وأمرت حكومة دمشق الدوائر الرسمية وشبه الرسمية بإظهار الزينة والفرح للنصر الذي أحرزته بقتل أبناء النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ووصف بعض المؤرخين تلك الزينة بقوله
ولمّا بلغوا - أي أسارى أهل البيت - ما دون دمشق بأربعة فراسخ استقبلهم أهل الشام وهم ينثرون النثار فرحاً وسروراً حتى بلغوا بهم قريب البلد، فوقفوهم عن الدخول ثلاثة أيام وحبسوهم هناك، حتى تتوفّر زينة الشام وتزويقها بالحليّ والحلل والحرير والديباج والفضة والذهب وأنواع الجواهر، على صفة لم ير الراؤون مثلها لا قبل ذلك اليوم ولا بعده، ثمّ خرج الرجال والنساء، والأصاغر والأكابر، والوزراء والأمراء، واليهود والمجوس والنصارى وسائر الملل، إلى التفرّج ومعهم الطبول والدفوف والبوقات والمزامير، وسائر آلات اللهو والطرب، وقد كحّلوا العيون، وخضبوا الأيدي، ولبسوا أفخر الملابس، وتزيّنوا أحسن الزينة، ولم ير الراؤون أشدّ احتفالاً ولا أكثر اجتماعاً منه، حتى كأن الناس كلّهم حشروا جميعاً في صعيد دمشق
وروى سهل بن سعد الساعدي ما رآه من استبشار الناس بقتل الحسين، يقول: خرجت إلى بيت المقدس حتى توسّطت الشام، فإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار، قد علّقت عليها الحجب والديباج، والناس فرحون مستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: إنّ لأهل الشام عيداً لا نعرفه، فرأيت قوماً يتحدّثون فقلت لهم
ألكم بالشام عيد لا نعرفه؟
نراك يا شيخ غريباً؟
أنا سهل بن سعد قد رأيت رسول الله
يا سهل، ما أعجبك أن السماء لا تمطر دماً، والأرض لا تنخسف بأهلها
وما ذاك؟
هذا رأس الحسين يُهدي من أرض العراق
واعجباً، يهدى رأس الحسين والناس يفرحون! من أيّ باب يدخل؟
وأشاروا إلى باب الساعات، فأسرع سهل إليها، وبينما هو واقف وإذا بالرايات يتبع بعضها بعضاً، وإذا بفارس بيده لواء منزوع السنان، وعليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو رأس أبي الأحرار، وخلفه السبايا محمولة على جمال بغير وطاء، وبادر سهل إلى إحدى السيّدات فسألها: من أنت؟
(أنا سكينة بنت الحسين)
ألك حاجة؟ فأنا سهل صاحب جدّك رسول الله
(قل لصاحب هذا الرأس أن يقدّمه أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه، ولا ينظرون إلى حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله))
وأسرع سهل إلى حامل الرأس فأعطاه أربعمائة درهم فباعد الرأس عن النساء
الشامي مع زين العابدين
وانبرى شيخ هرم يتوكّأ على عصاه ليمتّع نظره بالسبايا، فدنا من الإمام زين العابدين فرفع عقيرته قائلاً
الحمد لله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم
وبصر به الإمام فرآه مخدوعاً قد ضلّلته الدعاية الاُموية فقال له
فقال له الإمام: (نحن والله القربى في هذه الآيات.. يا شيخ، أقرأت قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهْلَ الْبَيتِ وَيُطَهَّرَكُم تطْهِيراً)؟
قال: بلى
(نحن أهل البيت الذين خصّهم الله بالتطهير)
ولمّا سمع الشيخ ذلك من الإمام ذهبت نفسه حسرات على ما فرّط في أمر نفسه، وتلجلج وقال للإمام بنبرات مرتعشة
بالله عليكم أنتم هم؟
(وحق جدّنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إنّا لنحن هم من غير شكّ..)
وودّ الشيخ أنّ الأرض قد وارته ولم يجابه الإمام بتلك الكلمات القاسية، وألقى بنفسه على الإمام وهو يوسع يديه تقبيلاً، ودموعه تجري على سحنات وجهه قائلاً
أبرأ إلى الله ممّن قتلكم
وطلب من الإمام أن يمنحه العفو والرضا فعفا الإمام عنه