العودة   منتديات احباب الحسين عليه السلام > القسم الاسلامي > المنتدى الاسلامي العام > قسم القرآن الكريم
روابط مفيدة مشاركات اليوم البحث


أسباب نزول القرآن (1)

قسم القرآن الكريم


إضافة رد
   
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 12-05-2021, 03:01 AM   رقم المشاركة : 1
الكاتب

سيد فاضل

الصورة الرمزية سيد فاضل


الملف الشخصي









سيد فاضل غير متواجد حالياً


افتراضي أسباب نزول القرآن (1)

أسباب نزول القرآن (1)؛ بحث مفصل بقلم العلامة المحقق السيد محمد رضا الحسيني

شفقنا العراق-بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلائق وخير المرسلين، سيّدنا رسول الله محمّد صلّى الله عليه، وعلى الأئمّة المعصومين من آله المنتجبين، صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.

وبعد، لا ريبَ أنّ اهتمام المسلمين انصبَّ ـ منذ فجر الإسلام ـ على تفسير القرآن الكريم، توصُّلاً اِلى العمل به، وتطبيقه. وكان التفسير في بداية أمره يعتمد عنصر الإبانة والإيضاح بالكشف عن معنى اللفظ لغوياً، وعن مدلوله عرفيّاً، وإظهار ذلك بألفاظ اُخرى أكثر استعمالاً و أسرع دلالة عند العرف العام، وهذا ما تدلّ عليه كلمة (التفسير) بالذات.

ويجد المتتبّع أنّ أكثر التفاسير المصنّفة في القرنين الأول والثاني تعتمد هذا الشكل من التفسير ، كتفسير مجاهد (المتوفّى سنة 104) ، و زيد الشهيد (سنة 122) ، وعطاء الخراساني (ت 133) وغيرهم.

وهذا المنهج التفسيري يبتني في الأغلب على ما ذكره الصحابة وكبار التابعين ، و أكثر من نقل عنه ذلك هو الصحابي الجليل عبدالله بن عباس (ت 68) (1) الذي يُعدّ من روّاد علم التفسير والمشهورين بعلم القرآن ، حتى لقّب بـ «ترجمان القرآن» (2).

وكان جلّ تلمذته على الإمام أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، حتى شهد الإمام في حقّه ، بقوله : «كأنّما ينظر إلى الغيب من سترٍ رقيق» (3).

وهذا الشكل من التفسير يرتكز ـ كما أشرنا ـ على المعلومات اللغوية فيتناول الألفاظ الغريبة الواردة في القرآن بالشرح والبيان و إيراد ما فيها من مجازٍ في الكلمة أو الإسناد أو حذف أو تقدير أو نحو ذلك من التصرّفات اللفظية.

قال الاُستاذ فؤاد سزگين ـ بعد أن عدّد تلاميذ ابن عباس في علم التفسير ـ : «تضمّ تفاسير هؤلاء العلماء وكذلك تفسير شيخهم توضيحات كثيرة ذات طابع لغوي أحرى أن تسمّى : دراسة في المفردات» (4).

وانصبّ جهد المفسّرين في مرحلة تالية على معرفة الحوادث المحيطة بنزول القرآن ، لما في ذلك من أثر مباشر على فهم القرآن والوصول إلى مغزى الآيات الكريمة ، لأنّ موارد النزول والمناسبات التي تحتفّ بها تضمّ قرائن حاليّة تكشف المقاصد القرآنية ، و يستدلّ بها على سائر الأبعاد المؤثرة في تحديدها و تفسيرها ، و يُسمّى هذا الجهد (بمعرفة أسباب النزول) في مصطلح مؤلّفي علوم القرآن.

وقد ساهم كثير من الصحابة ، الّذين شهدوا نزول الوحي ، و عاصروا الحوادث المحتفّة بذلك ، وحضروا المشاهد ، وعاشوا القضايا التي نزلت فيها الآيات ، في بيان هذه الأسباب بالإدلاء بمشاهداتهم من أسباب النزول.

واستند المفسّرون إلى تلك الآثار في مجال التفسير مستعينين بها على فهم القرآن و بيان مراده. ويجدر أن يسمّى هذا الشكل من الجهد التفسيري بمنهج «التفسير التاريخي».

