الأصل: أخبرنا أبو جعفر محمد بن يعقوب قال: حدثني عدة من أصحابنا منهم محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر ثم قال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما أني إياك آمر وإياك أنهي وإياك اعاقب وإياك اثيب».
الشرح:
الغرض من الفصل بين أنواع المسائل بالترجمة بالكتاب وبين مسائل النوع بالفصول والأبواب هو التسهيل على الناظر وتنشيط المتعلم فان المتعلم إذا ختم كتابا اعتقد أنه كاف في ذلك النوع فينشط إلى قراءة غيره، بخلاف ما لو كان التصنيف كله جملة واحدة. والأولى بالقاري أن يصرح بالترجمة ويقول مثلا كتاب كذا لأنها جزء من التصنيف، وكتاب العقل والجهل اسم لجملة من الأحاديث المتضمنة لأحكامها.
(أخبرنا أبو جعفر محمد بن يعقوب) كان هذا كلام الرواة عنه أو كلامه بلسانهم أو إخبار عن نفسه بطريق الغيبة (قال حدثني عدة من أصحابنا) قال المصنف رحمه الله في هذا الكتاب في كثير من الأخبار «عدة من أصحابنا» قال العلامة وغيره أنه رحمه الله قال: «كل ما قلت في هذا الكتاب عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن عيسى فهم محمد بن يحيى العطار، وعلي بن موسى الكميذاني وداود بن كورة وأحمد بن إدريس وعلي بن إبراهيم بن هاشم. وكل ما قلت فيه عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد فهم علي بن إبراهيم، وعلي بن محمد بن عبد الله بن أذينة، وأحمد ابن عبد الله ابن أذينة، وعلي بن الحسن. وكل ما ذكرت فيه عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد فهم علي بن محمد بن علان، ومحمد بن أبي عبد الله، ومحمد بن الحسن، ومحمد بن عقيل الكليني إنتهى» والظاهر أن محمد بن أبي عبد الله هو محمد بن جعفر الأسدي الثقة، والعدة على هذا في جميع الموارد مشتملة على العدول والثقات فهذا الحديث صحيح لأن بواقي الرجال ثقات وعدول.
(منهم محمد بن يحيى العطار عن أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن زرين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال لما خلق الله العقل) أي النفس الناطقة وهي الجوهر المجرد عن المادة في ذاته دون فعله في الأبدان بالتصرف والتدبير وهذا الجوهر يسمى نفسا باعتبار تعلقه بالبدن وعقلا باعتبار تجرده ونسبته إلى عالم القدس، إذ هو بهذا الاعتبار يعقل نفسه أي يحبسها ويمنعها عما يقتضيه الاعتبار الأول من الشرور والمفاسد المانعة من الرجوع إلى هذا العالم وله مراتب متفاوتة وحالات مختلفة في القوة والضعف. وهي ستة،
أولها: حالة الاستعداد الصرف للكمالات[1].
وثانيهما: حالة بها يشاهد الأوليات[2].
وثالثها: حالة بها يشاهد النظريات من مرآت الأوليات[3].
