(بِوَجْهِكَ الْباقي بَعْدَ فَناءِ كُلِّ شَيء) إخواني ارتبطوا بهذا الوجه ، عندك مال قدمه لهذا الوجه الكريم ، لتكون له صفة الخلود ، تنفق الألف والألفين في طعام أو سفر فإذا به يفنى ويزول لعدم ارتباطه برب العالمين ، أين المتع التي تمتعتم بها في صيف العام الماضي عندما ذهبت إلى الأماكن الخلابة الجميلة ؟... خيال في خيال . الذكريات الماضية بمثابة شريط مختزل في الذاكرة ، وكأنها فيلم . ماالفرق بين ذهابك جبال الهملايا وبين الفيلم الذي رأيته في التلفزيون ، الصورة هي الصورة عدم في عدم .
الذي يبقى هو الدرهم الذي قدمته في سبيل رب العالمين ، نقرأ ï´؟ هَلْ أَتَىظ° عَلَى ظ±لإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ظ±لدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً – الإنسان 1ï´¾ أقراص من الخبز ، لو بيعت لما ساوت شيئا ، ما قيمة هذا الخبز في عالم الوجود ؟ ما قيمة الخبز عند الله تعالى الذي يقول : ï´؟ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ - الحجر 21ï´¾ عنده عزوجل خزائن الذهب والمال والطاقة ... ورغم ذلك كُتب لهم الخلود ، وأي خلود ؟ الخلود ليس في أقراص الخبز ، ولكن الخلود في قوله تعالى ï´؟ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ظ±للَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً – الإنسان 9ï´¾ أقراص الخبز الفانية الرخيصة عندما ترتبط بالوجه الباقي تتحول إلى طاقة باقية لا تنقطع أبدا ï´؟ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً – الإنسان 12ï´¾ الجزاء هو الخلود في الجنة مقابل هذه الاقراص لعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام أجمعين . وهذا الدرس نتعلمه من دعاء كميل (بِوَجْهِكَ الْباقي بَعْدَ فَناءِ كُلِّ شَيء) فيا أيها العبد إذا كنت تريد الخلود والبقاء ارتبط بهذا الباقي الذي لافناء له .
( اَللّهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تَهْتِكُ الْعِصَمَ ) يبين أمير المؤمنين (ع) أن علاقة ارتكاب الذنوب بهتك العصمة ... وإنزال البلاء ... وحبس الدعاء علاقة وثيقة جدا ، بعض الناس يرتكب خطيئة أو فاحشة في خلوة وكأنه لا يوجد من يطلع عليه . وحساب رب العالمين دقيق ، بعض الذنوب تهتك العصم ، وبعض الذنوب تغير النعم ... يشتكي بعض الناس من تغير النعم كيف كان وكيف أصبح ، هذا العتب جيد ، وهذه النفس اللَّوَّامة محترمة ، ولكن ابحث عن السبب ، ما الذي غيَّر النعمة لديك ؟... كنت في العام الماضي تتأثر بمصائب سيد الشهداء (ع ) في شهري محرم وصفر ، والآن الخطيب يقرأ وأنت تنظر إليه ، ما الذي تغير في وجودك ؟... هذا القلب لم يعد يلتقط الإشارات ... علينا النظر في موجبات التغير في حياتنا ، لم هتكت عصمتي ؟...لم وقعت في ضائقة مالية ؟...لم أصبت بصدمة اجتماعية ؟... و قبل أن أبحث عن زيد وعمرو وألقي اللوم عليهم لأبحث في نفسي . هذه النفس هي منشؤ المصائب ( أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك ) ، قال الصادق (ع): (إنّ الرجل يذنب الذنب، فيُحرم صلاة الليل).. و أنت لا تعلم أي بلاء كانت ستدفعه عنك هذه الصلاة لو صليتها ، إنها معادلة في عالم مَحَبُوك عالم منتظم ، رب العالمين يضع معادلة فلان لولم يرتكب ذنبا يقوم الليل ، وإذا قام الليل سأدفع عنه كذا وكذا من البلاء ، ولكنه ارتكب الذنب فحرم صلاة الليل وفقد المسكين ما فقد .
