وهذه التربية الخاطئة للاسف جعلت للشيطان بطريقة او باخرى الحضور الاوسع، وان كان من باب الحذر منه.. فصار كل همنا الخوف من الشيطان في خط مواز للخوف من الله. نعم هذه التربية هي التي توسع ساحة الشيطان تمنحه أبواباً أوسع للقلوب، فيما تضيّق ساحة الله التي وسعت كل شيء ونوره الذي اضاء كل شيء.
أيها الاحبة :
إن هذه العلاقة مع الله وبالشكل الذي هندسها فيه ورسخ قواعدها نجدها مجسدة لدى الانبياء الذين عرفوا الله حق معرفته، فقصرت المسافة بينهم وبينه..
والقرآن الكريم أورد قصصهم ومواقفهم مبرزا هذه العلاقة مظهرا تفاصيلها ودقائقها...
فهذا ابو الانبياء ابراهيم عليه السلام كما يخبرنا القرآن يتوجه الى الله بهواجسه المعرفية: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى، قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن...» فيرد ابراهيم « قال بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» تصوروا هذه العلاقة؛ النبي ابراهيم لم يخش. انفتح بطلبه المعرفي على الله والمتعلق بموضوع عقيدي: الآخرة والبعث بعد الموت فيطلب البرهان لمزيد من الاطمئنان بعد الايمان واليقين. وهذا ما يعكس علاقة حب وودّ حتى الدلال، وهذا ليس على الله ببعيد. فالله يعطي حاجتك، وهو جاهز للزيادة.. فهو الذي قال لرسوله «ولسوف يعطيك ربك فترضى»..
أما النبي موسى فلم يتردد ان يعرض همه وشكوكه من انه قد لا يفي بالدور المطلوب منه، فقدم مشكلته بكل تهذيب مع تمهيد ليحدثه عن نقطة ضعف تتمثل بعدم قدرته على النطق بالكلمات بمخارج حروفها .. وهو أمر لا ينتقص من موقعيته انما هو شيء تقني بحت. اراد النبي موسى ان ينفتح على الله بهذه المخاوف، فأجرى بين يدي الله فضفضة نفسية حقيقية، ويقترح على الله الحل «قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ* وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ» واستجاب الله لطلبه ووفق مهمته بمعية اخيه هارون.
ويصور لنا القرآن في مثلٍ آخر تواصل النبي يوسف مع الله تعالى في أشد لحظة يمرّ بها وفيها تحدٍّ لعفته وثباته إذ توجه الى ربه «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ» هنا تتجسّد ثقة يوسف بالله، يفتح قلبه من غير وجل وبكل شفافية يسأله: يا رب ساعدني حتى لا اسقط في الامتحان.. اعطني قوة.. اكاد ان اقع ان لم تعصمني.
وهذا هو النبي زكريا يتوجه الى الله بهمٍّ شخصي فطري وهو الحاجة إلى الذِرية والولد فامرأته عاقر، ويخاف ان ينقطع نسله، فنراه يمهد طلبه الى الله بتفاصيل مؤمِّلاً استدرار رحمته ورأفته: «قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً» ويستجيب الله «يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ..» ويبادله الله بأكثر مما طلب حتى يرضى فسمى له الغلام باسم فريد من عنده «يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا».. وبعد هل وقف الحوار عند هذا الحد؟ لا، النبي زكريا لم يُخْفِ استغرابه في مقام الاخذ والرد:« رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي لْكِبَرُ وَمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ للَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ» «قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا» وتحققت البشرى وكان لزكريا ما طلب من ربه، وجاء ولده يحيي ليكون نبيا هو الآخر.. «وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا»
أيها الأحبة
إن هذا الانفتاح على الله والعفوية والشفافية وهذا الارتقاء هو ما نريده ان يكون طابع علاقتنا بالله علاقة العبد بربه، علاقة المؤمل، علاقة الحب والود لحد العشق، علاقة تصل بك الى ان تقول ما قاله امير المؤمنين:
كفى بي عزاً ان أكون لك عبدا وكفي بي فخرا ان تكون لي ربا.
ان هذه العلاقة علاقة القرب هي ليست حكراً على الأنبياء المقربين والأولياء فحسب بل هي شاملة، وتتسع لكل من يعرف الله حق معرفته ويدعو الله بقلب سليم أخذا بالأسباب طاردا للمنفرات: فالله حبيب من تحبب اليه وقرة عين من لاذ به والتجأ اليه.. وشعارنا قول الشاعر: