استعراض موجَز لحياة السيّدة زينب الكبرى (ع)
بمقدار ما كانت حياة السيّدة زينب الكبرى (عليها السّلام) مشفوعة بالقداسة والنزاهة ، والعفاف والتقوى ، والشرف والمجد ، كانت مليئة بالحوادث والمآسي والرزايا ، منذ نعومة أظفارها وصِغر سنّها إلى أواخر حياتها .
فلقد فُجعت بجدّها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ، وكان لها من العمر يومذاك حوالي خمس سنوات ، ولكنّها كانت تُدرك هول الفاجعة ومُضاعفاتها .
ومن ذلك اليوم تغيّرت معالم الحياة في بيتها ، وخيّمت الهموم والغموم على أسرتها ، فقد هجم رجال السقيفة على دارها ؛ لإخراج أبيها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) من البيت لأخذ البيعة منه ، بعد أن أحرقوا باب الدار وكادوا أن يُحرقوا الدار بمَنْ فيها .
وقد ذكرنا في كتاب ( فاطمة الزهراء من المهد الى اللّحد ) شيئاً من تلك المصائب التي انصبّت على السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) من الضرب المبرّح ، وإسقاط الجنين ، وغير ذلك ممّا
يطول الكلام بذكره .
وكانت جميع تلك الحوادث بمرأى من السيّدة زينب ومَسمَع ، فلقد سمعت صراخ اُمّها من بين الحائط والباب ، وشاهدت الأعداء الذين أحاطوا بها يضربونها بالسوط والسيف المغمَد ، وغير ذلك ممّا أدّى إلى إسقاط ابنها المحسن ، وكسر الضلع ، وتورّم العضُد الذي بقي أثره إلى آخر حياتها .
وبعد شهور فُجعت السيّدة زينب بوفاة اُمّها (سلام الله عليها) وهي في رَيَعان شبابها ؛ لأنّها لم تبلغ العشرين من العمر ، ودُفنت ليلاً وسرّاً ، في جوّ من الكتمان ، وعُفّي موضع قبرها إلى هذا اليوم .
ومنذ ذلك الوقت كانت السيّدة زينب ترى أباها أمير المؤمنين (عليه السّلام) جليس الدار ، مسلوب الإمكانيّات ، مدفوعاً عن حقّه ، صابراً على طول المدّة وشدّة المحنة .
وبعد خمس وعشرين سنة ـ وبعد مقتل عثمان ـ أكرهوه أن يوافق على بيعة الناس له ، فبايعوه بالطوع والرغبة ، وبلا إجبار أو إكراه من أحد . وكان أوّل مَنْ بايعه طلحة والزبير ، وكانا أوّل مَنْ نكث البيعة ونقض العهد ، والتحقا في مكّة بعائشة ، وخرجوا طالبين بدم عثمان ، وقادا الناكثين ( للبيعة ) من المناوئين للإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وقصدا البصرة وأقاما مجزرة رهيبة في واقعة الجمل المعروفة ، وكانت حصيلتها خمسة وعشرين ألف قتيل .
وبعد فترة قصيرة أقام معاوية واقعة صفّين ، وقاد القاسطين ، واشتدّ القتال ، وكاد نسل العرب أن ينقطع من كثرة القتلى ، وتوقّف القتال لأسباب معروفة مفصّلة .
ثمّ أعقبتها واقعة النهروان التي قُتل فيها أربعة آلاف .
وتُعتبر هذه الحروب من أهمّ الاضطرابات الداخليّة في أيّام خلافة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) . وانتهت تلك الأيّام المؤلمة بشهادة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ومَقتله على يد عبد الرحمن بن ملجم .
ولمّا قام أخوها الإمام الحسن المجتبى (عليه السّلام) بأعباء الإمامة تخاذل بعض أصحابه في حربه مع معاوية ، وصدرت منهم الخيانة العظمى التي بقيت وصمة عارها إلى هذا اليوم ، فاضطرّ الإمام الحسن (عليه السّلام) إلى إيقاف القتال حقناً لدماء مَنْ بقي من أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
وخلا الجوّ لمعاوية بن أبي سفيان وعُملائه ، وظهر منهم أشدّ أنواع العداء المكشوف للإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وسنّ معاوية لعن الإمام على المنابر في البلاد الإسلاميّة ، وأمر باختلاق الأحاديث في ذمّ الإمام والمسّ بكرامته .
كلّ ذلك بمرأى من السيّدة زينب ومسمع .
وطالت مدّة الاضطهاد عشر سنين ، وانتهت إلى دسّ السمّ إلى
الإمام الحسن (عليه السّلام) بمكيدة من معاوية ، وقضى الإمام نحبه مسموماً ، ورشقوا جنازته بالسهام حتّى لا يُدفن عند قبر جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(1) .
وهكذا امتدّت سنوات الكبت والضغط ، وبلغ الظلم الاُموي القمّة ، وتجاوز حدود القساوة ، وانصبّت المصائب على الشيعة في كلّ مكان ، بكيفيّة لا مثيل لها في التاريخ الإسلامي يومذاك ؛ مِن قطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلب الأجساد ، وأمثال ذلك من الأعمال الوحشيّة البربريّة(2) !
وعاصر الإمام الحسين (عليه السّلام) تلك السنوات السود التي انتهت بموت معاوية ، واستيلاء ابنه يزيد على منصّة الحكم .
هذه عُصارة الخلاصة للجانب المأساوي في حياة السيّدة زينب الكبرى (عليها السّلام) , المليء بالكوارث والحوادث طيلة نيّف وأربعين سنة من عمرها .
وأعظم حادثة وأهمّ فاجعة حدثت في حياة السيّدة زينب هي فاجعة كربلاء التي أنست ما قبلها من الرزايا ، وهوّنت ما بعدها من الحوادث والفجائع .
ــــــــــــــــــــ
(1) كتاب المناقب ـ لابن شهر آشوب 4 / 42 و44 .
(2) كتاب سُليم بن قيس الهلالي ، ط بيروت ، مؤسسة البعثة / 165 ـ 166 .
من كتاب زينب الكبرى (عليها السّلام) من المهد إلى اللحد
بقلم المرحوم السيد محمّد كاظم القزويني