وقد أشار بعض علماء التفسير إلى هذين الشكلين من الجهد بقوله : إعلم أنّ التفسير في عرف العلماء كشف معاني القرآن وبيان المراد ، أعمّ من أن يكون بحسب اللفظ المشكل وغيره ، وبحسب المعنى الظاهر وغيره.

والتفسير : إمّا أن يُستعمل في غريب الألفاظ ، و إمّا في كلام متضمّن لقصّة لا يمكن تصويره إلّا بمعرفتها (5).

ولقد وجدتُ فراغاً في الكتب المتعرّضة لأسباب النزول سواء العامّة لكلّ الآيات ، أو الخاصّة ببعضها، حيث أغفلتْ جانب أسباب النزول من حيث أهمّيّتها، وطرق إثباتها و حجّيّتها ، و أخيراً ذكر مصادرها المهمّة.

فأحببتُ أنْ اُقدِّم هذا البحث عسى أن يسدّ هذا الفراغ ، أو يجد فيه المتخصّصون تحقيقاً منهجيّاً لم يتكفل استيعابه المؤلّفون لكتب علوم القرآن على الرغم من تعرّض بعضهم له.

عصمنا الله من الخطأ والزلل في القول والعمل.

1- أَهميّتُها

اهتمّ المفسّرون بذكر أسباب النزول ، فجعلوا معرفتها من الضروريّات لمن يريد فهم القرآن والوقوف على أسراره ، و أكّد الأئمة على هذا الإهتمام ، فجعله الإمام أبوعبدالله جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام من الاُمور التي لو لم يعرفها المتصدّي لمعرفة القرآن لم يكن عالماً بالقرآن، فقال عليه السلام : اعلموا رحمكم الله أنّه من لم يعرف من كتاب الله : الناسخ والمنسوخ ، والخاصّ والعامّ ، والمحكم والمتشابه ، والرخص من العزائم ، والمكّي من المدني ، و أسباب التنزيل.. ، فليس بعالم القرآن، ولا هو من أهله (6).

ومن هنا نعرف سرّ عناية الإمام أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام بأمر نزول القرآن ومعرفة أسبابه ومواقعه ، فقد كان يُعلن دائماً عن علمه بذلك ، و يصرّح باطّلاعه الكامل على هذا القبيل من المعارف الإسلاميّة: ففي رواية رواها أبونعيم الإصبهاني في «حلية الاولياء» عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال : والله ما نزلتْ آية إلّا وقد علمتُ فيما اُنزلتْ ! و أين اُنزلتْ ! إنّ ربّي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً (7).

وقال عليه السلام : والله ما نزلتْ آية في ليلٍ أو نهارٍ ، ولا سهلٍ ولا جبلٍ ، ولا برٍّ ولا بحر ، إلّا وقد عرفتُ أيّ ساعة نزلتْ ! أو في من نزلتْ ! (8).

وإذا كان أمر نزول القرآن ـ ومنه أسبابه ـ بهذه المثابة من الأهمّية عند الإمام عليّ عليه السلام، وهو القِمة الشمّاء بين العارفين بالقرآن وعلومه، بل هو معلّم القرآن بعد النبيّ صلّی الله عليه وآله وسلم، كما في الحديث عن أنس بن مالك، قال النبيّ: عليّ يعلّم الناس بعدي من تأويل القرآن ما لا يعلمون يخبرهم. [شواهد التنزيل ج 1 ص 29].

وقال المفسّر ابن عطيّة : «فأمّا صدر المفسّرين والمؤيّد فيهم فعليّ بن أبي طالب» (9).

فإنّ أهمّية أسباب النزول ومعرفتها تكون واضحة ، حيث تُعدّ من الشروط الأساسيّة لمن يريد التعرّف على القرآن.

وقد أفصح عن ذلك الأعلام والمؤلّفون أيضاً: قال الواحدي : إذ هي [يعني الأسباب] اُولىٰ ما يجب الوقوف عليها ، فأَولى أن تصرف العناية إليها ، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها دون الوقوف على قصّتها وبيان نزولها (10).