ورابعها:
حالة بها يشاهد تلك النظريات بعد زوالها من هذه المرآة واختزانها من غير كسب جديد وهذه الحالة حالة علم اليقين، وهي حالة بها يشاهد الصور العلمية والمطالب اليقينية في ذاته،
وخامسها: حالة عين اليقين وهي حالة بها يشاهد تلك الصور والمطالب في ذات المفيض[4]. وسادسها: حالة حق اليقين وهي حالة بها يتصل بالمفيض اتصالا معنويا وتلاقي به تلاقيا روحانيا[5] وهذه الحالة هي أعظم الحالات للقوة البشرية، وقد تسمى هذه الحالات التي للنفس فيها عقلا أيضا. ومن ههنا ظهر وجه تفاوت العقول في البشر ووجه قبولها للكمال والنقصان. وقد يطلق العقل على الجوهر المفارق عن المادة في ذاته وفعله[6] ويقال إنه أول خلق من الروحانيين، وإنه كثير العدد كثرة لا مثل كثرة الأشخاص المندرجة تحت نوع واحد، ولا مثل كثرة الأنواع المندرجة تحت جنس واحد لأن تلك الكثرة من توابع المادة[7] والعالم القدسي منزه عنها بل هي مراتب وجودية نورانية بسيطة مختلفة في الشدة والضعف في النورية متفاوتة في الكمال والقرب إلى نور الأنوار، وأنه روح النفس الناطقة وحالة لها ومتعلق بها كتعلق النفس بالبدن وباضاءاته وإشراقاته تضيء النفس وتشرق وتبصر ما في عالم الملك والملكوت وتعرف منافعها ومضارها فتطلب الأول وتجتنب عن الثاني، وأنه لا بعد في ذلك التعلق لأنه إذا جاز تعلق النفس بالبدن مع المباينة بينهما في التجرد والمادية جاز تعلق ذلك الجوهر بالنفس[8] مع المناسبة بينهما في التجرد بالطريق الأولى. والحق أن وجود ذلك الجوهر أمر ممكن دل عليه ظاهر كثير من الروايات لكن لا على الوجه الذي ذهب إليه طائفة من الفلاسفة من أنه موجد للأفلاك[9] وما فيها وما تحتها من الأجسام والعناصر وغيرها فان وجوده على هذا الوجه غير ثابت لا عقلا ولا نقلا، بل باطل بالنظر إلى الآيات والروايات الدالة على أن موجد ما ذكر ليس إلا الله جل شأنه وأن تكثره وتعلقه بالنفس على الوجه المذكور أيضا أمر ممكن، وأن انتساب الحالات والمراتب المذكورة للنفس إليه باعتبار تفاوت إشراقاته عليها أيضا جايز، وأن انتساب الثواب والعقاب إليه غير بعيد إذ كما أن ثواب البدن وعقابه باعتبار متعلقه وروحه الذي هو النفس كذلك يجوز أن يكون ثواب النفس وعقابها باعتبار متعلقها وروحها الذي هو ذلك الجوهر، إذا عرفت هذا فلا يبعد أن يراد بالعقل في الروايات الدالة على أنه أول خلق من الروحانيين وأنه حالة من أحوال النفس كما في حديث الجنود وغيره ذلك الجوهر[10] ثم معاني العقل على تباينها يجمعها أمر واحد يشترك الكل فيه وهو أنه ليس بجسم ولا جسماني ولهذا صح أن يجعل موضوعا لفن واحد كما في هذا الكتاب ويبحث عن العوارض الذاتية له ولأقسامه وللرأي الصائب أن يحمله في كل حديث على ما يناسبه من المعاني المذكورة.
