العودة   منتديات احباب الحسين عليه السلام > القسم الاسلامي > المنتدى الاسلامي العام > قسم القرآن الكريم
روابط مفيدة مشاركات اليوم البحث


النسخ ونفي التبديل لِكَلِمَاتِ اللَّهِ

قسم القرآن الكريم


إضافة رد
   
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 01-10-2019, 06:37 AM   رقم المشاركة : 1
الكاتب

سيد فاضل

الصورة الرمزية سيد فاضل


الملف الشخصي









سيد فاضل غير متواجد حالياً


افتراضي النسخ ونفي التبديل لِكَلِمَاتِ اللَّهِ

النسخ ونفي التبديل لِكَلِمَاتِ اللَّهِ
سماحة الشيخ محمّد صنقور

النسخ ونفي التبديل لِكَلِمَاتِ اللَّهِ



شبهة مسيحي:

ورد في القرآن قوله: ﴿وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾(1) وقوله: ﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾(2) وقوله: ﴿لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾(3) مع أنَّه يقول في سورة النحل: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾(4).



ففي الآيات الأولى نفهم أنَّ الله في جميع أحواله لا يُبدِّل آياته مهما حدث وأمَّا الأخيرة فبدَّل الله آياته وبرَّرها بالقول: والله أعلم، وكذلك قال القرآن في سورة البقرة: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾(5) فكيف يستقيم ذلك مع مثل قوله تعالى: ﴿وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ أليس ذلك من التناقض؟!.



الجواب:

تحرير موضوع الشبهة

نفى القرآنُ التبديل عن كلمات الله تعالى في آياتٍ أربع:

الآية الأولى: وردت في سورة الأنعام وهي قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾(6).



الآية الثانية: وردت في سورة يونس وهي قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(7).



الآية الثالثة: وردت في سورة الكهف وهي قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾(8).



الآية الرابعة: وردت في سورة الأنعام أيضاً وهي قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(9).



والإشكال عند صاحب الشبهة نشأ عن تفسيره الكلمات في الآيات الأربع بالقرآن، ولذلك زعم أنَّ قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾(10) ناقضٌ لنفي التبديل الوارد في الآيات الأربع، وكذلك فإنَّ قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾(11) يكون ناقضاً بحسب زعمه للآيات النافية للتبديل.



الردّ:

إلا أنَّ هذا الإشكال ليس تامَّاً فإنَّ الذي نفت الآياتُ الأربع عنه التبديل هو الكلمات وليس القرآن أو آيات القرآن، نعم لو أنَّ الآيات الأربع قالت إنَّه لا مبدِّل للقرآن أو لآيات القرآن، ولا تبديل للقرآن أو لآياتِ القرآن لأمكن توجُّه النقض عليها بمثل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ﴾ إلا أنَّ الوارد في الآيات الأربع هو نفي التبديل عن كلمات الله تعالى وليس عن آيات القرآن، فلا يتمُّ الإشكال إلا مع البرهنة على أنَّ المراد من الكلمات في الآيات الأربع هو القرآن أو آيات القرآن، وهذا مالم يفعله صاحبُ الشبهة بل انَّه لا سبيل عنده للبرهنة على أنَّ المراد من الكلمات في الآيات الأربع هو القرآن أو آيات القرآن بنحو الإطلاق.



بحثٌ حول المراد من الكلمات

مقدمتان:

وقبل الوقوف على كلِّ آيةٍ من الآيات الأربع للبحث عمَّا هو المراد من الكلمات في كلٍّ منها يكون من الجدير التنبيه على مقدمتين:



المقدمة الأولى: الكلمة هي اللفظ الدال على معنى سواءً كان هذا اللفظ إسماً أو فعلاً أو أداة، وتُطلق الكلمة على مجموع الجملة المفيدة لمعنى والمركَّبة من ألفاظ متعددة، والكلمة سواءً التي تُطلق على اللفظ المفرد أو التي تُطلق على الجملة يمكن توصيفها بالمفهوم الكلِّي القابل للصدق والإنطباق على كلِّ لفظٍ أيَّاً كان معناه وعلى كلِّ جملةٍ أيَّاً كان مدلولها، وهي في ذات الوقت من الألفاظ المبهمة التي يتحدَّد تصنيفها وتكتسب هويتها من ملاحظة مدلولها ومفادها، فلفظ الكلمة من هذه الجهة كلفظ الشيء، فكما أنَّ لفظ الشيء يُطلق على الجماد والنبات والحيوان وعلى الوجودات العينيَّة والوجودات المعنويَّة على حدٍّ سواء فيُقال للماء شيء وللنخلة شيء وللأسد شيء وللإنسان شيء وللسماء شيء وللبحر شيء وللتراب شيء، ويُقال للخوف شيء وللحزن شيء وللإبتهاج شيء، فكذلك الكلمة فإنَّها تُطلق على اللفظ الدال على أيِّ معنىً من المعاني الحسيَّة أو المعنوية، وتُطلق الكلمة على اللفظ الدال على خبر، وعلى اللفظ الدال على وعد واللفظ الدال على إنشاءِ عقد، والدال على إنشاء طلب أو الدال على توبيخٍ أو زجرٍ أو تهديد، فكلُّ هذه المداليل وغيرها يُقال لكلِّ واحدٍ منها كلمة إذا تمَّ أداؤه باللفظ، وكما أنَّ لفظ الشيء يتحدَّد تصنيفه وهويته بموصوفه فيُوصف الشيء بالمادِّي إذا أُطلق على مثل الجماد والنبات، ويُوصف الشيء بالمعنوي إذا أُطلق على مثل الخوف والإبتهاج، ويُوصف الشيء بالسيئ أو القبيح إذا أُطلق على مثل الظلم، فيُقال: الظلم شيءٌ سيئٌ وقبيح أو يقال: هذا شيء ٌسيئٌ وقبيح ويُقصد من الشيء الظلم، ويُوصف الشيء بالحسَن إذا أُطلق على مثل الإحسان والعدل، فيُقال: العدل شيءٌ حسن، فكذلك الكلمة يتحدَّد تصنيفها وهويتها بمدلول لفظها فتُوصف الكلمة بالسيئة إذا كان مدلولها يُعبِّر عن معنىً سيئ، وتُوصف الكلمة بالكاذبة إذا كانت تُنبأ عن خبرٍ مخالفٍ للواقع وهكذا، ولذلك وصف القرآنُ الكلمة تارةً بالطيِّبة وأخرى بالخبيثة قال تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾(12) وقال تعالى: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ﴾(13) فالكلمة وُصفت بالطيِّبة لأنَّ مدلول لفظها يُعبِّر عن معنى طيِّب كما لوكان مدلول لفظ الكلمة أمراً بالخير والمعروف أو ذكراً لله تعالى، وتُوصف الكلمة بالخبيثة لو كان مدلول لفظها يُعبِّر عن معنىً فاحش أوبذيئ أو شبه ذلك.



