إذا كان فصل الربيع في كل عام هو فصل الزراعة ، وهبوب نسائم الرحمة ، وهطول غيث البركة ، فإن شهر رجب و شعبان وشهر رمضان المبارك هي شهور ربيع الأرواح . حديثنا هو قوس الصعود والنزول لهذه الأرواح ، التقلب ... وكيف أن القلب يسمو ويهبط ؟ وما هي عوامل السمو ؟ وما هي عوامل الهبوط ؟ وذلك لنتفادى موجبات الهبوط .
أنواع التقلب
القلب سمي قلبا لأنه كثير التقلب ، والقرآن الكريم يذكر التقلب في ثلاث حقول :
أولاً : التقلب في عالم الطبيعة مثل تقلب الليل والنهار ، والفصول الأربعة ﴿ يُقَلِّبُ ٱللَّهُ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ- النور 44﴾ ، مثال آخر : التقلب في عالم الأرحام ﴿ ُثمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ – المؤمنون 14 ﴾
ثانياً : التقلب في عالم الأرواح ، أي التقلب لله في قلوب الخلق ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ - الأنعام 110 ﴾ الله فتح للبشر أبواب الهدى ، أنزل الكتب ، بعث الرسل ، وبعد أن تمت الحجة عليهم - تصل القضية في بعض الحالات - إلى أن يختم الله على قلوب البعض .
ثالثاً : أن الله جعل تقلب القلوب مستندا إلى العبد نفسه ﴿ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ - الحج 11 ﴾ وليس المقصود بالوجه الوجه الظاهري ، وإنما الباطني.
مشكلة التقلب المتمثلة في حالة الصعود والهبوط مشكلة قديمة ، و من أدل الروايات على عمق المشكلة في حياة المسلمين هذه الرواية ، يقول حمران دخلت على الباقر (ع) : ( أطال الله بقاءك ، وامتعنا بك ، إنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى يرق قلوبنا ، وتعلو أنفسنا عن الدنيا ، ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال ، ثم نخرج من عندك ، فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا ، فقال (ع) : إنما هي القلوب ، مرة يصعب عليها الأمر ، ومرة يسهل ). أما إن أصحاب رسول الله ( ص) قالوا : يارسول الله نخاف علينا النفاق ، إنا إذا كنا عندك فذكرتنا رُوِّعنا ووجِلنا ونسينا الدنيا وزهدنا فيها ، حتى كأنا نعاين الآخرة والجنة والنار ، وإذا دخلنا هذه البيوت ، وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل والمال ، نكاد نحول عن الحال التي كنا عليها عندك ، وحتى وكأنا لم نكن على شيء ، أفتخاف علينا أن يكون هذا النفاق يا رسول الله (ص)؟ فقال لهم النبي (ص ) : كلا ، هذا من خطوات الشيطان ، ليرغبكم في الدنيا ، والله لو أنكم تدومون على الحال التي تكونون عليها ، وأنتم عندي لصافحتكم الملائكة ، ومشيتم على الماء ، ولولا أنكم تذنبون فتستغفرون ، لخلق الله خلقا لكي يذنبوا ثم يستغفروا فيغفر لهم إن المؤمن مُفَتَنٌ تَوَّاب ) وهنا ثلاث لفتات :
1- الحديث كاشف عن اهتمام صحابة الرسول(ص) الصالحين لحالاتهم الباطنية .
2- إن الله عزوجل يُحب أن يغفرَ، ولكن لا يحب أن يُعْصَى ، ولو حصل أن عُصي جهلا ، فالله عزوجل يُحِبُ أن يغفرَ ، ولا ملازمة بينهما .
3- إن حديث الرسول (ص) باعث على الأمل في النفوس .
عوامل وأسباب التقلب :
تمهيد : لو أجرينا مقارنة سريعة بين التقلب في عالم الطبيعة والتقلب في عالم الأنفس والأرواح ، لرأينا أن التقلب في عالم الطبيعة تقلب مستند إلى الله عزوجل ، وهو تقلب مدروس وحكيم ، لهدفٍ ما ، فلو كان هناك فصل واحد فقط طوال السنة – مثلا - لما تيسرت أمور الزراعة في عالم الأرض . أما تقلب الإنسان فهو مستندٌ إلى الإنسان نفسه ... إلى الأهواء والشياطين ... إلى حالة الكسل والفشل ... إلى حب الركون إلى الدنيا والدعة ﴿ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ - التوبة 38﴾ . إذن التقلب في الطبيعة نحو هدف محدد لصالح العباد والبلاد ، ولكن التقلب في عالم الأنفس قضية بيدي وبيدك ، وعلينا أن نتحكم في هذه العوامل .
العامل الأول : الاستراتيجية العقائدية الفكرية
عندما لايمتلك الإنسان استراتيجية واضحة في الوجود ، و ليس عنده معرفة بخالق هذا الوجود ، ولا يعلم موقعه في الطبيعة ، وفي العالم . فهذا الإنسان قد يتأثر إذا ما ذهب إلى العمرة ... إذا مااستمع لخطيب مؤثر ... ولكن التأثر هنا مرحلي ؛ لعدم وجود استراتيجية باطنية في الداخل . يقول عزوجل : ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ - البقرة 186 ﴾ في الآيات سبعة ضمائر تعود إلى الله عزوجل ، أنت إذا أردت أن يستجاب لك التفت وتوجه إلى المخاطب ، إلى الله عزوجل ، ولهذا الإنسان يُستجاب له في الشدائد ، لأنه في الشدائد يتوجه لله سبحانه وتعالى .
بعض فلاسفة المسلمين يؤكدون أن الذي يخوض في الفلسفة الإسلامية الصحيحة – إلى حد ما - يتبين له موقعه من هذا الوجود ، صيرورة العالم السفلي مضاهيا للعالم العلوي ، فلابد أن يعلم الإنسان مكانه ومساره من هذا الوجود ، يقول عزوجل :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ - فاطر 28 ﴾ المراد بالعلماء هنا هم العلماء بالله عزوجل ، وذلك لمناسبة الحكم والموضوع ، وإلا فإن علماء الذرة والفلك هم من أبعد الناس عن الله ... أحدهم صعد بمركبته الفضائية إلى قشرة جوية قريبة من الأرض جدا وإذا به يقول : صعدت إلى السماوات فما وجدت الله عزوجل ، ثم احترق بعد ذلك ، نعم العالم الذي يعرف الله سبحانه وتعالى ... نجد أن توغله في عالم الطبيعة والتخصصات العلمية يزيده إيمانا على إيمانه ، لهذا يقول القرآن الكريم ﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ – الروم 42 ﴾ ﴿فَٱنظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ ٱللَّهِ - الروم 50 ﴾ إن السيرٌ السياحي ... التسريحي قد لا يثمر هذه الثمرة ، فلابد أن تكون عند الإنسان معرفة واضحة بخالق الوجود ، إذا عاش الإنسان هذه المعرفة الطبيعية فهذا الإنسان سوف لن يتراجع عن إيمانه الثابت الدائم ، الارتباط الطبيعي بالله عزوجل مقدمة للإجابة وتقلب القلب .