وإذا عرفت العقل فاعرف الجهل بالمقابلة فهو إما النفس باعتبار تعلقها بالبدن والحالات المقابلة للحالات المذكورة لأن ذلك التعلق وتلك الحالات منشأ لظلمة النفس وانكسافها وميلها إلى الشرور، أو أمر مقابل لذلك الجوهر النوراني متعلق بالنفس وروح خبيث لها يدعوه إلى الشر والفساد، ولا يبعد أن يكون ما في بعض الروايات «من أن المؤمن مؤيد بروح الايمان» (2) و «أن لكل قلب اذنين على أحدهما ملك يهديه وعلى الآخر شيطان يضله»[11] إشارة إلى العقل والجهل بهذا المعنى والله أعلم بحقائق الأمور (استنطقه) ناطقة واستنطقه أي كلمه وفي استنطاقه إخراج له عن الوحشة وتأنيس له بالقربة وتكريم له بالعزة كما يقع مثل ذلك كثيرا ما بين المحب والمحبوب ومن هذا القبيل قوله تعالى (وما تلك بيمينك يا موسى) مع علمه تعالى بخفيات الأمور (ثم قال له: أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر) كأن المراد إقباله إلى ما يصلح أن يؤمر به من الطاعة وإدباره عما ينهى عنه من المعصية أو إقباله إلى المقامات العالية والدرجات الرفيعة التي يمكنه الوصول إليها، وإدباره عن تلك المقامات ونزوله في منازل الطبيعة الجسمانية وهبوطه مواطن الظلمة البشرية، ولعل الغرض من الأمر بالاقبال إراءه مقاماته وإظهار درجاته ليستيقظ في العالم السفلي من نوم الجهالة وسنة البطالة ويتذكر بأن له سوى هذه النشأة الدنية نشأة أخرى أحسن وأفضل منها بل لا نسبة بينهما، أو إقباله إلى الدنيا وإدباره عنها وعدم ركونه إليها، وقيل: المراد بالأمر بالاقبال والادبار هو الأمر التكويني الايجادي لا التكليفي والاقبال والادبار التزيد والتنقص في كل مرتبة من مراتب القوة العاملة بالقياس إلى العلوم والأخلاق كما وكيفا بحسب كل من الاستعداد الأولي الجبلي في الفطرة الأولى والاستعداد الثاني المكتسب في الفطرة الثانية، فان بالإعمال والتعطيل في الفطرة الثانية يربو ويطف ما في الفطرة الأولى والذي من لوازم الذات هو القدر المشترك السيال بين حدي الربو والطفافة وهو متحفظ غير متبدل ما دامت الذات في مراتب التزيد والتنقص. وفيه: أن تكوينه على قبول الزيادة والنقصان إنما هو في مرتبة تكوين ذاته لا بعده كما يشعر به لفظة «ثم» (ثم قال وعزتي) أي وغلبتي على جميع الممكنات يقال: عزه يعزه بالفتح عزا إذا غلبه والاسم العزة ومنه العزيز من أسمائه تعالى بمعنى القوي الغالب الذي لا يغلب وبمعنى الملك مثل قول إخوة يوسف (يا أيها العزيز) (وجلالي) أي وعظمة شأني وارتفاع قدري ومكاني، ومنه الجليل من أسمائه تعالى بمعنى العظيم المطلق، والواو للقسم وما بعدها مبتدأ وخبره محذوف وهو قسمي (ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك) دل على أن العقل ليس هو أول المجعولات[12] كما زعم. قيل: المحبة ميل القلب إلى ما يوافقه وهي بين الطرفين لما روي عن الصادق (عليه السلام) حين سأله رجل عن رجل يقول: أودك فكيف أعلم أنه يودني فقال: امتحن قلبك فإن كنت توده فإنه يودك»[13] سيما إذا أخبر أحدهما الآخر بحبه له فإنه يوجب حب الآخر للمخبر أيضا كما ورد في بعض الأخبار، ومن ههنا يعلم أن العقل كما كان أحب المخلوقات إلى الله سبحانه كذلك كان سبحانه أحب الموجودات إلى العقل وسبب محبة الشئ إما كونه حسنا في ذاته، أو في الحس كالصور الجميلة. أو في العقل كمحبة الصالحين، أو كونه محسنا يجلب نفعا أو يدفع ضرا، وثمرة محبة الله لخلقه إرادة الخير له وإفاضة رحمته عليه والاحسان إليه بكشف الحجاب عنه وتمكينه من أن يطأ بساط قربه وثمرة محبة الخلق له تعالى وقوفه عند حدوده وحبه لمن أحبه وبغضه لمن أبغضه واستيناسه واستيحاشه عما سواه، وتجافيه عن دار الغرور وترقيه إلى عالم النور، وكأن