وقد نعتَ القرآن كلمةً بالكفر وأخرى بالتقوى فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ﴾(14) وقال في مورد آخر: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾(15) وكذلك وصف الكلمة بالعذاب في قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾(16) فالكلمة حينما يكون مدلول لفظها معبِّراً عن الشرك بالله تعالى أو معبِّراً عن الجحود بوجوده تعالى أو بصفاته وأسمائه الحسنى فإنَّ هذه الكلمة تُوصف بالكفر، وحينما يكون مدلول لفظ الكلمة معبِّراً عن الإخلاص لله جلَّ وعلا أو توحيده أو الإمتثال لشريعته فإنَّ هذه الكلمة يصحُّ وصفها بالتقوى، والآياتُ التي توعَّدت العُصاة والمشركين بالنار عبَّر عنها القرآنُ بكلمة العذاب. إذن يتحدَّد توصيف الكلمة وتصنيفها من ملاحظة مدلول ألفاظها.



المقدمة الثانية: أسند القرآن الكلمة والكلمات لله تعالى في مواضع كثيرة من آياته، ومن ملاحظة كلِّ آيةٍ إشتملت على إسناد الكلمة أو الكلمات لله تعالى أو نسبتها له يتَّضح أنَّ القرآن لم يستعمل الكلمة والكلمات المُسندة والمنتسبة لله تعالى في معنىً واحد بل في معانٍ متعدِّدة، وللتثبُّت من ذلك نذكر عدداً من النماذج:



النموذج الأول: قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾(17) فهنا نسب القرآن الكلمة إلى الربِّ جلَّ وعلا ﴿حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾(18) والواضح أن المراد من الكلمة المنسوبة لله تعالى في هذه الآية هي ما توعَّد به اللذين كفروا بمثل قوله: ﴿أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ فكلمة الله في هذه الآية هي وعيده للذين كفروا بالنار، وقد وصف القرآنُ هذا الوعيد بكلمة العذاب في قوله نعالى: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا﴾(19) إلى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾(20). وأسند الله تعالى إلى نفسه كلمة العذاب وهي وعيده للجاحدين بالنار في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾(21) فكلمة الله أُطلقت في هذه الآية على وعيده بأنْ يملاْ جهنم من الجِنَّة والناس أجمعين.



النموذج الثاني: قوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾(22) فهنا أطلق القرآن على وعد الله تعالى بني إسرائيل بميراث الأرض وتدمير فرعون وقومه، أطلق على هذا الوعد الإلهي كلمةَ الله الحسنى، وقد بيَّن القرآن هذا الوعد في سورة القصص: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾(23).



النموذج الثالث: قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾(24) وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ﴾(25) ففي هاتين الآيين وصف القرآن السيد المسيح (ع) بأنَّه كلمة الله، ذلك لأنَّه خُلق على غير السنَّة الإلهية الجارية في خلق الناس، فهو تعالى قد خلق السيَّد المسيح بكلمةٍ منه ألقاها إلى مريم، وهي قوله تعالى: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ كما قال تعالى في سورة آل عمران: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(26).



النموذج الرابع: قوله تعالى: ﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾(27) إحقاق الحق يعني إظهاره وإثباته أو إنتصاره، وكلماتُ الله أطلقت في هذه الآية على مثل حجج الله تعالى كبراهينه ومعجزاته، ويُؤيد إرادة ذلك من كلمات الله في الآية مضافاً إلى أنَّه المناسب لإحقاق الحق يُؤيِّد ذلك سياقها، فهي قد سِيقت للتعقيب على ما ظهر من صدق موسى (ع) حين أبطل بنحو الإعجاز ما جاء به السحرة، وذلك بإبتلاع العصى المُنقلِبة إلى أفعى عصيِّ السحرة وحبالهم فكان في ذلك ظهورٌ للحق بواسطة كلمات الله أي معجزته وهي من حُججه جلَّ وعلا، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾(28).