المطلعين على عالم الذرة والنبات والفلك والمجرات يرون المعادلات العجيبة في هذا الوجود ، والارتباط القائم ، غلاف الأوزون ينثقب فإذا بالحرارة تزيد ... عَاَلمٌ مترابط ... عَاَلمٌ متقن ... عالم دقيق ، فهل يعقل أن يكون الإنسان خليفة الله على الأرض مُهْمَلا يعمل مايشاء ؟.. ويكون عالم الذرة والفضاء والغلاف الغازي عالم متتقن ، يقول تعالى ( إني جاعل في الأرض خليفة ï´¾ فهذا الخليفة ليس في حلٍ يفعل ما يشاء إنه محكوم : وفي الأحاديث القدسية( خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي ) وفي حديث آخر : ( لاتسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلبُ عبدي المؤمن ) و ( قلب المؤمن عرش الرحمن ) فأين هذه الأوصاف من واقع حياتنا ؟
(اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لي الذُّنُوبَ الَّتي تَحْبِسُ الدُّعاءَ ) البعض في شهر رمضان على الخصوص يسأل : أنا دعوت الله ... استغفرت ربي ... تصدقت ... بكيت ... خشعت... تضرعت ... ولكن أين الإجابة ؟ قد يكون الدعاء جيدا ... ولكنك خلقت الموانع بيدك فإذا وجد المانع فالمؤثر لا يعطي أثره ، فلذلك الدعاء لا يؤثر. خذ عودا رطبة واجعلها في نارا مستعرة ، الخشب لا يحترق مع وجود الرطوبة فيه ، هناك سقف على رأسك ، ما صعد منك شيء جيد لا نقص فيه ، ولكن هذه المظلة هي التي حالت بينك وبين صعود الدعاء إلى رب العزة والجلال ، إذن كم خطيرة هي الذنوب ؟ ونحن نقرأ دعاء كميل قراء سطحية وكأنه وِرْد نريد أن ننتهي من قراءته رغم المعاني السامية فيه.
( اِلهي وَ مَوْلاي اَجْرَيْتَ عَلَي حُكْماً اِتَّبَعْتُ فيهِ هَوى نَفْسي ، وَ لَمْ اَحْتَرِسْ فيهِ مِنْ تَزْيينِ عَدُوّي ) إذا أردنا تجسيم هذه الفقرة سينتاب أحدَنا شعورٌ بالذهول والقلق والاضطراب ، إنَّ في مملكة وجود الإنسان قوة هي الطابور الخامس ، قوة الأهواء ... قوة الشهوات وهي بمثابة جواسيس للشياطين ، وما أعظمها من قوى ! قوة هائلة ... قوة الهوى ليست قوة هينة ، تتجلى هذه القوة عندما تختلي زليخة مع الصديق يوسف (ع) في ذلك الموقف ï´؟ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاغ¤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ ربه – يوسف 24 ï´¾ كان يوسف (ع) يحتاج إلى مدد من رب العالمين ، فكيف بنا نحن ؟ الهوى بهذه القوة ، يضاف إلى ذلك أن الشيطان يزين للإنسان المعصية ï´؟ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي ظ±لأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ- الحجر 39ï´¾ إن في أصحاب الهوى والمجون والعشاق مثالا واضحا ، لنحلل عمل هؤلاء ... سنوات وهم يخططون ليصلوا لما يريدوا ، يرى من يعشقها في يقْضَتِهِ و في نومه ، ثم بعد حصوله على ما يريد ، وإذا بهذه الطاقة المتجمعة عبر فترة من الزمن يجدها رخيصة جدا ، وليست بالمثابة التي يتوقعها . أرأيتم شهوة الشبع وشهوة الغرائز كيف تنطفئ في لحظات معدودة ؟... هذه هي الزينة (لأزَيِّنَنَّ) . بذلت من عمرك ... من مالك ... من وجاهتك ... من شرفك ... من دينك لأجل لحظات تمر مرور الكرام ، ويتعقبها الكسل والتعب والنوم ، هذه هي النموذج الأعلى من شهوات الدنيا ، ï´؟ لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي ظ±لأَرْضِ – الحجر 39ï´¾ إنها زينة ، كإنسان يريد أن يزوج شابا هو أجمل ما يكون على عجوزة في الثمانين ، ولكنها في قناع جميل ، سرعان ما يسقط هذا القناع ليعلم أنه عَقَدَ زواجَه على أية قبيحة !!... هذا هو واقع الحياة الدنيا ، وأحدنا في حياته كم مرَّ في حياته على حالات ندامة من هذا القبيل ، وهذا الإنسان يعترف بينه وبين المقربين بضياع العمر وتلفه في السفر وغيرها دون أن يحصل على شيء يُعْتَدُ به .