من أنكر المحبة بينه وبين خلقه وزعم أن ذلك يوجب نقصا في ذاته تعالى أنكر المحبة بمعنى الميل لأن الله تعالى منزه عن أن يميل أو يمال إليه وليس هذا المعنى مرادا هنا بل المراد هنا هي الغايات والثمرات المذكورة لأن ما نسب إليه تعالى مما يمتنع أخذه باعتبار المبادي والحقائق وجب أخذه باعتبار الغايات وقد شاع أمثال ذلك في القرآن العزيز. على أنه قد يقال محبة الخلق له بمعنى ميل العقل ليس بممتنع لأن الميل العقلي إدراك ولا يمتنع ذلك كما لا يمنع العلم به، وإنما الممتنع هو الميل الحسي لاستلزامه أن يكون في جهة والوجه العقلي في كونه أحب المخلوقات إليه أن الطاعة والانقياد مع القدرة على المخالفة أشد من الطاعة بدونها وأدخل في التقرب واستفاضة الرحمة والاحسان منه تعالى. وقيل: الوجه فيه أن المحبة تابعة لادراك الوجود لأنه خير محض، فكل ما كان وجوده أتم كانت خيريته أعظم والإدراك المتعلق به أقوى والابتهاج به أشد فأجل مبتهج بذاته هو الحق الأول، لأن إدراكه لذاته أشد إدراكا لأعظم مدرك له الشرف الأكمل والنور الأنور والجلال الأرفع، فذاته سبحانه أحب الأشياء إليه وهو أشد مبتهج به، ومحبته لعباده راجعة إلى محبته لذاته لأن كل من أحب شخصا أحب جميع حركاته وأفعاله وآثاره لأجل ذلك المحبوب; فكل ما هو أقرب إليه فهو أحب إليه وجميع الممكنات على مراتبها آثار الحق وأفعاله فالله يحبها لأجل ذاته وأقرب المجعولات إليه هو العقل، فثبت أنه أحب المخلوقات إليه. ومن المتكلمين من أنكر محبة الله لعباده زعما منهم أن ذلك يوجب نقصا في ذاته ولم يعلموا أن محبة الله لخلقه راجعة إلى محبته لذاته إنتهى. وفيه نظر من وجوه أما أولا فلان قوله «المحبة تابعة لادراك الوجود، ممنوع وما ذكرناه لاثباته من أن الوجود خير محض مدخول[14] والبحث عنه مشهور مذكور في موضعه، وأما ثانيا فلأن كون العقل المبحوث عنه أقرب المجعولات كلها إليه سبحانه ممنوع[15] وأما ثالثا فلأن المحبة والبغض متقابلان وقد نسب البغض لبعض المخلوقات إليه سبحانه ولا شك أن بغضه له ليس لأجل أنه من آثاره بل لأجل شئ آخر فلم لا يجوز أن لا يكون محبته لخلقه لا لأجل أنه من آثاره بل لأجل شئ آخر[16] وأما رابعا فلأن قوله تعالى (إن الله يحب المحسنين) (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) صريح في أن محبته لهم لأجل إحسانهم وتوبتهم وطهارتهم لا لأجل أنهم من آثاره، ولو أريد أن الاحسان والتوبة والطهارة من فعله وآثاره لرجع هذا إلى قول الأشاعرة ويتسع دائرة المناقشة فليتأمل.
(و لا أكملتك إلا فيمن أحب) دل على أن كمال العقل كأصله حباء من الله جل شأنه ولكن لكسب العبد وعنايته مدخل فيه كما يدل عليه قول موسى بن جعفر (عليه السلام): «من أراد الغنى بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين فليتضرع إلى الله عز وجل في مسئلته بأن يكمل عقله[17]» ويرشد إليه التجربة فإن من نشأ في التعلم وطهارة النفس وصرف القوة العلمية والعملية في تحصيل العلوم والأعمال والأخلاق المرضية ازداد عقله ضوءا ونفسه نورا يكاد يبصر ما تحت العرش وما تحت الثرى، وتلك العناية التي هي من التوفيقات الربانية إنما يتوقف على وجود أصل العقل لا على كماله فلا يلزم الدور.