وورد في آيةٍ أخرى من سورة الأنفال قوله تعالى: ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾(29) وإحقاق الحقِّ هنا بظهوره وإنتصاره، ومصداقه في الآية هو غلبة المسلمين للمشركين في غزوة بدر، ومعنى كلمات الله في الآية هو أمره لهم بالحرب بعد أنْ لم يتمكنوا من قافلة قريش العائدة من الشام وذلك لأنَّها إنصرفت بعيداً عنهم، فأمرهم الله بحرب المشركين اللذين خرجوا لحماية القافلة من مكة، وكان فريقاً من المسلمين كارهين للحرب ويودُّون أنَّ غير ذات الشوكة تكون لهم لكنَّ الله تعالى هيَّأ بقضائه لقيام الحرب وأمر بها لعلمه بأنَّ في ذلك ظهوراً للحق وغلبته، فمعنى قوله تعالى: ﴿يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾ هو أنَّه يُظهر الحق بأوامره المقتضية عند إمتثالها لظهور الحق، قال تعالى: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إلى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾(30).



فقوله تعالى: ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ سِيقت مساق التعليل للأمر بالحرب فكأنَّه أراد القول إنَّنا إنَّما أمرنا بالحرب وهيأنا لنشوبها لأنَّنا أردنا من ذلك إظهار الحق وغلبته، وذلك هو ما وقع فكانت أوامر الله تعالى هي التي نشأ عنها ظهور الحق، فكلماتُ الله في الآية هي أوامره، وكونها سبباً في ظهور الحق استُفيد من باء السببية الداخلة على لفظ كلماته، فبسبب كلماته أي أوامره ظهر الحق، ويمكن أنْ يكون المراد من كلماته هو قضاؤه بالنصر وظهور الحق الذي كتبه على نفسه وأخبر به أنبياءه كما قال تعالى في سورة الصافات: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾(31) وعلى كلِّ تقدير فإنَّ هذه الآية أطلقت كلمة الله على قضائه بالنصر ووعده لعباده المرسلين ولجنوده بالنصر والغلبة.



وورد في آيةٍ ثالثة من سورة الشورى قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾(32) وهنا أيضاً استعمل القرآن كلمات الله وأراد منها بيِّنات الله وحججه وبراهينه التي كان يُبيِّنها بواسطة الوحي لأنبيائه، فالكلماتُ هنا تشمل القرآن كما تشمل غير القرآن من الحجج والبيِّنات التي التي أُفيضت على قلب رسول الله (ص) فنطق بها لأنَّه لا ينطق إلا عن وحي الله وكلماته وإنْ لم تكن قرآناً، قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾(33)، كما تشمل الكلمات في هذه الآية مطلق الحجج والبِّينات التي صدع بها الأنبياء المؤيَّدون بوحي الله وكلماته، ويدلُّ على شمول الكلمات لمطلق ما كان يُوحيه الله تعالى لعموم أنبيائه من بيِّنات وبراهين إستعمالُه للفعل المضارع "يمحو، يحق" الذي يعني الإستمرار، فكأنَّه أراد القول إنَّ شأنه وسنَّته الجارية هي أنْ يمحو الباطل ويُفنِّده ويُحقُّ الحق ويظهره بكلماته وبيِّناته التي يُوحيها إليهم.



النموذج الخامس: قوله تعالى: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾(34) والمراد من كلمات الله تعالى في هذه الآية هي مطلق ما أوحاه الله تعالى لأنبيائه من شرائع وحقائق، فتكون الكلمات في الآية أوسع ممَّا ورد في الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه، وقد ذُكرت الكتب بعد الكلمات للتنويه نظراً لأهميتها وإلا فهي مشمولة لكلمات الله في هذه الآية.



النموذج السادس: قوله تعالى: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(35) مفاد الآية بقرينة السياق أنَّ الله تعالى جعل ما تعاقد عليه كفار قريش في دار الندوة من قتل النبيِّ (ص) أو حبسه أمراً خائباً حيث لم يتحقَّق ما عقدوا العزم عليه واجتمعت كلمتُهم على إنفاذه، فكان في فشل كيدهم ومكرهم سقوطاً لكلمتهم وكسراً لوعدهم الذي قطعوه على أنفسهم كما قال تعالى في موضع آخر: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾(36).



وأما كلمة الله تعالى في هذه الآية فهي وعده لنبيِّه (ص) بالنصر وظهور دينه والذي بدأت بوادره بتخليصه من كيد قريش، ولذلك عبَّر صدر الآية عن ذلك بنصر الله تعالى: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فكلمة الله هي العليا تعني أنَّ وعده كان هو النافذ المبرم، فكلمته هي العليا لأنَّها هي الماضية والغلبة التي لا سبيل إلى كسرها وإبطالها، وكلمة اللذين كفروا السفلى فهي خائبة، لأنَّها قد أُبطلت وكُسرت.



النموذج السابع: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(37) ففي هذه الآية إستعمل القرآن كلمات الله في الوجودات التي أبدعها وخلقها ويخلقها الله جلَّ وعلا أو هي تدبيره وأوامره التكوينيَّة التي تنشأ عنها الوجودات أو هي قدرته غير المتناهية، وعلى كلِّ تقدير فكلماتُ الله تعالى في هذه الآية ليست هي ما أوحاه الله لنبيِّه (ص) أو ما أوحاه لنبيِّه (ص) وسائر أنبيائه، فهي ليست ألفاظ القرآن وآياته ولا هي مضافاً إلى الكتب التي أنزلها على أنبيائه، فإنَّ ذلك منافٍ لظاهر السياق، وهي كذلك مما يقبل النفاذ.