لفتة :
1 .في أشهر الصيف في الأسفار ، الناس يبيعون شيئا من دينهم لدنياهم ، فهو في الطائرة يعفي نفسه عن الصلاة في وقتها أوحتى في غير وقتها ، والحال أن التكليف لا يسقط بحال .
2. زوجته في بلده لايكاد يراها أحد ، وفي بلاد الغربة تصبح وكأنها امرأة مختلفة .
إخوتي لنحذر من تزيين الشيطان لنا في حياتنا ، لنحلل كل أمر ، لهذا المؤمن عندما يُقْدِم على أمر لابد أن يفكر في عواقب ذلك الأمر ، ما الدافع ؟ ... ولا أبيحكم سرا عندما أقول منطلقاتنا في أغلب أعمالنا حتى التي فيها صبغة الدِّين ، وفيها خدمة مذهب سيد المرسلين ، عندما نلاحظ الدواعي الخفية هناك دوافع أخرى ، كما يقول الأمير ( ع) : ( وَ كَمْ مِنْ ثَناءٍ جَميلٍ لَسْتُ اَهْلاً لَهُ نَشَرْتَهُ ) الناس يرون ظاهر الأمر ، يرون الخطابة الجيدة ، يرون الوجاهة ..... ولكن ما هي الدوافع ؟ لا يعلم ذلك إلا ستَّار العيوب وغفَّار الذنوب ، و المؤمن الذي لا يفك هذه المعادلات في نفسه يبقى كما هو إلى أبد الآبدين .
( اَتُسَلِّطُ النّارَ عَلى .... جَوارِحَ سَعَتْ إلى أوْطانِ تَعَبُّدِكَ طائِعَةً ، وَ عَلى ضَمائِرَ حَوَتْ مِنَ الْعِلْمِ بِكَ حَتّى صارَتْ خاشِعَةً) وهي من الفقرات المؤمِّلة – بمعنى تبعث الأمل - في الدعاء . أوطان التعبد هي : المساجد الحج العمرة الزيارة والمشاهد . في هذا اليوم رأيت بعض الأخوان يأتون من أماكن بعيدة مشيا في حر هذا الشمس ، هذه الخطوات التي انتقلت بها إلى بيت من بيوت الله ... جئت طائعا إلى هذا المسجد غير مكره ، يوم القيامة قولوا لرب العالمين : لإن خالفناك في أوامر كثيرة ، فنحن قد أطعناك في بعض الأوامر ، فهذه من الساعات القيمة في حياتكم ، فلعل هذه الساعات تشفع لنا في ساعة العرض الأكبر ، هذه الجوارح وهذه القلوب تشفع للإنسان في ذلك الموقف .