(أما إني إياك آمر وإياك أنهى وإياك اعاقب وإياك اثيب) «أما» حرف تنبيه يصدر بها الكلام الذي لمضمونه خطر وعناية لتنبيه المخاطب وإيقاظه طلبا لاصغائه، وتقديم المفعول للاختصاص فإن العقل وإن استشعر من الأمر بالاقبال والإدبار أنه مخلوق يتوجه إليه الأمر والنهي لكنه استشعر أيضا بأنه مقارن مع مخلوق آخر فكأنه غفل عن ذلك لشدة شغفه بمخاطبة ربه جل ذكره وتوهم أن الأمر والنهي والثواب والعقاب يتوجه إليه مع مشاركة الغير أو يتوجه إلى الغير وحده لا إليه، فأتى الله سبحانه بحرف التنبيه إيقاظا له عن تلك الغفلة وإظهارا بأن الكامل لا بد من أن لا يصير مغرورا بكماله بل هو دائما يحتاج إلى تنبيه وتذكير وبطريق الحصر دفعا لما عرض له من التوهم وإشعارا بأن القابل للخطاب هو دون غيره وحصر الثواب والعقاب فيه باعتبار أنه بذاته، أو بواسطة قوة وروية فيه منشأ للطاعة والعرفان ومبدء للمعصية والطغيان في مواد الإنسان ومستحق لهما في ضمن تلك المواد. فلا يدل الحديث على ثبوتهما له مجردا عنها أصلا فضلا عن أن يدل على نفي المعاد الجسماني.
وانطباق معنى الحديث على العقل بالمعنى الأول وهو النفس باعتبار التجرد ظاهر، وبالمعنى الثاني وهو حالة النفس وقوتها الداعية إلى الخيرات في المراتب المذكورة يحتاج في قوله «إياك أعاقب وإياك اثيب» إلى تكلف بأن يقال معناه بك أعاقب وبك اثيبت على سبيل التوسع، لأن المعاقب والمثاب هو النفس، أو يقال لما كانت تلك القوة منشأ تكليف النفس نسب الثواب والعقاب إليها على سبيل التجوز والمعنى الأخير وهوا لجوهر النوراني المفارق عن المادة في ذاته وفعله يحتاج في هذا القول وفي قوله: «ولا أكملتك إلا فيمن أحب» إلى تكلف بأن يقال المراد بإكماله أكمال إشراقاته على النفس، وبثوابه وعقابه ثواب النفس وعقابها باعتبار الاستضاءة من مشكاته وعدمها. وقيل:
المراد بالعقل هنا العقل النبوي والحقيقة المحمدية وهو الروح الأعظم المشار بقوله تعالى (قل الروح من أمر ربي) وأحب الخلق إليه استنطقه الله تعالى بعد ما خلقه وجعله ذا نطق وكلام يليق بذلك المقام ثم قال له: أقبل إلى الدنيا واهبط إلى الأرض رحمة للعاملين فأقبل فكان روحه مع كل نبي باطنا ومع شخصه المبعوث ظاهرا، ثم قال له: أدبر يعني أدبر عن الدنيا وارجع إلى ربك، فأدبر عنها ورجع إليه ليلة المعراج وعند المفارقة عن دار الدنيا ثم أعلمه تشريفا وتكريما له بأنه أحب الخلق إليه وآكد ذلك بالقسم، ثم قال: «إياك آمر وإياك أنهى وإياك أعاقب وإياك اثيب» والمراد بك آمر وبك أنهى وبك أعاقب من جحدني وجحدك من الأولين والآخرين وبك اثيب من عرفني وعرفك منهم كل ذلك لأنك سبب للايجاد ولولاك لما خلقت الأفلاك، أو المراد إياك آمر إياك أنهى لأنك ملاك التكليف وإياك اعاقب بحبسك في الدنيا مدة ودخولك في المنزل الرفيع من الجنة وإياك اثيب باعتبار غاية كمالك وكمال قربك ومنزلتك لدينا، ولدينا مزيد والله أعلم بحقيقة كلامه.
*مقتطف من كتاب "شرح أصول الكافي – الملا محمد صالح المازندراني" الجزء الأول
الهوامش:
[1] 1 - قوله «الاستعداد الصرف» وهذه الحالة تسمى عند الفلاسفة بالعقل الهيولاني (ش).
[2] - قوله: «الأوليات» أراد بذلك البديهيات لأنه جعلها مقابلة النظريات، والبديهيات أعم من الأوليات والمشاهدات والمتواترات والحدسيات والتجربيات وقضايا قياساتها معها، وهذه المرتبة تسمى عند الحكماء بالعقل بالملكة (ش).