وقال السيّد العلّامة الفاني : و أمّا وجه الحاجة إلى شأن نزول الآيات ، فلأنّ الخطأ في ذلك يفضي الى اتّهام البريء و تبرئة الخائن ، كما ترى أنّ بعض الكتّاب القاصرين عن درك الحقائق ، يذكرون أنّ شأن نزول آية تحريم الخمر إنّما هو اجتماع عليّ عليه السلام مع جماعة في مجلس شرب الخمر ، مع أنّ التاريخ يشهد بكذب ذلك ، ونرى بعضهم يقول : إنّ قوله تعالى : «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ» إنّما نزلت في شأن ابن ملجم (11).

وقال الدكتور شوّاخ : نزل القرآن منجّماً على النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم حسب مقتضيات الاُمور والحوادث ، وهذا يعني أنّ فهم كثير من الآيات القرآنية متوقّف على معرفة أسباب النزول ، وهي لا تخرج عن كونها مجرّد قرائن حول النصّ ، وقد حرّم العلماء المحقّقون الإقدام على تفسير كتاب الله لمن جهل أسباب النزول.

ولذا كان الإقدام على تفسير كتاب الله تعالى محرّماً على اُولئك الّذين يجهلون أسباب النزول و يحاولون معرفة معنى الآية ، أو الآيات دون الوقوف على أسباب نزولها وقصّتها (12).

وبلغ اهتمام علماء القرآن بأسباب النزول إلى حدّ عدّه من أهمّ أنواع علوم القرآن. فجعله برهان الدين الزركشي أوّل الأنواع في كتابه القيّم «البرهان في علوم القرآن». و أفرد له السيوطي «النوع التاسع» من كتابه القيّم «الإتقان في علوم القرآن» بعنوان «معرفة أسباب النزول». و سنأتي في الفقرة الأخيرة من هذا البحث على ذكر المصادر العامّة والخاصّة لهذا الموضوع.

وبالرغم من الأهميّة البالغة لأسباب النزول ، فقد عارض بعض هذا الإهتمام ، مستنداً إلى اُمورٍ من الضروري عرضها ثم تقييمها :

الأمر الأول : إنّه لا أثر لهذا العلم في التفسير : قال السيوطي : زعم زاعم أنّه لا طائل تحت هذا الفنّ [أي فنّ أسباب النزول] لجريانه مجرى التاريخ (13).

ومع مخالفة هذا الإدّعاء لما ذكره الأئمّة والعلماء كما عرفنا تصريحهم بأنّ معرفة أسباب النزول ممّا يلزم للمفسّر حيث لا يمكن الوقوف على التفسير بدونه ، بل يحرم كما
قيل.

فقد ردّ السيوطي على هذا الزعم بقوله : وقد أخطأ في ذلك ، بل له فوائد : منها : معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم. ومنها : تخصيص الحكم به عند من يرى أنّ العبرة بخصوص السبب. ومنها : أنّ اللفظ قد يكون عامّاً ، و يقوم الدليل على تخصيصه ، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ماعدا صورته ، فإنّ دخول صورة السبب قطعيّ. ومنها : دفع توهّم الحصر (14).

الأمر الثاني : إنّ المورد لا يخصّص.

واعترض أيضاً : بأنّ ما يستفاد من أسباب النزول هو تعيين موارد أحكام الآيات و أسبابها الخاصّة ، ومن المعلوم أنّ ذلك لايمكن أن يحدّد مداليل الآيات ولا يخصّص عموم الأحكام ، وقد عنون علماء اُصول الفقه لهذا البحث بعنوان : «إنّ المورد لا يخصّص الحكم».

قال الاُصولي المقدسي : إذا ورد لفظ العموم على سبب خاصّ لم يسقط عمومه ، وكيف ينكر هذا ، و أكثر أحكام الشرع نزلت على أسباب كنزول آية الظهار في أوس ابن الصامت ، و آية اللعان في هلال بن اُميّة ، وهكذا (15).

والجواب عنه أوّلاً : إنّ البحث الاُصولي المذكور لا يمسّ المهمّ من بحث أسباب النزول ، لأنّ البحث الاُصولي يتوجّه إلى شمول الأحكام المطروحة في الآيات لغير مواردها ، وعدم شمولها ، فالبحث يعود إلى أنّ الآية هل تدلّ على الحكم في غير موردها أيضاً كما تشمل موردها ، أو لا تشمل إلّا موردها دون غيره ؟

ففي صورة الشمول لغير موردها أيضاً ، يمكن الإستدلال بظاهرها الدالّ بالعموم على الحكم في غير المورد.

