منتدى الامام الحجه (عجّل الله فرجه الشريف)اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً
يتساءل الكثير عن إمكانية رؤية الإمام المهدي عليه السلام في الغيبة الكبرى واللقاء به والتحدّث معه مباشرةً، مع تعيين شخصه الكريم وتحديد هُويَّته، وهل ما يشاع ويُنقَل عن رؤيته في الغيبة الكبرى، له واقع وحقيقة ثابتة، أم أنَّه اشتباه ووهم، وخيال أو حلم؟
وما هو رأي الشارع المقدَّس في دعوى رؤيته في الغيبة الكبرى؟ وهل يمكن رؤيته عليه السلام والتشرّف بلقائه؟
إنَّ هذه التساؤلات وغيرها تدور في أذهان الكثير من المؤمنين، وإن اختلفوا في النتيجة، بين من أقرَّ بذلك، وبين من نفاها، وآخرون فصَّلوا بين إمكانها على أن لا يلازمها أيّ دعوى دينية أو دنيوية، أو نقل لأمر ما عنه عليه السلام، وبعضهم قالوا: إنَّ الصادق لا يدَّعي الرؤية - على فرض ذلك - وغيرها. ولكن الكلام في هذه المسألة فيه شيء من البسط والعرض، والنظر من خلال الأدلَّة الشرعية والنصوص الدينية، وما يحيط ذلك من القرائن والمؤشّرات حتَّى نقف على أصل هذه الدعوى، ومن ثَمَّ الحكم بإمكان القول في ثبوتها أو نفيها في الواقع.
فأقول: إنَّ غياب الإمام المهدي عليه السلام إنَّما هو غياب للهُويَّة الشخصية لا أنَّ غيابه غياب شخصي جسماني.
بمعنى: أنَّ أيَّ شخص يمكن أن يراه ويخالطه، ولكنَّه يكون غافلاً بالمرَّة عن كونه هو الإمام المهدي عليه السلام، وإنَّما يرى فيه شخصاً عادياً كسائر الناس لا يُلفِت النظر على الإطلاق..، وتكون حياته كحياة أيِّ شخص آخر، يكتسب عيشه من بعض الأعمال الحرَّة كالتجارة أو الزراعة أو غيرها، ويبقى على حاله هذه في مدينة واحدة أو عدَّة مُدُن، حتَّى يأذن الله تعالى له بالفرج..، مع القطع بجهل الأجيال بالكلّية - من الغيبة الصغرى إلى الغيبة الكبرى سوى بعض الخواصّ والسفراء - بسحنة الإمام المهدي عليه السلام وشكله، بحيث لو واجهوه لما عرفوه البتَّه(١).
فإنَّ الإمام عليه السلام ربَّما يعيش بيننا وفي عالمنا، يخالطنا ويتعامل معنا، ويرانا ويعرفنا، ونحن نراه ونُكلِّمه ونتعامل معه، ولكنَّنا لا نعرفه على حقيقته، ولا نُشخِّص هُويَّته. فإنَّه ليس محجوباً عن الأنظار كالجنِّ والملائكة، فلا يمكن رؤيته بتاتاً، إلَّا بسبيل ما، حتَّى قيل: إنَّ الإمام المهدي عليه السلام إذا ظهر للناس بعد الأمر الإلهي - الصيحة وخروج السفياني - ويشاهده الناس عياناً على هُويَّته الواقعية وشخصيته الحقيقية، فإنَّ جملة منهم يقول: إنّي قد التقيت به، وإنّي رأيته، وإنّي صاحبته وسافرت معه، وإنّي جالسته وتحدَّثت إليه، ونحو ذلك، فإنَّ الرؤية بهذا المنظار جارية وحاصلة.
وهذا الرأي لا دليل على نفيه، بل تدعمه جملة من الروايات، منها: ما رواه الكليني في (الكافي) عن الحسين بن محمّد، عن جعفر بن محمّد، عن القاسم بن إسماعيل الأنباري، عن يحيى بن المثنّى، عن عبد الله بن بكير، عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: «للقائم غيبتان، يشهد في إحداهما المواسم، يرى الناس ولا يرونه»(٢)، بمعنى يعرف الناس ولا يعرفونه.
وما روي عن محمّد بن عثمان العمري، أنَّ صاحب هذا الأمر ليَحضُر الموسم كلّ سنة، يرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه(٣)، وغير ذلك.
أمَّا رؤيته واللقاء به مع تحديد هُويَّته وتشخيصها، فهذا ممَّا لا يستطيع أن يدَّعيه أحد على نحو الجزم واليقين، ويقطع أنَّه قد التقى بشخص الإمام عليه السلام ويُثبِت ذلك، أو أن يُقسِم عليه، على الرغم من كثرة هذه الدعاوى! التي تشير إلى رؤيته واللقاء به، المبنيَّة على الاحتمال، أو الترديد بالقول - ربَّما هو - أو الاستنتاج، بأنَّ الذي رآه هو الإمام المهدي عليه السلام.
فإنَّ كلَّ دعوى لا بدَّ أن تستكمل شروطها وأدلَّتها حتَّى تدخل في خانة العلم والتصديق، وإلَّا فمجرَّد الاحتمال والشكّ والاستنتاج يجعلها في خانة الإمكان.