[3] قوله: «من مرآة الأوليات» القوة التي بها تدرك الأوليات مرآة لادراك النظريات أيضا إذ ينتقل الذهن منها إليها وأدراك النظريات على وجهين: الأول ما يدركها بالبرهان والاستدلال لأول مرة وهي العقل بالفعل في اصطلاحهم، والثاني أن يكون بحيث يراجعها بعد الغفلة عنها لكونها حاضرة في الحافظة فيرجع إليه مهما أراد وهذا هو العقل المستفاد في اصطلاحهم وهي الحالة الرابعة (ش).
[4] - قوله: «في ذات المفيض» وهذا المفيض هو العقل الفعال في اصطلاح الحكماء إذ لا بد لزيادة الصور في أذهان المتفكرين من علة فاعلة ولا بد أن تكون العلة الفاعلة للمعقولات عاقلة تدرك الكليات إذ لا يكون الموجد للشيء فاقدا له ولا بد أن يكون جوهرا مجردا، ثم إن ملاحظة الصور في العقل الفعال أعلى وأكمل من ملاحظتها في النفس فان ما في العقل الفعال بريئة عن شوائب الوهم ومحفوظة عن الخطأ، مصونة عن الغلط بخلاف ما يأخذه النفس عن العقل فيدركه في لوح نفسه فإنه يحتمل اختلاطه بمدركات الوهم والحواس فيدخل فيه الخطأ، وإذا وصل النفس إلى مقام يدرك عين الصور الحاصلة في العقل الفعال وتحقق لديه أنه ادركها فيه لا في نفسه، فهذه الحالة الخامسة التي تكون مدركات الانسان عين الحق ولا تحصل الا للكمل من الأولياء (ش).
[5] - قوله: «روحانيا» هذا نحو من الاتحاد حققه الحكماء الإلهيون والعرفاء الشامخون وللتفصيل فيه محل آخر وهو آخر سير البشر في السلوك إلى الله وعد بعض العرفاء اللطائف سبعة، «وللناس فيما يعشقون مذاهب» (ش).
[6] - قوله: «في ذاته وفعله» هذا تعريف للعقل المجرد في اصطلاح الحكماء وقال المشاؤن: إن العقول عشرة أي نعلم هذا العدد ولا تنكر الزيادة، وقال الاشراقيون: ان عدتهم لا تحصى كثرة ويقال إن العقل أول خلق من الروحانيون، وقد ورد في الحديث كما يأتي ان شاء الله وقال الحكماء: انه أول صادر عن المبدء كما ورد في الحديث وذلك لأن الأشرف مقدم في الوجود ولا ريب أن الموجود العاقل بذاته أشرف من الجماد والحيوان الذي لا عقل له. واعلم ان المجلسي رحمه الله جعل في كتاب الأربعين وغيره من كتبه القول بوجود العقل المجرد مستلزما لانكار كثير من ضروريات الدين وأنكر وجود مجرد سوى الله تعالى (ش).
[7] - قوله: «لان الكثرة من توابع المادة» الكثرة للعدد ويتكثر الشئ اما بالماهية كالحديد فإنه غير الذهب ماهية، واما بالتشخص مثل هذا الحديد في المسحاة وذلك الحديد في القدوم وكلاهما حديد متحدا الماهية.
[8] قوله: «تعلق ذلك الجوهر بالنفس» تعلق العقل بالنفوس المجردة الانسانية نظير تعلق النفس بالبدن وبالجملة العقل الفعال له اشراقات على النفوس وبتلك الاشراقات متحد بالنفس فمثل العقل الفعال والنفوس مثل الشمس وأشعتها. والمجلسي رحمه الله عد أكثر ما حققه الشارح هنا واعترف بامكانه وصحته مخالفا لضروريات الدين (ش).