النموذج الثامن: قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾(38) ففي هذه الآية أسند الله تعالى الكلمات إلى نفسه فأفاد أنَّه ابتلى وامتحن إبراهيم (ع) بكلمات أي بكلماتٍ من عنده، والمُستظهَر من معنى الكلمات هو الإبتلاءات التي امتحن الله تعالى بها إبراهيم (ع) كإلقائه في النار وكإستعداده الأكيد والقاطع للتضحيَّة بإبنه إسماعيل (ع) وعليه فتكون الآية قد استعملت الكلمات في الإبتلاءات.



خلاصة النماذج

هذه مجموعة من النماذج إستعمل فيه القرآن الكريم لفظ "كلمة الله" و "كلمات الله" في معانٍ متعدِّدة، وتمَّ الوقوف على معرفة ما هو المراد في كلِّ إستعمال من ملاحظة سياق كلِّ آيةٍ إستُعمل فيها هذا اللفظ، ومن ذلك يتَّضح أنَّ لفظ "كلمة الله" و"كلمات الله" لا يعني في كلِّ استعمال الآيات القرآنية بل إنَّ أكثر إستعمالات هذا اللفظ إنْ لم يكن جميعها لم يكنْ في هذا المعنى أي إنَّ كلمات الله ليست بمعنى آيات القرآن في أكثر استعمالات القرآن إنْ لم يكن جميعها، وعليه فلابدَّ من ملاحظة كلِّ آيةٍ من الآيات الأربع التي إشتملت على نفي التبديل عن كلمات الله للوقوف على ما هو المراد من كلمات الله في كلٍّ منها:



المراد من ﴿الكلمات﴾ في الآيات الأربع:

أما الآية الأولى: وهي قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾(39) فالواضح من مساقها أنَّ المراد من كلمات الله التي نفت عنها الآيةُ التبديل ليس هو القرآن ولا هو آياتُ القرآن ولا هي الأحكام الشرعيَّة التي يجوز عليها النسخ بل المراد من كلمات الله تعالى في هذه الآية هي وعوده التي قطعها على نفسه، ومنها وعده لأنبيائه ورسله بالنصر، كما نوَّه على ذلك في مثل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾.



فالآية أعني قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ مسوقة لغرض التسلية للنبيِّ (ص) وحثِّه على المزيد من الصبر على تكذيب قومه وإيذائهم له، فأخبره لهذا الغرض أنَّ مَن سبقه من المرسلين قد أنجز اللهُ تعالى لهم ما وعدهم من النصر بعد أنْ صبروا على تكذيب أقوامهم وإيذائهم، وأنَّ هذا الوعد بالنصر الذى قطعه على نفسه شأنه شأن كلِّ وعود الله لا مُبدِّل لها ثم ذكَّره بما فصَّله له من نبأ المرسلين وكيف أنَّ الله تعالى قد إنتصر لهم بعد طول عناءٍ وتكذيب ﴿وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾.



فالكلماتُ التي نفت الآيةُ عنها التبديل هي وعود الله تعالى التي قطعها على نفسه، ولا ريب في أنَّها لا تقبل التبديل، لأنَّ الله تعالى لا يُخلف وعده كما أخبر بذلك عن نفسه بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾(40) وقوله جلَّ وعلا: ﴿رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَاد﴾ وقوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾(41).



وأمَّا الآية الثانية: وهي قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(42) فهي أيضاً -كما هو واضح جداً من مساقها- أجنبيةٌ عن إفادة نفي التبديل لآيات القرآن وأحكامه الشرعيَّة وإنَّما هي بصدد نفي التبديل لوعود الله التي قطعها على نفسه ومنها وعده المتقين من اللذين آمنوا بالبشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فالآية بعد أنْ قرَّرت هذا الوعد الإلهي أكَّدته للمزيد من تطمينهم بما أفادته أنَّ ذلك غير قابلٍ للتبديل، إذ لا تبديل لكلمات الله وما وعد به عباده، فهو من القضاء الإلهي المحتوم الذي لا يقبل النقض، ويُؤيِّد إرادته لنفي التبديل للوعد من نفي التبديل لكلمات الله ذيلُ الآية، وهي قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ إذ أنَّ المناسب للفوز العظيم هو الوعد بالبشرى غير القابل للنقض.



وأمَّا الآية الثالثة: وهي قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مالَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾(43) فهي واقعة في خاتمة ما أورده القرآن حول ما وقع لأصحاب الكهف، فهو بعد أنْ سرد شيئاً ممَّا وقع لهم ذكر أنَّهم: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾(44) ثم أفاد: ﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ويظهر من ذلك -كما يُؤيِّده ما ورد في أسباب النزول- أنَّ ثمة مَن أنكر من أهل الكتاب التوقيت الذي أفاده القرآن فأجابهم بأنَّ الله تعالى هو الأعلم بما لبثوا، وذلك لأنَّه يعلم غيب السماوات والأرض، فهو الأبصر بشئونات خلقه والأوعى سمعاً، ثم أمر الله تعالى نبيَّه (ص) بتلاوة ما أوحاه إليه من القرآن في شأن أصحاب الكهف وأنْ لا يكترث بإنكار المنكرين فإنَّه لا مُبدِّل لكلمات الله تعالى أي لا يسع من أحدٍ أنْ ينقض على إخباراته، فكلُّ ما يُخبر به القرآن المُوحى من عند الله تعالى فهو مطابقٌ للواقع، ولا سبيل إلى نقضه وإثبات ما هو مخالفٌ لما أخبر به.