والحال كذلك في دعاوى رؤية الإمام المهدي عليه السلام في الغيبة الكبرى، فإنكار دعاوى رؤيته في الغيبة الكبرى وإبطالها وردّها، هو لعموم التوقيع الشريف المروي عن الإمام المهدي عليه السلام، الذي خرج على يد آخر السفراء الأربعة الشيخ علي بن محمّد السمري رضي الله عنه في الغيبة الصغرى.
وقد رواه الشيخ الصدوق قدس سره في كتابه (كمال الدين وتمام النعمة)، وغيره(٤)، قال: حدَّثنا أبو محمّد الحسن بن أحمد المكتِّب، قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفّي فيها الشيخ علي بن محمّد السمري قدس سره فحضرته قبل وفاته بأيّام، فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم
يا علي بن محمّد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنَّك ميِّت ما بينك وبين ستَّة أيّام، فاجمع أمرك، ولا توصِ إلى أحد، يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية، فلا ظهور إلَّا بعد إذن الله (عزَّ وجلَّ)، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألَا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم.
قال: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلمَّا كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيّك من بعدك؟ فقال: لله أمر هو بالغه. ومضى رضي الله عنه، فهذا آخر كلام سُمع منه(٥).
ومن نافلة القول، الكلام في سند هذا الحديث الشريف، أو الطعن فيه بالإرسال، فإنَّه وبالرغم من شهرته بين الأصحاب، فإنَّ الطائفة مجمعة على العمل بمضمونه، وهذا يُغنينا عن النظر في سنده، مع اعتباره وصحَّته.
قال السيِّد محمّد تقي الأصفهاني قدس سره: اعلم أنَّ هذا حديث صحيح عال اصطلاحاً؛ لأنَّه مروي عن مولانا صاحب الزمان عليه السلام بتوسّط ثلاثة أشخاص:
الأوَّل: الشيخ الأجلّ أبو الحسن علي بن محمّد السمري - السفير الأخير للإمام المهدي -، وهو لجلالته واشتهاره غنيٌّ عن البيان.
والثاني: الشيخ الصدوق، محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي، وهو أيضاً لاشتهاره واشتهار كتابه وجلالة قدره لا يحتاج إلى التوضيح.
والثالث: أبو محمّد الحسن بن أحمد المكتِّب، وهو كما ذكره الفاضل الألمعي المولى عناية الله في (مجمع الرجال): أبو محمّد الحسن بن الحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المكتِّب، ويروي عنه الصدوق مكرَّراً مترضّياً مترحّماً، وهذا من أمارات الصحَّة والوثاقة، كما نبَّه على ذلك المولى المزبور في (مجمعه)، وذكر له شواهد عديدة، ليس هنا موضع ذكرها، والمكتِّب بكسر التاء المشدَّدة مَنْ يُعلِّم الكتابة.
ثمّ نبَّه على أمر، فقال: قد وقع هنا سهوان في كتابين من كتب علمائنا رحمهم الله تعالى، ينبغي التنبيه عليهما:
الأوَّل: في كتاب (الغيبة) للشيخ الأجلّ أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي رضي الله عنه ففيه - في النسخة التي عندي - هكذا: أخبرنا جماعة، عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه، قال: حدَّثني أبو محمّد أحمد بن الحسن المكتِّب، قال: كنت بمدينة السلام، وساق الحديث..، مثل ما نقلناه عن (كمال الدين) لابن بابويه رضي الله عنه.
وقد عرفت أنَّ الذي روى عنه ابن بابويه حسن بن أحمد - وليس أحمد بن الحسن كما في كتاب (الغيبة) -، والظاهر أنَّ السهو في كتاب الشيخ الطوسي وقع من النسّاخ، ويُؤيِّد وقوع السهو فيه من بعض النسّاخ؛ أنَّ الحاج ميرزا حسين النوري رضي الله عنه نقل هذا الحديث في (جنَّة المأوى) من (غيبة) الشيخ، عن الحسن بن أحمد المكتِّب - كما في كتاب الصدوق -، والله تعالى هو العالم.
والثاني: في كتاب (مستدرك الوسائل) للعالم المحدِّث المتتبِّع الحاجّ ميرزا حسين النوري رضي الله عنه، فإنَّه مع سعة باعه، وكثرة اطِّلاعه، واهتمامه في استقصاء أسماء مشايخ الصدوق، غفل عن ذكر هذا الشخص الجليل - أبي محمّد الحسن بن أحمد المكتِّب - الذي روى عنه الصدوق مكرَّراً مترضّياً مترحّماً.
وأمثال هذه الأُمور ممَّا يبعث العالم على الفحص والتتبّع، ويوجب له الظفر بما غفل عنه من قبله، فعليكم يا إخواني بالسعي، والاجتهاد، فإنَّ الله لا يخيب كلّ طالب مرتاد.
وممَّا يدلُّ أيضاً على وقوع السهو والاشتباه في كتاب الشيخ - بعكس اسم الراوي -، وعلى غفلة صاحب المستدرك عن ذكر ذلك الشيخ رضي الله عنه، أنَّ المولى عناية الله المذكور نقل الحديث المسطور عن كتاب (ربيع الشيعة) لابن طاووس، حاكياً عن الحسن بن أحمد المكتِّب.