[9] قوله: «موجد للافلاك» وحاصل كلام الشارح اثبات وجود العقل المجرد الذي يقول به الحكماء واختار في ذلك مذهب صدر المتألهين صاحب الاسفار الأربعة واعترف بامكان اتحاد العقول الجزئية بالعقل الفعال وبأن الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب وغير ذلك من دقائق هذا العلم، واما ما نسبه إلى طائفة من الفلاسفة فكأنه أراد المتفلسفين الجاهلين الذين غاية همهم حفظ الاصطلاحات وسماهم الفارابي الفيلسوف البهرج وإلا فإن تأثير العقل نظير تأثير الدواء في دفع المرض وتأثير الرياح في إثارة السحاب في قوله تعالى (يرسل الرياح فتثير سحابا فكما أن الاعتقاد بتأثير هذا باذن الله ليس كفرا كذلك الاعتقاد بتأثير العقول باذن الله ليس كفرا وتأثيرهم نظير تأثير الملائكة الموكلين بالعقول هم الملائكة والفرق بالاصطلاح (ش).
[10] قوله: «ذلك الجوهر» أي العقل المفارق هو الذي خلقه تعالى أولا ومع ذلك يعد حالة من حالات النفس باعتبار اشراقاته واضاءاته وجنوده التي في النفوس وهذا عين مذهب الفلاسفة إلا أن الشارح تبرأ من طائفة منهم حتى لا يوهم أنه يقلد الفلاسفة تقليدا أعمى فلو كان صرح بأن مذهب الفلاسفة هنا حق لذهب الأوهام إلى تجويز تقليد ملاحدتهم وصار سببا لضلال جماعة عظيمة ولكن صرح بالمعنى وتبرأ من اللفظ، والحق أن أقرب الأقوال إلى قول الملاحدة الماديين قول المجسمة فإنهم لا يعترفون بوجود شئ غير جسم ولا جسماني حتى أن الله تعالى عندهم جسم، وبعد ذلك قول من لا يعترف بوجود مجرد سوى الله تعالى وأبعد الأقوال عنهم قول من أنكر الوجود المستقل للمكن وجعل وجوده كالمعنى الحرفي، وبعد ذلك من أنكر وجود الجسم وجعله مركبا من قوى متحركة كما ذهب إليه أكثر أهل عصرنا وبعدهم من اعترف بوجود الجسم والموجودات المجردة معا (ش).
[11] رواهما الكليني في كتاب الايمان والكفر من الكافي ج ٢ ص ٢٦٨ و 266.
[12] قوله «ليس هو أول المجعولات» سيجيء تحقيقه عند قوله (عليه السلام) «هو أول خلق من الروحانيين» ان شاء الله تعالى (ش).
[13] الكافي كتاب العشرة باب نادر ج 2.
[14] قوله: «خير محض مدخول» هذا شئ مبني على التتبع والاستقراء فانا لا نجد شيئا يسمى شرا إلا لأن العدم دخل فيه بوجه وحقق ذلك نصير الدين الطويي في موضعه (ش).
[15] - قوله: «ممنوع» لا ريب أن الله تعالى عالم بكل شئ والعلم كمال لا كمال فوقه كل موجد يكون علمه أكمل من غيره فهو أقرب إلى الله تعالى، ولا يتصور أن يعتقد أحد أن الجاهل أقرب إليه من عالم ومنع الشارح هنا في غير محله نعم جعل بعضهم رتبة الإنسان الكامل فوق العقل لأنه جامع بين كمال العقل وكمالات أخرى يختص به ولذلك قال العقل المبحوث عنه أي الذي هو بشرط لا عن كمال غيره (ش).
[16] - قوله: «لأجل شئ آخر» لا ينكر أحد محبة الله لأوليائه لأجل عبادتهم تقربهم إليه ولكن له تعالى محبة عامة لجميع خلقه بالرحمة الرحمانية، ومحبة خاصة لخصوص المؤمنين بالرحمة الرحيمية واثبات شئ لا ينفي غيره كما أن غضبه تعالى على الكفار لأجل كفرهم لا ينافي شمول الرحمة العامة لهم في الدنيا بسعة الرزق والدولة وساير النعم وبهذا يدفع المناقشة المذكور بقوله رابعا (ش).
[17] جزء من الخبر الذي يأتي في هذا الباب تحت رقم 12