وأمّا بالنسبة الى نفس المورد فلا بحث في شمول الآية له ، فإنّ شمول الآية له مقطوع به و مجزوم بإرادته بدلالة نصّ الآية ، وهي قطعيّة لاظنيّة ، حيث أنّ المورد لا يكون خارجاً عن الحكم قطعاً ، لأنّ إخراجه يستلزم تخصيص المورد ، وهو من أقبح أشكال التخصيص وفاسد بإجماع الاُصوليّين.

قال المقدسي في ذيل كلامه السابق ، في حديث له عن الآيات النازلة للأحكام في الموارد الخاصّة ، ما نصّه : فاللفظ يتناولها [أي الموارد الخاصّة] يقيناً ، ويتناول غيرها ظنّاً ، إذ لا يُسأل عن شيء فيُعدل عن بيانه إلى غيره… فنقل الراوي للسبب مفيدٌ ليبيّن به تناول اللفظ له يقيناً ، فيمتنع من تخصيصه (16).

وقال السيوطي : إذا عرف السبب قصر التخصيص على ماعدا صورته ، فإنّ دخول صورة السبب قطعيّ و إخراجها بالاجتهاد ممنوع كما حكى الإجماع عليه القاضي أبوبكر في «التقريب» ولا التفات إلى من شذّ فجوّز ذلك (17).

إذن لا تسقط فائدة معرفة أسباب النزول من خلال البحث الاُصولي المذكور ، بل تتأكّد.

وثانياً : إنّ الرجوع إلى أسباب النزول قد لا يرتبط ببحث العموم والخصوص في الحكم ، و إنّما يتعلّق بفهم معنى الآية و تشخيص حدود موردها و تحديد الحكم نفسه من حيث المفهوم العرفي ، لا السعة والضيق في موضوعه كما اُشير إليه سابقاً ، ولنذكر لذلك مثالاً : قال الله تبارك و تعالى : «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّـهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ» سورة البقرة (2) الآية (158).

قال السيوطي : إنّ ظاهر لفظها لا يقتضي أنّ السعي فرض ، وقد ذهب بعضهم إلى عدم فرضيّته ، تمسكاً بذلك (18).

ووجه ذلك أنّ قوله تعالى : «لَا جُنَاحَ» يدلّ على نفي البأس والحرج فقط ، ولا يدلّ على الإلزام والوجوب ، فإنّ رفع الجناح لا يستلزم الوجوب لكونه أعمّ منه ، فكلّ مباح لا جناح فيه ، والواجب ـ أيضاً ـ لا جناح فيه ، لكنّ فيه إلزام زيادة على المباح ، ومن الواضح أنّ العامّ لا يستلزم الخاصّ.

لكنّ هذا الإستدلال بظاهر الآية مردود ، بأنّ ملاحظة سبب نزولها يكشف عن سرّ التعبير بـ «لَا جُنَاحَ» فيها، وذلك : لأنّ أهل الجاهليّة كانوا يضعون صنمين على الصفا والمروة ، و يتمسّحون بهما لذلك، و يعظّمونهما ، وكان المسلمون بعد كسر الأصنام يتحرّجون من الإقتراب من مواضع تلك الأصنام توهّماً للحرمة، فنزلت الآية لتقول للمسلمين : إنّ المواضع المذكورة هي من المشاعر التي على المسلمين أن يسعوا فيها فإنّها من واجبات الحجّ ، و أمّا قوله تعالى: «لَا جُنَاحَ» فهو لدفع ذلك التحرّج المتوهَّم.

فهذا الجواب يبتني على بيان سبب النزول كما أوضحنا ولا يمسّ البحث الاصولي المذكور بشيء. وقد أورد السيوطي في «الإتقان» أمثلة اُخرى ، ممّا يعتمد فهمُ الآيات فيها على أسباب النزول (19).

وثالثاً : إنّ هذا البحث الاصولي إنّما يجري في آيات الأحكام كما يظهر من عنوانهم له ، دون غيرها ، و سيأتي مزيد توضيح لهذا الجواب فيما يلي.