فتبيَّن بحمد الله تعالى وعونه، أنَّ الراوي عن أبي الحسن السمري رضي الله عنه هو الحسن بن أحمد الذي روى عنه ابن بابويه رضي الله عنه.
وممَّا يدلُّ على صحَّة هذا الحديث وصدوره عن الإمام أيضاً، أنَّ الشيخ الطبرسي رضي الله عنه صاحب كتاب (الاحتجاج) ذكره مرسلاً، من دون ذكر السند، والتزم في أوَّل الكتاب وصرَّح بأنَّه لا يذكر فيه سند الأحاديث، التي لم يذكر أسانيدها، إمَّا بسبب موافقتها للإجماع، أو اشتهارها بين المخالف والمؤالف، أو موافقتها لحكم العقل.
فظهر أنَّ الحديث المذكور أيضاً كان غنيَّاً عن ذكر السند؛ إمَّا لموافقة الإجماع، أو لاشتهاره، أو لكليهما جميعاً.
وممَّا يدلُّ أيضاً على صحَّته، أنَّ علماءنا من زمن الصدوق رضي الله عنه إلى زماننا هذا استندوا إليه، واعتمدوا عليه، ولم يناقش ولم يتأمَّل أحد منهم في اعتباره، كما لا يخفى على من له أُنس وتتبّع في كلماتهم ومصنَّفاتهم.
فتبيَّن من جميع ما ذكرناه أنَّ الحديث المذكور من الروايات القطعية، التي لا ريب فيها، ولا شبهة تعتريها، وهو ممَّا قال فيه الإمام عليه السلام: «فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه»(٦).
هذا، وقد خُصِّص هذا التوقيع الشريف بما روي من رؤية الناس له عليه السلام في المواسم مع عدم معرفتهم به، ولا تشخيص هُويَّته، كما روي عن محمّد بن عثمان العمري رضي الله عنه، أنَّ صاحب هذا الأمر ليَحضُر الموسم كلّ سنة، يرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه(ظ،ظ،).
وعن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: «للقائم غيبتان، يشهد في إحداهما المواسم، يرى الناس ولا يرونه»(ظ،ظ¢)، بمعنى يعرف الناس ولا يعرفونه.
* * *
وقد ذكر آية الله السيِّد محمّد مهدي بحر العلوم قدس سره في (فوائده الرجالية) التواقيع المنسوبة إلى الإمام صاحب العصر عليه السلام، والموجَّهة إلى الشيخ المفيد قدس سره، ومنها التوقيع الوارد يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجَّة سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، وصورته: من عبد الله المرابط في سبيله، إلى ملهم الحقّ ودليله:
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليك أيّها الناصر للحقِّ، الداعي إليه بكلمة الصدق، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلَّا هو، إلهنا وإله آبائنا الأوَّلين، ونسأله الصلاة على سيِّدنا ومولانا محمّد خاتم النبيّين وعلى أهل بيته الطاهرين.
وبعد.. فقد كنّا نظرنا مناجاتك عصمك الله بالسبب الذي وهبه لك من أوليائه، وحرسك به من كيد أعدائه والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلاته على سيِّدنا البشير النذير محمّد وآله الطاهرين.
ثمّ علَّق السيِّد بحر العلوم قدس سره على هذا (التوقيع) فقال:
وقد يشكل أمر هذا التوقيع بوقوعه في الغيبة الكبرى، مع جهالة المُبلِّغ، ودعواه المشاهدة المنافية بعد الغيبة الصغرى.
ويمكن دفعه باحتمال حصول العلم بمقتضى القرائن، واشتمال التوقيع على الملاحم والإخبار عن الغيب، الذي لا يطَّلع عليه إلَّا الله وأولياؤه بإظهاره لهم، وأنَّ المشاهدة المنفيَّة أن يشاهد الإمام، ويعلم أنَّه الحجَّة عليه السلام حال مشاهدته له، ولم يعلم من المُبلِّغ ادِّعاؤه لذلك.
وقد يمنع أيضاً امتناعها (أي الرؤية) في شأن الخواصّ - وإن اقتضاه ظاهر النصوص - بشهادة الاعتبار، ودلالة بعض الآثار(ظ،ظ£).
أقول: وكما ترى فقد استشكل في نفس الأمر والواقع، ونفى المشاهدة في زمن الغيبة الكبرى، المنفيَّة تعبّداً بنصٍّ صريح، وحجَّة ثابتة، وطريق معتبر، وإن خصَّص نفي المشاهدة بأن يشاهد الإمام ويعلم أنَّه المهدي بن الحسن عليه السلام حال مشاهدته له، ولكنَّه استدرك باحتمال أنَّه الإمام عليه السلام من خلال بعض القرائن المحيطة، لا على نحو الجزم واليقين.