فالآية إذنْ وإنْ كانت تنفي التبديل عن كلمات الله تعالى التي أوحاها في قرآنه لنبيِّه (ص) إلا أنَّ الواضح من سياقها أنَّ المقصود من كلمات الله تعالى هي إخباراتُه، ولا ريب أنَّه لا سبيل إلى نقض وتبديل مثلها لأنَّها صدقٌ وحق، والصدقُ لا يقبل النقض ولا يُستدبدل إلا بما هو كذب أي أنَّ كلَّ ما هو خلاف الصدق فهو منافٍ للواقع.



والذي يُؤيِّد -مضافاً إلى مابيَّناه- أنَّ المراد من الكلمات المنفي عنها التبديل في الآية المباركة هو إخباراته، الذي يُؤيِّد ذلك أنَّ نفي التبديل سِيق مساق الإطراء والثناء، والمناسب لذلك هو ما يكون فيه عدم التبديل ممدوحاً بنظر العقلاء، وليس هو إلا مثل الإخبار والوعد، وأما الأحكام الشرعية فعدم تبديلها مطلقاً ليس ممدوحاً ولا محموداً حتى يكون مورداً للإطراء والثناء، لأنَّ الأحكام الشرعية تابعةٌ للمصالح والمفاسد الواقعيَّة فهي تدور مدارها وجوداً وعدماً، فمتى ما كانت المصلحة مقتضية مثلاً لوجوب الفعل كان الوجوب ثابتاً له، وإذا زالت عنه المصلحة او صار الفعل واجداً للمفسدة فإنَّ الحكم الأول يُستبدل بحكمٍ آخر يتناسب مع الملاك الواقعي الذي استجدَّ للفعل، وأما الحكم ببقاء الوجوب لهذا الفعل رغم صيرورته ذا مفسدة أو فاقداً لكلِّ مصلحة يُعدُّ من السَفَه بل هو قبيح، فلا يصدر من عاقلٍ المدح للبقاء والإستمرار على حكمٍ رغم زوال ملاك وضعه وجعله، وهذه قرينة بيِّنة على أنَّ المراد من نفي التبديل لكلمات الله لا يشمل مثل الأحكام الشرعية لأنَّ عدم تبديلها ليس محموداً على كلِّ تقدير بنظر العقلاء، وقد وقع ذلك في القرآن وفي السنَّة فما إستوحش من ذلك أحد لإدراكهم أنَّ الأحكام الشرعية ليست جزافيَّة بل هي تابعةٌ للمصالح والمفاسد الواقعية أي أنَّها تدور مدار ملاكاتها وجوداً وعدماً، فمتى ما تغيَّر الملاك كان ذلك مقتضياً لتغيير الحكم، فليس في تغيير الأحكام الشرعيَّة غضاضة بل إنَّ البناء على إستمرارها وعدم تبديلها مطلقاً مذموم، ولهذا فمثل الأحكام الشرعية غير مشمولٍ لقوله تعالى في الآية: ﴿لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ كما اتَّضح.



على أنَّه لوكان ثمة إحتمال عند السامع لشمول النفي لمثل الأحكام الشرعيَّة فإنَّ نفس تصدِّي مَن صدر عنه النفي -وهو منزِّل القرآن- لتبديل الأحكام يكون قرينةً بنظر العرف وأهل المحاورة على أنَّه لم يكن يقصد من نفي التبديل ما يشمل الأحكام الشرعيَّة، عيناً كما لو قال القاضي مثلاً: لم يدخل عليَّ في هذا اليوم أحد والحال أنَّه يعرف أنَّنا وجدنا كاتبه قد دخل عليه، ووجدنا حاجبه قد دخل عليه، ووجدنا خادمه قد دخل عليه، فإنَّه لو كنا نحتمل أنَّ مقصوده من قوله: لم يدخل عليَّ في هذا اليوم أحد لو كنا نحتمل أنَّ قوله هذا يشمل مثل الكاتب والخادم فإنَّ هذا الإحتمال يرتفع بما شاهدناه من دخول الكاتب والخادم ويتعيَّن أنَّ مراده من نفيه دخول أحدٍ عليه هو غير هؤلاء من الخصوم مثلاً وأصحاب المرافعات، وأمَّا احتمال كذب القاضي فهو منتفٍ قطعاً، وذلك لإفتراض علم القاضي بأنَّ المخاطَب قد وجد كاتبه وخادمه وحاجبه قد دخلوا عليه، فلا يصح أنْ نحتمل الكذب في حقِّه لأنَّ العاقل لا يفضح نفسه.



فهكذا هو الحال في المقام فإنَّه مع التسليم جدلاً بإحتمال إفادة قوله تعالى: ﴿لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ للشمول إلى الأحكام الشرعيَّة فإنَّ هذا الإحتمال ينبغي أنْ لا يستقر في الذهن بعد الوقوف على أنَّ الله تعالى بدَّل آيةً مكان آية، أي أنَّه نسخ حكم آيةٍ بحكمٍ في آيةٍ أخرى، فإنَّ الوقوف على ذلك يُوجب الإستظهار بنظر العرف بأنَّ مراده من نفي التبديل لم يكن شاملاً للأحكام الشرعيَّة خصوصاً وأنَّ التبديل كان مُصرَّحاً به في القرآن وقد تكرَّر منه التصريح بوقوعه في الأحكام الشرعية، فالمُلقي والمتلقِّي للخطاب القرآني كلاهما على درايةٍ بوقوع التبديل في الأحكام الشرعية، لذلك يصحُّ للمتكلم أن يتَّكل على هذه القرينة فلا يُنوّه حين نفي التبديل على أنَّ نفيه غير شاملٍ للأحكام الشرعية، ولو افترضنا أنَّ المتلقِّي للخطاب القرآني كان غافلاً عن هذه القرينة فإنَّه بمجرد الوقوف عليها أي على أنَّ القرآن بدَّل حكماً بحكمٍ آخر فإنَّه حينئذٍ سيُدرك أنَّ مقصود القرآن من نفي التبديل لم يكن شاملاً للأحكام الشرعية، ولن يحتمل المتلقِّي للخطاب القرآني أنَّ القرآن قد كذب في أحد كلاميه لإدراكه أنَّ مَن صدر عنه القرآن يعلم بأنَّ المتلقِّي سيقفُ حتماً ولو بعد حين على وقوع التبديل، ولذلك فإنَّه لن يتعمَّد الكذب لأنَّ العاقل لا يفضح نفسه خصوصاً وأنَّ القرآن حريصٌ على المصداقيَّة.