وقد أثار ابن تيميّة شبهةً حول أهمّية أسباب النزول تعتمد على أساس هذا الإعتراض ، ملخّصها : أنّ نزول الآية في حقّ شخص ـ مثلاً ـ لا يدلّ على اختصاص ذلك الشخص بالحكم المذكور في الآية ، يقول : قد يجيء ـ كثيراً في هذا الباب ـ قولهم : «هذه الآية نزلت في كذا» لاسيّما إذا كان المذكور شخصاً كقولهم : إنّ آية الظهار نزلت في امرأة ثابت بن القيس ، و إنّ آية الكلالة نزلت في جابر بن عبدالله.

قال : فالّذين قالوا ذلك ، لم يقصدوا أنّ حكم الآية يختصّ باُولئك الأعيان دون غيرهم ، فإنّ هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق ، والناس ـ و إنْ تنازعوا في اللفظ العامّ الوارد على سبب ، هل يختصّ بسببه ؟ ـ فلم يقل أحد : إنّ عمومات الكتاب والسنّة تختصّ بالشخص المعيّن ، و إنّما غاية ما يقال إنّها تختصّ بنوع ذلك الشخص ، فتعمّ ما يشبهه.

والآية التي لها سبب معيّن ، إن كانت أمراً أو نهياً ، فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممّن كان بمنزلته ، و إن كانت خبراً بمدح أو ذمّ ، فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته (20).

والجواب عن هذه الشبهة :

أوّلاً : إنّ ما ذكره من «لزوم تعميم الحكم ، وعدم قابلية الآية للتخصيص بشخص معين» إنّما يبتني على فرضين :

1 ـ أن يكون الحكم الوارد في الآية شرعيّاً فقهيّاً.

2 ـ أن يكون لفظ الموضوع فيها عامّاً.

وهذان الأمران متوفّران في الأمثلة التي أوردها ، كما هو واضح. أمّا إذا كانت الآية تدلّ على حكم غير الأحكام الشرعيّة التكليفيّة أو الوضعيّة ، أو كان الموضوع فيها بلفظ خاصّ لاعموم فيه ، فإنّ ما ذكره من لزوم التعميم وامتناع التخصيص ، باطل.

توضيح ذلك : إنّ البحث عن أسباب النزول ليس خاصّاً بآيات الأحكام ـ وهي الآيات الخمسمائة المعروفة ـ بل يعمّ كلّ الآيات بما فيها آيات العقائد والقصص والأخلاق وغيرها ، ومن الواضح أنّ من غير المعقول الإلتزام بعموم الأحكام الواردة فيها كلّها.

مثلاً : قصّة موسى و فرعون و بني إسرائيل ، بما لها من الخصوصيّات المتكررة في القرآن ، لا معنى للإشتراك فيها ، فهي قضيّة في واقعة إنّما ذكرت للإعتبار بها ، ويستفاد منها في مجالاتها الخاصّة.

كذلك إذا كان الموضوع خاصّاً لاعموم فيه ، فإنّ القول باشتراك حكم الآية بينه و بين من يشبه ، شططٌ من القول. قال السيوطي في آية نزلت في معيّن ولا عموم للفظها: إنّها تقصر عليه قطعاً ـ و ذكر مثالاً لذلك ، ثم قال ـ : و وهم من ظنّ أنّ الآية عامّة في كلّ من عمل عمله ، إجراءً له على القاعدة ، وهذا غلط ، فإنّ هذه الآية ليس فيها صيغة عموم (21).

وقوله تعالى : «إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» سورة الكوثر (108) الآية (3) فإنّها نزلت في العاص الذي كان يعيّر النبيّ صلّی الله عليه وآله وسلّم ، بعدم النسل والذرّيّة ، فعبّرت عن ذمّه وحكمت عليه بأنّه هو الأبتر ، و باعتبار كون الموضوع «شانئ النبيّ صلّی الله عليه وآله وسلم» فهو خاصّ معيّن ، وهذا يُعرف من خلال المراجعة إلى سبب النزول ، فهل القول باختصاص الحكم في الآية بذلك الشخص فيه مخالفة للكتاب أو السنّة ، حتى لا يقول به مسلم أو عاقل ! كما يدّعيه ابن تيميّة.