وكما ترى، فإنَّه قدس سره دفعها بالاحتمال لا غير، والاحتمال لا يُؤسِّس لشيء، بل هو بنفسه يحتاج إلى قوَّة تدعمه، حتَّى يمكن الاعتماد عليه ويُركَن إليه، وإلى إثبات مدلوله، ليصبح بمستوى يُؤهِّله للاستناد عليه كدليل، ويكون في مقام الاحتجاج به، إذ يمكن نفي الاحتمال ودفعه بأيسر الأُمور، والمعروف أنَّه إذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال.
وأمَّا تقييده إمكان الرؤية بمجرَّد ادِّعاء الدعوى للرؤية فقط، التي لا تُقدِّم أو تُؤخِّر شيئاً للآخرين - على فرض ثبوتها - فنحن مأمورون بتكذيبها تعبّداً، تبعاً للنصِّ الوارد.
بل إنَّه قدس سره أقرَّ بذلك، أي بالتكذيب والامتناع، وأفاد أنَّ مقتضى ظاهر النصوص الواردة امتناع الرؤية، ولكن شهادة الاعتبار، ودلالة بعض الآثار تفيد ذلك، أي إمكان الرؤية كما عبَّر. ولا يخفى أنَّ الاعتبار أمر نسبي لا يمكن البناء عليه، وأمَّا الآثار فقد قرأناها وسمعناها، وتأمَّلنا فيها، الأعمّ الأغلب أنَّها روايات وقصص مهلهلة، لا تفيد العلم ولا التصديق بالرؤية.
هذا، ولكنَّه قدس سره في (فوائد الأُصول) وفي مسألة الإجماع، قال - بعد اشتراط دخول كلّ من لا نعرفه -: وربَّما يحصل لبعض حفظة الأسرار من العلماء الأبرار العلم بقول الإمام عليه السلام بعينه، على وجه لا ينافي امتناع الرؤية في مدَّة الغيبة، فلا يسعه التصريح بنسبة القول إليه عليه السلام فيبرزه في صورة الإجماع، جمعاً بين الأمر بإظهار الحقِّ، والنهي عن إذاعة مثله بقول مطلق(ظ،ظ¤).
أقول: على فرض القول بإمكان رؤيته عليه السلام في الجملة، لكن يبقى كلامه في إمكان رؤيته عليه السلام مع تشخيصه في دائرة الاحتمال، كما يستفاد ذلك من ابتداء قوله قدس سره ب (ربَّما) التي تفيد التقليل، الذي لا وثوق بحصوله، وما قد يُفهَم أيضاً من سياق كلامه.
ويُؤيِّد هذا المعنى، ما يُروى عن السيِّد بحر العلوم قدس سره رفضه دعوى المشاهدة في الغيبة الكبرى في جوابه لمَّا سأله سائل عن إمكان رؤية الإمام المهدي عليه السلام في الغيبة الكبرى، كما روي في كتاب (جنَّة المأوى) للميرزا النوري عن المولى السلماسي رحمه الله، قال: كنت حاضراً في محفل إفادته، فسأله رجل عن إمكان رؤية الطلعة الغرّاء في الغيبة الكبرى، وكان بيده الآلة المعروفة لشرب الدخان المسمّى عند العجم بغليان، فسكت عن جوابه وطأطأ رأسه، وخاطب نفسه بكلام خفي أسمعه، فقال ما معناه - والكلام للسلماسي -: ما أقول في جوابه؟ وقد ضمَّني عليه السلام إلى صدره(ظ،ظ¥)، وورد أيضاً في الخبر تكذيب مدَّعي الرؤية، في أيّام الغيبة. فكرَّر هذا الكلام.
ثمّ قال في جواب السائل - الكلام للسيِّد بحر العلوم -: إنَّه قد ورد في أخبار أهل العصمة تكذيب من ادَّعى رؤية المهدي عليه السلام.
واقتصر - والكلام للسلماسي - في جوابه عنه من غير إشارة إلى ما أشار إليه(ظ،ظ¦).
فتأمَّل، وهذا هو المأمول في جوابه شرعاً وعقلاً، وقد عمل قدس سره بتكليفه الشرعي الظاهري؛ لتورّعه واحتياطه وتقواه، مؤيِّداً هذا بما أثبته في كتبه في نفي الرؤية المباشرة كما سبق، وغير هذا القول يُرَدُّ على ناقله وراويه كالسلماسي.
وهذا ما يستفاد من ظاهر كلام السيِّد بحر العلوم قدس سره في أنَّ النهي الوارد عن إذاعة الأحكام الشرعية والمسائل العقائدية، نهي تعبّدي بالنصِّ الصريح المعتبر، ونحن مأمورون بالتمسّك به، وإلَّا لدبَّ الهرج والمرج بين صفوف الناس، وتصدّى لهذا طلَّاب الرئاسة وأبناء الدنيا، وأصبح تشريع الأحكام من أسهل الأُمور، وفي أيسر الدعاوى، بحجَّة رؤية الإمام المهدي عليه السلام والتبليغ عنه.