وأمَّا إحتمال أنَّ القرآن نفى التبديل مطلقاً ثم وقع منه التبديل نسياناً فقد أجبنا عنه مراراً وقلنا إنَّ ذلك لا يتَّفق للقرآن الذي يُتلى ليلَ نهار ثم إنَّه لو كان الأمر كذلك فلماذا تمَّ الإحتفاظ بنفي التبديل والتبديل ولم يتم التدارك ؟! فهل لم يعثروا على هذا التهافت حتى جاء صاحب الشبهة فتفطَّن إلى ما لم يتفطَّن له الرسول (ص) والمسلمون طوال عقدين من الزمن والقرآن يتلى فيهم ليل نهار في الصلوات وفي المحافل والخلوات ؟! وإذا كانوا قد تفطَّنوا له فلماذا لم يتم التدارك؟! فهل يقبل الرسول (ص) أنْ يدخل مثل هذا الوهن على القرآن ؟! إنَّ ذلك يؤكِّد أنَّ توهُّم التهافت لم يكن إلا في ذهن صاحب الشبهة وإلا فإنَّ العرف يفهم في مثل حالات الفرض الذي بيَّناه أنَّ الأحكام الشرعية لم تكن من أول الأمر مقصودة من نفي التبديل.



والمتحصَّل مما ذكرناه انَّه لا تنافي بين قوله تعالى: ﴿لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ في الآية من سورة الكهف وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ﴾(45) إذ أنَّ المراد أساساً من الآية النافية للتبديل ليس شاملاً للأحكام الشرعية لوضوح أنَّ عدم التبديل للأحكام الشرعيَّة ليس محلاً للمدح والإطراء والذي كانت الآية النافية للتبديل بصدده بل إنَّ عدم التبديل مطلقاً حتى عند تغيُّر الملاك مذموم، لذلك فالأحكام الشرعية ليست مقصودة من نفي التبديل أساساً، هذا مضافاً إلى أنَّ الآية ظاهرة في أنَّ الكلمات المنفي عنها التبديل في الآية هي الإخبارات كما اتَّضح مما تقدم، على انَّه لو أحتمل إرادته لما يشمل الأحكام فإنَّ هذا الإحتمال يزول بمجرَّد الوقوف على تصدِّي القرآن لتبديل بعض الأحكام، فإنَّ ذلك يكون قرينةً بنظر العرف على أنَّه لم يكن يقصد الأحكام من أول الأمر.



وأما الآية الرابعة: وهي قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(46) فالمراد من الكلمات المنفي عنها التبديل في الآية هي الوعود التي قطعها الله تعالى على نفسه، ولا ريب أنَّ مثل ذلك مما لا سبيل إلى تبديله، والقرينة على أنَّ ذلك هو مراد الآية المباركة من الكلمات هو قوله قبل نفي التبديل: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ إذ انَّ معنى تمَّت هو أنَّها تحقَّقت عيناً كما يُقال تمَّ البيع أي تحقَّق، وكما يُجيب مَن يُسأل عن أداء مهمةٍ كان قد كُلِّف بها: أنَّها قد تمَّت فإنَّ مفاد جوابه هو انَّها قد أُنجزت وتحقَّقت، وكما يقال: أتممنا الوعد أي أنجزناه والتزمنا بإنفاذه، وعليه فظاهرُ قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ هو أنَّ ثمة وعداً إلهيَّاً قد قطعه على نفسه سالفاً ثم أخبر عن تحقُّقه وإنجازه كما قال الله تعالى بعد أنْ انتصر لبني إسرائيل ومكَّنهم من الأرض وأغرق فرعون وجنوده: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل﴾(47) فهو كان قد وعدهم بالنصر والتمكين من الأرض بقوله: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾(48) فحين أنجز لهم ما وعدهم قال: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾(49).



والمقام من هذا القبيل فإنَّ الله تعالى قد قطع على نفسه عهداً فحين أنجزه قال: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ ثم قال: ﴿لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ فقوله تعالى: ﴿لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ سِيق مساق التعليل لقوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾.



وأمَّا ما هي هذه الكلمة التي أفاد القرآن انَّها قد تمَّت فأيَّاً كانت فإنَّها لا تُؤثِّر فيما ذكرناه من أنَّ المراد من الكلمات المنفي عنها التبديل هي الوعود التي قطعها الله تعالى على نفسه والتي لا ريب في أنَّها لا تقبل التبديل.