لكنه خلط بين هذه الموارد ، و بين ما مثّل به من موارد الحكم الشرعي بلفظ عامّ ، فاستشهد بتلك على هذه ، وهذا من المغالطة الواضحة.

ونجيب عن الشبهة ، ثانياً : بأنّ الآية لو كانت تدلّ على حكم شرعي ، وكان لفظ الموضوع فيها عامّاً إلّا أنّا عرفنا من سبب النزول كون موردها شخصاً معيّناً باعتباره الوحيد الذي انطبق عليه الموضوع العامّ ، أو كان الظرف غير قابل للتكرار ، فإنّ من الواضح أنّ حكم الآية يكون مختصّاً بذلك الشخص وفي ذلك الظرف ، ولا يمكن القول باشتراك غيره معه.

مثال ذلك ، قوله تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ…» سورة المجادلة (58) الآية (12).

فإنّ المكلف في الآية عامّ ، وهم كلّ المؤمنين ، والحكم فيها شرعي وهو وجوب التصدّق عند مناجاة النبيّ صلّی الله عليه وآله وسلّم ، لكنّ هذا لايمنع من اختصاص الآية بشخص واحد ، فعند المراجعة الى أسباب النزول نجد أنّ الإمام عليّاً عليه السلام كان هو العامل الوحيد بهذه الآية ، حيث كان الوحيد الذي تصدّق وناجى الرسول صلّی الله عليه وآله ، و نسخت الآية قبل أن يعمل بها غيره من المسلمين.

فهل يصحّ القول بأنّ الآية عامّة ، وما معنى الإشتراك في الحكم لو كانت الآية منسوخة ؟ وهل في الإلتزام باختصاص الآية مخالفة للكتاب والسنّة ؟

و إذا سأل سائل عن الحكمة في تعميم الموضوع في الآية ، مع أنّ الفرد العامل منحصر ؟

فمن الجائز أن تكون الحكمة في ذلك بيان أنّ بلوغ الإمام عليه السلام الى هذه المقامات الشريفة كان بمحض اختياره و إرادته ، من دون أن يكون هناك جبرٌ يستدعيه أو أمر خاصّ به ، و إنّما كان الأمر والحكم عامّاً ، لكنّه أقدم على الإطاعة رغبة فيها و حبّاً للرسول ومناجاته ، و أحجم غيره عنها ، مع أنّ المجال كان مفسوحاً للجميع قبل أن تنسخ الآية ، فبالرغم من ذلك لم يعمل بها غيره.

ولا يمكن أن يفسّر إقدامه و تقاعسهم إلّا على أساس فضيلته عليهم في العلم والعمل ، و تأخرهم عنه في الرتبة والكمال. و بمثل هذه الحكمة يمكننا أن نوجّه افتخار الإمام عليه السلام بكونه العامل الوحيد بهذه الآية.

فقد روى الحبري في تفسيره (22) بسنده ، قال : قال عليّ : آية من القرآن لم يعمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي ، اُنزلت آية النجوى [الآية (12) من سورة المجادلة (58)] فكان عندي دينار فبعتُه بعشرة دراهم ، فكنتُ إذا أردتُ أن اُناجي النبيّ صلّى الله عليه تصدّقتُ بدرهم حتى فنيتْ ثم نسختْها الآية التي بعدها : «فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (23).

ولا بدّ من الوقوف عند اعتراض ابن تيميّة على أهمّية أسباب النزول ، لِنُذَكّر بأنّه إنّما أثار مثل هذه الشبهة محاولة منه لتقويض ما استدلّ به معارضوه ، حيث استدلّوا بنزول الآيات في أهل البيت عليهم السلام ، بدلالاتها الواضحة على فضلهم و أحقيّتهم لمقام الولاية على الاُمّة ، والخلافة عن الرسول صلّی الله عليه وآله وسلّم في قيادة المسلمين.