ودعوى أنَّ هناك جملةً من الأخبار الدالّة على مشاهدة الإمام المهدي عليه السلام، في غيبته الكبرى، مع تمحيصها، وهي إن أمكن النقاش في كلِّ رواية بمفردها وبمعزل عن المجموع إلَّا أنَّ العلم الحاصل من المجموع غير قابل للمناقشة، فإنَّه يصل إلى حدِّ التواتر، أو تورث الاطمئنان بصحَّتها؛ لقرائن مفيدة تحيطها، وشواهد محفوفة تلازمها، فلا حاجة بعد هذا إلى النظر في سندها، والتأمّل برجالها، فينتفي احتمال الكذب والخطأ والوهم، ولو في بعضها على الأقلّ(ظ¢ظ¦). أو كما قال الميرزا النوري: (إنَّها لا تقدر أن تعارض الوجدان القطعي، الذي يحصل من مجموع هذه القصص والحكايات)(ظ¢ظ§).
مردودة باعتبار أنَّ ذلك لا ينفع؛ لأنَّ هذا القول لا ينفي أن يكون المجموع مبنيَّاً على المحتملات والاستنتاجات أو الاشتباهات، إن أحسنّا الظنَّ بِمُدَّعيها وسلامة نيَّتهم وذهنيتهم، إن لم يكن اشتباه من الرواة في نقلهم لهذه الدعاوى، التي يكون منشؤها الرؤيا والمنام، أو برزخ بين المنام واليقظة، فتُنقَل وتُروى على أنَّها قضيَّة واقعية حقيقية؛ وذلك لتعدّد وسائط النقل عن الراوي الأوَّل، وتغيّر الألفاظ والتعابير، والمعاني والأُسلوب، وصورة العرض بينهم، وهذا الأمر ليس بمستغرب.
وعليه، فإذا دخل الاحتمال والاستنتاج، والاشتباه والشكّ في ذلك، فطرحها أولى من التمسّك بها، والرجوع إلى عموم النصّ الثابت والصريح، عن الشيخ السمري قدس سره: «ألَا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم».
والتسامح في نقل تلك القصص رغم عموم المنع له نظائر، فإنَّ هناك أُموراً تعارف عليها الناس وتسامح بها المؤمنون، بمرأى ومنظر الفقهاء والعلماء، ومع ذلك لم تجعل من وجودها تواتراً أو اطمئناناً على قبولها وصحَّتها وحجّيتها، ككراهة تسنيم القبور مثلاً، فإنَّ هذا التسامح لا يُغيِّر من الواقع شيئاً، والحكم باقٍ ٍعلى الكراهة، والحال كما هو في دعاوى الرؤية للإمام المهدي عليه السلام وإن نُقِلَت من هنا وهناك، إلَّا أنَّه لا يُغيِّر من واقعها الشرعي والعلمي والعملي بالرفض وعدم القبول، وشتّان ما بين الأمرين.
* * *
وفي توجيههم إلى هذا القول، ودعوى الرؤية المباشرة، المنهي الاعتماد عليها في المذهب الإمامي، فقهاً وعقيدةً، نصَّاً وإجماعاً، محلّ إشكال وريبة، وإن كنّا لا نمنع من رؤية الإمام عليه السلام في الجملة، مع عدم تحديد هُويَّته مطلقاً.
ولا أرى في عقيدتي وجهاً مبرِّراً لذلك، إلَّا شدَّة التمسّك بحسن الظنِّ في علمائنا الأبرار، وهم إن كانوا أهلاً لذلك (رضي الله عنهم)، إلَّا أنَّه ليس كلّ ما يقال عنهم وفيهم يجب التصديق به، وأخذه على نحو المسلَّمات، وإنّي لا أرى أنَّهم - أي علماءنا الأبرار - يوافقون على دعوى الرؤية في حقِّهم، أو توجيه دعواهم للإجماع - المدَّعى عنهم - إلى مقام التشرّف بلقاء الإمام عليه السلام كدعوى الإجماع التشرّفي، وينسبون ذلك لأنفسهم على نحو القطع والجزم.
ومن المعلوم لمن استعرض أخبار المشاهدة والرؤية أنَّ أكثرها يتضمَّن نقلاً للحادث، ولكن صاحب الحادثة لا يُخبِر عن دعوى الرؤية بالصراحة والوضوح، وأنَّه قد شاهد الإمام المهدي عليه السلام وعرفه، إلَّا أنَّ السامع أو الناقل للحادثة يستنتج من ذلك أنَّ صاحب القصَّة المرويَّة عنه قد التقى بالإمام المهدي عليه السلام، ولو بعد تعدّد النقل والوسائط، أو بعد مضي فترة زمنية طويلة على الحكاية، وربَّما قد يوحي صاحب الحادثة بذلك...، فتأمَّل.
وعلى فرض إمكان الرؤية زمن الغيبة الكبرى لبعض حملة الأسرار في الجملة كما يقال - وفرض المحال ليس بمحال -، فلا ينبغي أن يُصَدَّق على ذلك، تبعاً للنصِّ الوارد، وإن لم نُكذِّبه، لعلَّة ما، بل يجب على المدَّعي عدم ذكر ذلك - إن ثبت - على أيّ نحو من الدلالة، احترازاً عن الاتِّهام؛ وكما قيل: الصادق لا يدَّعي الرؤية.