والمُستظهَر من سياق الآيات أنَّ المراد من الكلمة في الآية هي العهد الذي قطعه الله على نفسه أنَّه يبعث في الأمييِّن نبيَّاً ويجعل الكتاب الذي يُنزِّله عليه مهيمناً وحاكماً على كلِّ الكتب التي أنزلها على أنبيائه، فقوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا﴾ (50) له إتصال بما قبله من الآيات كما هو مقتضى فاء التفريع، وفي الآية ردٌّ على المشركين اللذين لم يكونوا يؤمنون بنبوَّة النبيِّ (ص)، فهو تعالى يُلقِّن نبيَّه (ص) الإستنكار على المشركين بأنَّه كيف تسألونه الحجَّة على صدقه ونبوَّته بعد أنْ أُنزل إليكم القرآن وهو حجَّةٌ بيِّنةٌ مفصَّلةٌ وكافية لإثبات صدقه، هل تريدون من ذلك أنْ يعتمد حَكَماً في الفصل بينه وبينكم غير الله تعالى، وكأنَّ أعينهم كانت على أهل الكتاب، لذلك خاطب اللهُ تعالى نبيَّه (ص) بأنَّ أهل الكتاب يعلمون أنَّ القرآن مُنزَّل من عند الله بالحق ولكنَّهم يجحدون وإلا لبادروا إلى الإقرار والإيمان بك، فلا يُنتَظر منهم إنصاف لو حُكِّموا في هذا الشأن، ولذلك قال الله لنبيِّه (ص): ﴿وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾(51).



أو أنَّ الله تعالى أراد من قوله ذلك تسلية نبيِّه (ص) وشرح صدره بعد أنْ كذَّبه المشركون فأخبره عن الغيب وهو الصادق المُصدَّق عند نبيِّه (ص): إنَّ أهل الكتاب وإنْ جحدوا إلا أنَّهم يعلمون أنَّ القرآن الذي عندك منزَّلٌ من عند الله بالحق ثم أخبره للمزيد من تسليته وتفريج همِّه ومؤازرته معنوياً أنَّ الأمر قد تمَّ والوعد قد أُنجز فلا تعبأ فإنَّ ما قطعناه على أنفسنا من البعث لرسولٍ وتأييده بالقرآن المُهيمن والحاكم على كلِّ الكتب قد تحقَّق، وقد تمَّت كلمة ربِّك صدقاً فهي لم تتخلَّف وعدلاً لأنَّ الله لا يعد بما فيه ظلمٌ وحيفٌ على أحد أو لأنَّ ما تحقَّق من وعد الله كان وافياً ومساوياً ومعادلاً ومطابقاً تماماً لما كان قد التزمه جلَّ وعلا على نفسه، فلم ينقص من وعده شيئاً إذ أنَّ الله تعالى لا يُخلف ولا يُنقص مِن وعده شيئاً، ولا مبدِّل ولا مغيِّر لكلماته.



وقد أشار القرآن إلى هذا الوعد الإلهي في آيات عديدة:

منها: ما ورد في سورة الصف على لسان عيسى (ع): ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ (52).



ومنها: ماورد في سورة البقرة من الدعوة المجابة لإبراهيم (ع): ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(53).



ومنها: ما ورد في سورة الأعراف: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(54).



ومنها: ما ورد في سورة البقرة: ﴿الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾(55).



ومنها: ماورد في سورة المائدة: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾(56).



ويمكن أنْ يكون مفاد قوله الله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ أنَّ الله جلَّ وعلا في مقام تسلية النبيِّ (ص) وتفريج همِّه قال لنبيِّه (ص) إنَّ الوعد الذي قطعتُه على نفسي قد صدر وإذا كان قد صدر فقد تمَّ وتحقَّق فإنَّ الله تعالى لا مبدِّل لكلماته، فيكون المراد من الوعد بناءً على ذلك هو ماوعد به من النصر وظهور دينه على الدين كلِّه كما في قوله تعالى في سورة الصف: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾(57) وقوله تعالى في سورة الفتح: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾(58).



وثمة مَن ذهب أو إحتمل أنَّ المراد من "كلمة ربك" في قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾(59) هو حجَّة ربِّك، وثمة مَن ذهب أو احتمل أنَّها دينه، وكلا الإحتمالين خلاف الظاهر ولكنَّ الأول لو كان هو المراد فإنَّ معنى لا مبدِّل لكلماته هو أنَّه لا ناقض لحججه، وليس في وسع أحدٍ تفنيدها، ولو كان المراد هو الإحتمال الثاني فإنَّ معنى لا مبدِّل لكلماته هو أنَّه لا مبدِّل لدينه الذي ارتضاه لعباده، وليس في وسع أحدٍ تبديله بما هو خيرٌ منه للعباد.



وأمَّا القول بأنَّ المراد من كلمة ربِّك في الآية هو القرآن فهو وإنْ كان أيضاً خلاف الظاهر كما اتضح ممَّا تقدَّم إلا أنَّه لو سلَّمنا جدلاً بأنَّ ذلك هو المراد فإنَّ الأحكام التي يجوز عليها النسخ ليست مشمولة لنفي التبديل، وذلك لما بيَّناه عند الحديث حول الآية الثالثة وهي قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾(60) فلاحظ.



الخلاصة

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ الآيات الأربع التي نفت التبديل عن كلمات الله لم يكن شيءٌ منها ظاهراً في أنَّ الله تعالى لا ينسخ بعض أحكامه التي شرَّعها ويستبدلها بأحكامٍ أخرى، فلا تكون هذه الآيات الأربع مناقضة كما زعم صاحب الشبهة لقوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾(61) وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(62).