وحيث لم يكن لابن تيميّة طريق للتشكيك في أسانيد الروايات الدالّة على نزولها في فضل أهل البيت عليهم السلام ولا سبيل للنقاش في دلالتها على المطلوب ، عمد الى إثارة مثل هذه الشبهة بإنكار أهمّية أسباب النزول عموماً ، والتشكيك في إمكان الإستفادة منها في خصوص الآيات النازلة بحقّهم عليهم السلام.

(سيكون الحديث في الجزء التالي حول طرق إثبات أسباب النزول إن شاء الله تعالى)

المصدر: فصلية تراثنا- العدد الرابع- السنة اﻷولى 1406 هـ

_________________________

الهوامش:

1 ـ جمع الجلال السيوطي ما نقل عن ابن عباس في هذا المعنى في كتابه : الإتقان في علوم القرآن (ج 2
ص 6 ـ 106).

2 ـ لاحظ الفقيه والمتفقّه للخطيب (ص ) ، تأسيس الشيعة للسيد الصدر (ص 322).

3 ـ سعد السعود لابن طاووس (ص 287 و 296) ، البرهان في علوم القرآن للزركشي (ج 1 ص 8)

4 ـ تاريخ التراث العربي (المجلّد الأوّل ج 1 ص 177).

5 ـ الإتقان ، للسيوطي (ج 4 ص 193) ، ولاحظ الذريعة (ج 3 ص 34).

6 ـ بحارالأنوار للمجلسي (ج 93 ص 9) نقلاً عن تفسير النعماني.

7 ـ تأسيس الشيعة (ص 318) ، و سيأتي في نهاية هذا البحث ذكر أحاديث اُخرى بهذا المضمون.

8 ـ تفسير الحبري ، الحديث (37 و 74) ، شواهد التنزيل للحسكاني (ج 1 ص 280) ، و سنتحدّث في
خاتمة هذا البحث عن ارتباط الإمام بالقرآن.

9 ـ المحرّر الوجيز (ج 1 ص 8 ـ 9) من مخطوطة دار الكتب المصريّة رقم (168) تفسير ، بواسطة البرهان
للزركشي (ج 1 ص 8) بتحقيق أبوالفضل إبراهيم.

10 ـ أسباب النزول للواحدي (ص 4).

11 ـ آراء سماحة السيد العلّامة الفاني (حول القرآن) (ص 29).

12 ـ معجم مصنّفات القرآن الكريم (ج 1 ص 6 ـ 127).

13 ـ الإتقان (ج 1 ص 107).

14 ـ المصدر السابق (ج 1 ص 7 ـ 109).

15 ـ روضة الناظر و جنّة المناظر لابن قدامة المقدسي (ص 5 ـ 206) ، وانظر الإتقان للسيوطي (ج 1
ص 110).

16 ـ روضة الناظر (ص 206).

17 ـ الإتقان (ج 1 ص 107).

18 ـ المصدر السابق (ج 1 ص 109).

19 ـ المصدر نفسه (ج 1 ص 8 ـ 109).

20 ـ المصدر نفسه (ج 1 ص 112).21 ـ المصدر نفسه (ج 1 ص 12 ـ 113).

21 ـ المصدر نفسه (ج 1 ص 12 ـ 113).


التوقيع :
من مواضيع سيد فاضل » ان الميت ليفرح
» المرتد سلمان رشدي يتعرض للطعن في نيويورك
» عزاء ركضة طويريج.. كيف نشأ ولماذا منع؟!
» مسجد الحنانة.. موضع رأس الإمام الحسين عليه السلام
» مختارات من رثاء لقتيل كربلاء الامام الحسين (عليه السلام) 2
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
أسباب, نزول, القرآن

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ترتيب نزول القرآن الكريم وانتشاره سيد فاضل قسم القرآن الكريم 3 14-01-2020 07:24 AM
نزول القرآن الشيخ عباس محمد قسم القرآن الكريم 1 16-08-2019 10:29 AM
علة نزول القرآن باللغة العربية العلوية ام موسى الاعرجي قسم القرآن الكريم 3 05-01-2019 07:07 PM
أسباب نزول البسملة.. الـدمـع حـبـر العـيـون قسم القرآن الكريم 4 18-07-2014 10:34 AM
سبب نزول القرآن الكريم خادمة فضه قسم القرآن الكريم 8 24-06-2013 05:39 AM



تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

Loading...

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات احباب الحسين