* * *
على أنَّنا نقف هذه الوقفة من هكذا دعاوى، لا لسوء الظنِّ بعلمائنا الأبرار، أو التجاوز على مقامهم العالي، ولكن من باب الحفاظ على صورة مذهب أهل البيت عليهم السلام ناصعة، وأن تكون طرق الدليل لأحكامه واضحة، وأبواب مصادره الفقهية والعقائدية مألوفة، ودفع القول بالاحتمال والظنِّ غير المعتبر؛ لأنَّ الظنَّ لا يُغني من الحقِّ شيئاً، قال تعالى: (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (النجم: ظ¢ظ¨)، ولا أظنُّ أنَّهم يخالفونني الرأي.
فضلاً عن الحذر من هكذا دعاوى، التي تجرُّ إلى تشويش الفكر والعقيدة عند العوامّ، لاستغلالها من قِبَل البعض من ذوي العقول المريضة والنفوس الضعيفة في الدخول إلى البسطاء والسُّذَج من الناس والتأثير فيهم، وَجَرِّهم إلى ما لا يُحمَد عقباه.
فعلينا قطع دابر هؤلاء، وإخماد طموحهم غير المشروع، خصوصاً ممَّن له مِسحة من العلم، من الذين غرَّتهم الدنيا وزخارفها، باستغلال مثل هذه الدعاوى وغيرها في خداع الناس وتضليلهم بدعوى لقاء الإمام المهدي عليه السلام وأخذ التعاليم الدينية، والأوامر الشرعية، منه مباشرةً، بالاعتماد على بعض المرويّات المهلهلة للتدليل على ذلك وأخذها من بعض الكتب المشحونة بالقصص العجيبة والحكايات الغريبة التي لا يقبلها العقل السليم، أو إلباس ما صورته حقيقية كـ (الإجماع التشرّفي) كأنَّه حقيقة فعلاً، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم.
* * *
ثمّ إنَّ إثبات وجود الإمام المهدي عليه السلام، وأنَّه ما زال حيَّاً يُرزَق منذ أن وُلِدَ سنة (ظ¢ظ¥ظ¥هـ)، لا يحتاج لهذه الشواهد والقرائن والدعاوى المهلهلة، التي نُقِلَت بطيبة، وسذاجة، ومبالغة، والتي تُستَغلُّ! وقد استغلَّتها بعض النفوس المريضة! واستندت إليها في تجميل دعواها الباطلة والضالّة، لإثبات صدقها كالبابية والبهائية وغيرهما من دجّالي العصر.
وفي عقيدتي ويقيني أنَّ في سُنَّة أهل البيت عليهم السلام وسيرتهم، وما أصَّلهُ الأصحاب بالتبع، من الأدلَّة الثابتة والبراهين القويَّة على إثبات وجوده عليه السلام الكثير الطيِّب، والحجَّة على إثبات ولادته، وإمكان حياته، هذه الفترة الطويلة ساطعة، بأدلَّة عقلية ونقلية، فلا حاجة لنا بمثل هذه الدعاوى المهلهلة؛ لترسيخ عقيدتنا أو تقوية إيماننا بوجود الإمام المهدي عليه السلام - كما قد يقال -.
على أنَّ غيبة الإمام المهدي عليه السلام لا تمنع من قيامه بواجبه الإسلامي والقيادي والاجتماعي في مصلحة الإسلام كأيِّ فردٍ آخر من المسلمين، في أيِّ قسم اقتضت المصلحة تنفيذه كهداية شخص أو جماعة من الكفر إلى الإسلام، أو من الانحراف إلى الوعي، أو من الظلم إلى الاعتدال، أو جعل الموانع ضدّ الظلم القائم على المجتمع من تأثيره في الإسلام والمسلمين عامَّة، وضدّ قواعده الشعبية خاصَّة، إلى غير ذلك(ظ¢ظ¨)، ولكن بحدود معيَّنة.
* * *
وأمَّا قول بعض الأعلام: إنَّ المشاهدة غير الرؤية، فإنَّ الرؤية تفيد العموم، سواء عرف أنَّه الإمام المهدي عليه السلام حين الرؤية، أو عرفه بعد غيابه عنه ورحيله، من خلال بعض القرائن المحيطة باللقاء والواقعة، فيستنتج منها ويحتمل أنَّ الذي رآه هو الإمام المهدي عليه السلام. والرؤية قد تحدث مرَّة واحدة للشخص ولا تتكرَّر، فهذا المعنى من الرؤية لا مانع منه، وقد حدثت لكثير من الناس، على اختلاف طبقاتهم.
وأمَّا المشاهدة - التي ورد اللفظ بها في التوقيع الأخير- فهي تدلُّ على الحضور والاستمرار برؤية الإمام المهدي عليه السلام واللقاء به، مع تشخيص هُويَّته، والتي يستلزم منها دعوى النيابة والسفارة الخاصَّة، وهذا الأمر ممنوع بتاتاً، وهو المشار إليه في التوقيع الأخير، قبل الصيحة وخروج السفياني.