تنويه:

على أنَّه ينبغي التبُّه إلى أمرٍ كنَّا قد نبَّهنا عليه في أكثر من موردٍ من هذا الكتاب، وهو أنَّ الحكم على كلامين بالتناقض إنَّما يكون فرع الإحراز لما هو مراد المتكلم من كلا الكلامين، فلا يصحُّ البناء على تناقض المتكلم في كلاميه مع افتراض أنْ يكون أحد كلاميه محتمِلاً لأكثر من معنى ويكون أحد هذه الإحتمالات غير مقتضٍ للتناقض لو كان هو مراد المتكلم واقعاً.



والمقام من هذا القبيل فإنَّ المعنى المراد من كلمات الله المنفي عنها التبديل لو تنزَّلنا جدلاً وقلنا إنَّه لم يكن ظاهراً فيما ذكرناه في كلِّ آية فهو يحتمل على أقل تقدير المعنى الذي ذكرناه ويحتمل المعنى الذي ذكره صاحب الشبهة، وحينئذٍ كيف يصحُّ التمسُّك بأحد الإحتمالين لإثبات التناقض والحال أنَّ من المحتمل المعتدِّ به أنَّ المتكلم لم يكن مريداً للمعنى المستلزم للتناقض.



فالبناء على التناقض في مثل هذا الفرض سلوكٌ لغير طريق العقلاء وأهل المحاورة من ذوي الإنصاف والموضوعيَّة، فإنَّ أحداً من العقلاء لا يتَّهم المشرِّعين لقانونٍ بالتناقض لو وجد أنَّ إحدى مواد القانون محتمِلة لأكثر من معنى، وكان أحد هذه الإحتمالات مستلزماً للتناقض مع مادةٍ أخرى لو كان هذا الإحتمال هو المراد واقعاً، فإنَّ إتَّهام المشرِّعين للقانون بالتناقض لا يكون مقبولاً لدى العقلاء بعد أنْ كانت تلك المادة محتمِلة لمعنىً آخر غير مستلزمٍ للتناقض بل إنَّ العقلاء في مثل هذا الفرض يستظهرون إرادة المشرِّع للمعنى غير المستلزم للتناقض.



والحمد لله رب العالمين



الشيخ محمد صنقور

من كتاب شبهات مسيحيَّة

1- سورة الأنعام / 34.

2- سورة الأنعام / 115.

3- سورة يونس / 64.

4- سورة النحل / 101.

5- سورة البقرة / 106.

6- سورة الأنعام / 34.

7- سورة يونس / 63-64.

8- سورة الكهف / 26-27.

9- سورة الأنعام / 114-115.

10- سورة النحل / 101.

11- سورة البقرة / 106.

12- سورة إبراهيم / 24.

13- سورة إبراهيم / 26.

14- سورة التوبة / 74.

15- سورة الفتح / 26.

16- سورة المزمل / 19.

17- سورة غافر / 6.

18- سورة يونس / 33.

19- سورة المزمل / 71.

20- سورة المزمل / 71.

21- سورة هود / 119.

22- سورة الأعراف / 137.

23- سورة القصص / 5.

24- سورة آل عمران / 45.

25- سورة النساء / 171.

26- سورة آل عمران / 59.

27- سورة يونس / 82.

28- سورة يونس / 80-82.

29- سورة الأنفال / 7.

30- سورة الأنفال / 5-7.

31- سورة الصافات / 171-173.

32- سورة الشورى / 24.

33- سورة النجم / 3-5.

34- سورة التحريم / 12.

35- سورة التوبة / 40.

36- سورة الأنفال / 30.

37- سورة لقمان / 27.

38- سورة البقرة / 124.

39- سورة الأنعام / 34.

40- سورة آل عمران / 9.

41- سورة آل عمران / 194.

42- سورة يونس / 63-64

43- سورة الكهف / 26-27.

44- سورة الكهف / 25.

45- سورة النحل / 101.

46- سورة الأنعام / 114-115.

47- سورة الأعراف / 137.

48- سورة القصص / 5-6.

49- سورة الأعراف / 137.

50- سورة الأعراف / 114.

51- سورة الأعراف / 114.

52- سورة الصف / 6.

53- سورة البقرة ا/ 129.

54- سورة الأعراف / 157.

55- سورة البقرة / 146-147.

56- سورة المائدة / 48.

57- سورة الصف / 8-9.

58- سورة التوبة / 33.

59- سورة الأنعام / 115.

60- سورة الكهف / 27.

61- سورة البقرة / 106

62- سورة النحل / 101.


التوقيع :
من مواضيع سيد فاضل » ان الميت ليفرح
» المرتد سلمان رشدي يتعرض للطعن في نيويورك
» عزاء ركضة طويريج.. كيف نشأ ولماذا منع؟!
» مسجد الحنانة.. موضع رأس الإمام الحسين عليه السلام
» مختارات من رثاء لقتيل كربلاء الامام الحسين (عليه السلام) 2
رد مع اقتباس
قديم 01-10-2019, 01:06 PM   رقم المشاركة : 4
الكاتب

عاشقة ام الحسنين

مراقـــبة عـــــامة

الصورة الرمزية عاشقة ام الحسنين


الملف الشخصي









عاشقة ام الحسنين غير متواجد حالياً


افتراضي

اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم ياكريم

سلمتَ انـآملككَ عَ الأنتقْـآء
يعطيك العَعع‘ـآإفيـة
. ..


من مواضيع عاشقة ام الحسنين » أم البنين نجمة في سماء التضحية ‎‎
» الراهبة الحسينية.. أم البنين (ع)
» روحانيات
» اعراض المس في اليقظة و المنام
» الاعراض التي تصيب المسحور في اليقظة و المنام
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
لِكَلِمَاتِ, ونفي, اللَّهِ, النسخ, التبديل



تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

Loading...

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات احباب الحسين