرات هربت من خدرها ,كانت تنظر للرجلين بحيرة وتعجب .. ثم تنتقل ببصرها لأمها مرة أخرى لتمتعض بسبب دموع أمها التي انسابت على وجنتها وهي تقول : الحمدلله على كل حال . المذيع يسأل المرأة : ومنذ متى أصبحتِ ارملة ؟ شهقت المرأة بحزن عميق منعها من الإجابة وغطت وجهها باكية .. مرت لحظات صمت كسرتها الطفلة بصوتها الطفولي البريء قائلة : ماما شنو يعني أرملة ؟ قال لها المذيع بعد أن مسح على رأسها بشفقة : يعني المره لما يموت زوجها يقولون عنها أرملة .. نظر اليه المصور بإيلام .. قالت بنفس البراءة : يعني انت تقصد بابا ؟ هز لها رأسه مجيباً بنعم دون أن يبالي بنظرات المصور .. قالت : تريد أعلمك يمتى مات بابا ؟ هز رأسه مجدداً بالإيجاب بعد أن قرّب لفمها المصدح .. قالت بلهجتها العراقية الطفولية : لمن قلت له آني جوعانه بابا ,لعاد اشتري لنا كم قرصاية ناكلها أنا وياك بس ما بننطي ماما لأن ما إخذتني وياها للعباس زيارة .. قام يضحك وحملني على كتوفه وقالي هسة أشتري كليجة يحبها قلب بنيتي .. ومشينا بالشارع نتضاحك وآني كنت رافعه ايديني اسوي مثل العصفور لما يطير , بس إجى واحد سرسري امريكي وضرب بابا برصاصة وطاح .. هم آني طحت وتعورت ,, وصرت ابكي ,بس بابا ما سمعني , بابا كان فيه دم هواية من فووق إلتحت .. قالت ذلك وهي تشير بيديها منفعلة لتصور لهم ما جرى في ذاك اليوم المشؤوم .. كان الرجلان يستمعان اليها بشفقة واضحة كمن يخشى أن تخونه دموعه ويبكي .. اقترب منها المذيع وهو يفرك جبينه بتوتر يحاول التماسك وطبع قبلة على جبينها الغض ثم نزل الى مستواها وامسك بكتفيها وقال : ما اسمكِ يا صغيرة ؟ قالت بخجل : فاطمة .. قال المذيع : ونعم الأسامي يا فاطمة .. هذه أمكِ تقول أنها تقتدي بالسيدة زينب الصابرة عليها السلام وتتأسى بها .. فبمن أنتي تقتدين وبمن تتأسين يا فاطمة ؟ أجابت بنفس النبرة الطفولية البريئة : أمي تقول أنا اشبه سكينة بنت الحسين الشهيد لمن مات ابوها وهي صارت تبكي عليه وتقول " وا أبتاه! قتلك أقرّ عيون الشامتين، وسرّ المعاندين، يا أبا عبد الله! ألبستني بنو أميّة ثوب اليتم على صغر سنّي، يا أبتاه! إذا أظلم اللّيل من يحمي حماي، يا أبتاه! انظُر إلى رؤوسنا المكشوفة، وإلى أكبادنا الملهوفة، وإلى عمّتي المضروبة، وإلى أمّي المسحوبة " .. لم يتمالك المذيع نفسه وأجهش بالبكاء بينما صار المصور يمسح دموعه بكم قميصة .. مرت بضع دقائق قبل أن يتسطيع المذيع أن يستعيد رباطة جأشه .. قال بصوت متحشرج رافعاً يده اليمنى : هذا الظرف يحتوي على قليل من النقود كمساعدة من أهل الخير وأنا أعلم بأنه لن يكون كافياً ولكن طالما قلوبكم متعلقة بسيد الشهداء عليه السلام فهذا لعمري كنز لا تضاهيه الكنوز الدنيوية الزائلة .. هنيئاً لكم .. وحفظ الله لكِ هذه البنية الولائية الصغيرة .. ضمت الأم ابنتها الصغيرة ثم مسحت دموعها بأنامل راجفة وقالت : جعله الله في ميزان اعمالكم .. ووفق أهل الخير إينما كانوا .. لعمري سمعت احد الخطباء يقول من فرّج عن أخيه كربة من كرب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة .. ثم استأذن الرَّجلان وخرجا بهدوء وصمت تشيعهم المرأة بدعواتها الصادقة .
بقلم : كوثر العوازم حرر في 24/3/1432هـ نسألكم الدعاء
منقوول
المواضيع المتشابهه
,, بيت آيـل للــسقـــوط ,,
العرض العادي