ففيه تأمّل، فإنَّ الرُّؤيَةَ، بالضَّمِّ: إدْراكُ المَرْئي، بمعنى بلوغ غاية الشيء وأقصاه، وهو على أنواع بحَسَبِ قُوَى النَّفْس البشرية:
الأوَّل: النَّظَرُ بالعَيْنِ التي هي الحاسَّة، وما يَجْرِي مجْراها، نحو قوله تعالى:
(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) (التكاثر: ظ¦ وظ§)، وقوله تعالى: (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) (الزمر: ظ¦ظ*). ومِن الأخيرِ قوْلُه تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) (التوبة: ظ،ظ*ظ¥)، فإنَّه ممَّا أُجْرِي مجْرَى الرُّؤْيَة بالحاسَّةِ، فإنَّ الحاسَّةَ لا تصحُّ على الله تعالى، وعلى ذلكَ قَوْله تعالى: (يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) (الأعراف: ظ¢ظ§).
ثمّ نتساءل: هل الإمام المهدي عليه السلام مأمور ببثِّ العقائد الدينية والأحكام الشرعية وغير ذلك، إلى الناس في زمن الغيبة الكبرى، وبيان ما وقعوا فيه من اختلاف فيها، أم لا؟ لأنَّهم عليهم السلام قد أَصَّلوا الأُصول وبيَّنوا الفروع للناس، فإذا ضاع شيء منها أو فُقِدَ فهو بسبب إهمالنا وتقصيرنا في حفظها لا بتقصير منهم في التبليغ والبيان للأحكام الشرعية والعقائد الدينية.
فهذا سؤال يطرح نفسه بقوَّة، قال الشيخ المظفَّر قدس سره في (أُصول الفقه): إنَّ اختفاء الإمام واحتجاب نفعه - مع ما فيه من تفويت لأعظم المصالح النوعية للبشر - هو نفسه قد يدعو إلى احتجاب حكم الله عند إجماع العلماء على حكم مخالف للواقع، لاسيّما إذا كان الإجماع من أهل عصر واحد، ولا يلزم من ذلك إخلال الإمام بالواجب عليه، وهو تبليغ الأحكام، لأنَّ الاحتجاب ليس من سببه.
وعلى هذا فمن أين يحصل لنا القطع بأنَّه لا بدَّ للإمام من إظهار الحقِّ حال غيبته، عند حصول إجماع ما هو مخالف للواقع؟
وللمشكِّك أن يزيد على ذلك، فيقول: لماذا لا تقتضي هذه القاعدة أن يُظهِر الإمام الحقَّ حتَّى في صورة الخلاف، لاسيّما أنَّ بعض المسائل الخلافية قد يقع فيها أكثر الناس في مخالفة الواقع؟
بل لو أحصينا المسائل الخلافية في الفقه التي هي الأكثر من مسائله، لوجدنا أنَّ كثيراً من الناس لا محالة واقعون في مخالفة الواقع، فلماذا لا يجب على الإمام هنا تبليغ الأحكام؛ حتَّى يقلَّ الخلاف أو ينعدم، وبه تكون نجاة المؤمنين من الوقوع في مخالفة الواقع؟
وإذا جاء الاحتمال لا يبقى مجال لاستلزام الإجماع القطع بقول المعصوم من جهة قاعدة اللطف(ظ¤ظ*).
إنَّه ليس من تكليف الإمام المهدي عليه السلام تبليغ الأحكام إلى الناس في عصر الغيبة الكبرى، أو توجيههم وإرشادهم وإعانتهم بالمباشرة، لاسيّما وأنَّ أمر غيابه واحتجابه عن الناس لم يكن بإرادته ولا باختياره، بل بأمر من مشرِّع الأحكام سبحانه وتعالى، وباعث الرسل، ومُنزِل الكتب السماوية، حتَّى يقال: إنَّ من رآه وادَّعى تبليغ شيء عنه - كدعوى الإجماع التشرّفي - إنَّه يجمع بين الأمر بإظهار الحقِّ، والنهي التعبّدي عن إذاعة مثل ذلك؛ لأنَّ في هذا نقضاً للغرض، وهذا لا يجوز على الحكماء والعقلاء، فضلاً عن وجود كثير من الأحكام الخلافية الابتلائية المتناقضة بين آراء الفقهاء من زمن الغيبة الكبرى وحتَّى يومنا هذا، ولم نرَ لها حكماً يُوضِّحها منه عليه السلام، أو تبليغاً يرفع الخلاف عنها مع تطاول الأزمان.
والغريب في الأمر، أنَّه مع دقَّة علمائنا الأعلام، ومسلك فقهائنا العظام، في التثبّت بأخذ الرواية، وشدَّة تحرّزهم في العمل عليها، واحتياطهم في الاستدلال بها، ما لم يقطعوا بتمام الحجّية من جهات عدَّة، وأهمّها جهة السند، ترى البعض يتسامح في قبول مثل هذه الدعاوى كنقل حكم شرعي عن طريقه بدعوى الإجماع التشرّفي، مع عدم ثبوت حجّيته!، وغيره من دعاوى الرؤية المباشرة المُشخِصة للإمام المهدي عليه السلام مع أنَّ طرق نقلها مرسلة، وبعضها عن مجاهيل، واعتماد أغلب هذه الدعاوى على نقل التابعيين البسطاء، والعوامّ السُّذَج، وإن كانوا مؤمنين!!