(يا رَبِّ ، قَوِّ عَلى خِدْمَتِكَ جَوارِحي ) يارب بعد أن عرضنا قصة الضعف البشري ... تزيين الشيطان ... تزيين العدو ( فغرني بما أهوى وأسعده على ذلك القضاء ) بعد هذه الشكاوى ، بعد هذه التألمات ، يقول يارب الذي ينفعني هو المدد منك يارب العالمين . هذه الجوارح تابعة للهوى لا للعقل إن لم تأخذ بيد هذه الجوارح فأنا ساقط في الهاوية .
( وَ اشْدُدْ عَلَى الْعَزيمَةِ جَوانِحي ) العقل يعتقد أن هذا فيه الخطر ، ولكن ماذا أفعل مع الهوى ؟
هذه الناقة تركت فصيلا فهواها في الخلف ، وقدامي الهوى. العقل يشدك إلى جهة ، والهوى يشدك إلى جهة أخرى ، ما الذي يفصل النزاع ؟... مددٌ وقوةٌ من رب العالمين . ï´؟ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىظ° فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاغ¤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىظ° قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ظ±لْمُؤْمِنِينَ – القصص 10ï´¾ أم موسى تلقي بولدها في النيل المضطرب النيل المائج ، الربط على القلوب إخواني سنة متكررة في حياة الصلحاء والأنبياء .
(وَ هَبْ لِيَ الْجِدَّ في خَشْيَتِكَ) عجبا يا أمير المؤمنين !.. هناك هزْلٌ في الخشية ؟!... نعم ، الإنسان الذي يخشى يوما ولا يخشى يوما فهذا إنسان متلاعب ، الموظف الذي يأتي يوما للشركة ويتغيب يوما ، فهذا موظف مستهتر، وإن كان اليوم الذي يحضر إلى الدوام يبذل قصارى جهده ، هذا الحال بالنسبة للذي يترك يوما ، فكيف الحال بالذي يتغيب أشهرا عن مقر عمله ؟.. هذا هزَل مع رب العالمين .
( وَ الدَّوامَ فِي الاِْتِّصالِ بِخِدْمَتِكَ ) وهنا المصيبة ... ليلة من ليالي القدر نحلق في الأجواء العالية جدا ، صاحبنا يأتي وعيونه كالعَلقة ... كالدم الأحمر ، ولكن بعد شهر رمضان ينتهي كل شيء ، ويرجع المرء إلى ما كان فيه . في الحج يصبح وكأنه قديس يطلق اللحية ... يظن المرء عندما يراه وكأنه لا يوجد من هو أقدس منه في هذه البقعة ، وإذا به من اليوم الثاني يغير الهيئة الظاهرية والباطنية معا ، وهذا الأمر يتكرر في محرم وصفر ، الدوام في الخشية وفي الاتصال بالعبودية أمر مهم .
الخلاصة :
1- العبودية الكاملة ... أن تعبد الله على وتيرة واحدة في السراء والضراء... في الشدة والرخاء ... في الحاجة وعدم الحاجة.
2- ما المبتلى الّذي قد اشتدّ به البلاء بأحوج إلى الدّعاء من المعافى الّذي لا يأمن البلاء.
3- يا أيها العبد إذا كنت تريد الخلود والبقاء ارتبط بهذا الباقي الذي لافناء له في أعمالك كلها .
4- إن علاقة ارتكاب الذنوب بهتك العصمة ... وإنزال البلاء ... وحبس الدعاء علاقة وثيقة جداً.
5- إنَّ في مملكة وجود الإنسان قوة هي قوة الأهواء و الشهوات وهي بمثابة جواسيس للشياطين ، وما أعظمها من قوى ! يضاف إلى ذلك أن الشيطان يزين للإنسان المعصية ، فما أحوجنا إلى التماس المدد الإلهي .
6- السعي إلى أوطان التعبد ( المساجد والمشاهد ...) هي من الساعات القيمة في حياتنا .
7- العزيمة والجد والدوام في السعي لله على طريق العبودية من الأمور المهمة .