ومنها ما علَّمه الإمام المهدي عليه السلام إلى محمّد بن علي العلوي الحسيني المصري في حائر الحسين، وهو بين اليقظان والنائم، وقد أتاه الإمام مكرَّراً وعلَّمه، إلى أن تعلَّمه في خمس ليالٍ وحفظه، ثمّ دعا به واستجيب دعاؤه، وهو الدعاء المعروف بالعلوي المصري، روى السيِّد الجليل علي بن طاووس في (مهج الدعوات): وجدت في مجلَّد عتيق ذكر كاتبه أنَّ اسمه الحسين بن علي بن هند، وأنَّه كتب في شوّال سنة ستّ وتسعين وثلاث مائة دعاء العلوي المصري بما هذا لفظ إسناده: دعاء علَّمه سيِّدنا المؤمَّل (صلوات الله عليه) رجلاً من شيعته وأهله في المنام، وكان مظلوماً ففرَّج الله عنه، وقُتِلَ عدوّه. حدَّثني أبو علي أحمد بن محمّد بن الحسين، وإسحاق بن جعفر بن محمّد العلوي العريضي بحرّان، قال: حدَّثني محمّد بن علي العلوي الحسيني، وكان يسكن بمصر، قال: دهمني أمر عظيم، وهمٌّ شديد، من قِبَل صاحب مصر، فخشيته على نفسي، وكان سعى بي إلى أحمد بن طولون، فخرجت من مصر حاجَّاً، فصرت من الحجاز إلى العراق، فقصدت مشهد مولانا الحسين بن علي عليهما السلام عائذاً به، ولائذاً بقبره، ومستجيراً به، من سطوة من كنت أخافه، فأقمت بالحائر خمسة عشر يوماً أدعو وأتضرَّع ليلي ونهاري، فتراءى لي قيِّم الزمان عليه السلام ووليّ الرحمن، وأنا بين النائم واليقظان، فقال لي: «يقول لك الحسين بن علي عليهم السلام: يا بني خفت فلاناً؟».
فقلت: نعم أراد هلاكي، فلجأت إلى سيِّدي عليه السلام أشكو إليه عظيم ما أراد بي.
فقال عليه السلام: «هلَّا دعوت الله ربُّك (عزَّ وجلَّ) وربُّ آبائك بالأدعية التي دعا بها من سلف من الأنبياء عليهم السلام، فقد كانوا في شدَّة فكشف الله عنهم ذلك».
قلت: وماذا أدعوه؟
فقال عليه السلام: «إذا كان ليلة الجمعة، فاغتسل وصلِّ صلاة الليل، فإذا سجدت سجدة الشكر، دعوت بهذا الدعاء، وأنت بارك على ركبتك»، فذكر لي دعاء، قال: ورأيته في مثل ذلك الوقت، يأتيني وأنا بين النائم واليقظان، قال: وكان يأتيني خمس ليال متواليات يُكرِّر عليَّ هذا القول والدعاء حتَّى حفظته وانقطع مجيئه ليلة الجمعة.
فاغتسلت وغيَّرت ثيابي، وتطيَّبت وصلَّيت صلاة الليل، وسجدت سجدة الشكر، وجثوت على ركبتي، ودعوت الله جلَّ وتعالى بهذا الدعاء، فأتاني ليلة السبت، فقال لي: «قد أُجيبت دعوتك يا محمّد! وقُتِلَ عدوّك عند فراغك من الدعاء عند من وشى به إليه». فلمَّا أصبحت ودَّعت سيِّدي، وخرجت متوجِّهاً إلى مصر، فلمَّا بلغت الأُردن وأنا متوجِّه إلى مصر، رأيت رجلاً من جيراني بمصر وكان مؤمناً، فحدَّثني أنَّ خصمي قبض عليه أحمد بن طولون، فأمر به فأصبح مذبوحاً من قفاه، قال: وذلك في ليلة الجمعة، فأمر به فطُرِحَ في النيل، وكان فيما أخبرني جماعة من أهلينا وإخواننا الشيعة أنَّ ذلك كان فيما بلغهم عند فراغي من الدعاء كما أخبرني مولاي عليه السلام.
ثمّ ذكر له طريقاً آخر عن أبي الحسن علي بن حمّاد البصري، ثمّ ساق رحمه الله الدعاء بتمامه وهو طويل، ولذا تركنا نقله حذراً من الخروج عن وضع البحث، مع كونه في غاية الانتشار، وهذه الحكاية موجودة في باب المعاجز من (البحار)(ظ¤ظ¦).
أقول: وكما تقرأ أنَّه لم يعلم أنَّه الإمام عليه السلام يقيناً، بل ربَّما كانت رؤيا صادقة مع صفاء النفس، ونقاء الروح، وخلوصه لله تعالى وقتئذٍ، فتأمَّل. وغير ذلك ممَّا يوجب التأمّل والوقوف عنده طويلاً.
وأخيراً فالقول ما قلناه: إنَّ رؤيته عليه السلام في عالم الثبوت ممكنة، ولكن إثبات دعوى الرؤية وتحقّقها في عالم الإثبات في عداد المستحيل، فافهم.
والله تعالى العالم بحقائق الأُمور والهادي إلى النور المبين.
من مركز الدراسات التخصصية ف الامام المهدي عليه السلام
مجلة الموعود
​