وَلا يُطلَقُ غيـرَ مُضافٍ إلاَّ عَلَى اللهِ تَعالى,, وَإذا أُطْلِقَ عَلى غَيْرهِ أُضِيفَ اسْماً
فيُقال فُلانٌ رَبُّ البَيتِ,,
فَهُوَ اللهُ الذِي يَجْبِّرُ الخَواطِر لِيَزداد بِهِ المُحسِنُون إحساناً وَيَنْكَفُ بِهِ المُجْرمُونَ
عَنْ سُوءِ أعمالِهِم,,
وَلََفْظُ النِداء فِي القُرآنِ ذُكِرَ عَلى سَبْعَةِ وجُوهٍ: مِنهُ نِداءُ مَدحٍ وَنِدُاءُ ذَّمٍ, وَنِداءُ
تَسْمِيَِة, وَنِداءُ تَنْبيه وَنداءُ إنذار, وَنداءُ إضافَة، وَنِداءُ نِسْبَة، فأما نِداءُ المَدح
هُوَ كَقوْلِهِ تَعالى (يا أيُها النَبِّى)(يا أيُها الرَسُول)(يا أيُها الذِيَن آمَنُوا) أما نِداءُ
الذَّم كَقَوْلِهِ تَعالى قالَ (يا أيُها الذِينَ كَفَرُوا) وَنِداءُ التَنْبيه كَقولِهِ تَعالى (يا أيُها
الإنْسان) (يا أَيُها الناس) وَنِـداءُ الإنـذار كَقولِهِ تَعالى: قالَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) وَنِـداءُ الإضافَة كَقولِهِ تَعالى (ياعِبَادِي) وَنِداءُ النِسْبَة
كَقوْلِهِ تَعالى (يا بَنِي آدَم )(يا بَنِى إسْرائِيلَ)
أما نِداءُ التَسْمِيَة كَقولِهِ تَعالى (يا إِبْرَاهِيم)(يا مُوسى)(يا عِيسى) ثـُمَ أشارَ اللهُ
إلى نِداءِ التَنبِيه: وَقالَ (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) فَجاءَت العِبادَة أمْراً فِي اسْتِفراغِ النَفسِ
امْتِثالاً لِمُطََلَباتِ تَحقِيقِ الغَيبِ, وَالإيمان بالغَيبِ الذِي يَدخِلُ فيهِ التَوحِيدِ بالقَلبِ
الذِي هُـوَ مَحَلُ التَفريدِ بالقَصْدِ الخاشِعُ بِسِّـرِ الطاعاتِ التِي يَحمِلُها دَلِيلُ النَظَـر
بالعَقلِ, وَلَوْ وُجِبَتْ العِبادَة بالشَريعَةِ لأُمِرَ الناسُ أوَلاً بالنَظَر ثَمَ بالتَوحِيدِ وَلِهذا
قالَ اللهُ في كَتابِهِ (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)(البقرة:197)
الآيَةُ هُنا مُسَّوقَة لاثباتِ التَوحِيدِ وَتَحقِيقِ نِبُوَّةِ مُحَمدٍ صَلى اللهُ عَليهِ وآلِـهِ: أنْ
تَعبِِدُوا رَبَّكُم اللهُ الذِي خَلَقَكُم وَأنشَأكُم كَما خَلقَ كُلَّ شَيءٍ, وَكُلُّ شَيءٍ راجِعٌ إليهِ
فاعبِدُوه لَعَلَكُم تُعِدُونَ أنفُسَكُم وَتـُهَيِئُونَها لِطاعَتِهِ لِكَي تَتَطَهَر بفضْلِ عِبادَتِها لهُ
سُبْحانَه إنَهُ هُوَ الرَّبُّ العَظِيمُ الذِي أرْشَدَكُم إلى دَلائِلِ التَوحِيدِ, وَأنارَ لكُم طَريقَ
صِراطِهِ المُسْتَقيم, ثمَ أمَرَكُم لامْتِثالِ أوامِرهِ، واجْتِنابِ نَواهِيه، وَتَصْدِيقِ خَبَره
وَهُوَ خِطابٌ لِمُشْركِي مَكَة وَغيرهِم يُذكِرَهُم اللـَّه الذِي جَعـلَ لَهُم السَماءَ غِطاءً
وَالأرضَ وطاءً، والمُباحاتَ رزقاً، وَالطاعَة حِرفةً وَالعِبادَةَ شُغلاً وَالذِكْرَ مُؤنِساً
وََالعِبُودِيَةُ نَوعان بالقصْرِ وَالمِدِّ: جَمْعُ العَبْدُ كالعِبَادِ وَالعَبِيدِ, وَالقِياسُ أنْ نَكونَ
عِباداً وَعَبيداً للهِ سُبُْحانَهُ وَتعالى, يُقال: أعْبَدْتَهُ جَعَلتَهُ عَبْداً مُطِيعاً لِحُكْمِي,,
وَتَعَّبَدَهُ وَاسْتَعْبَدَهُ: أيْ صَيَّرَهُ اللهَ كَالعَبْدٍ لَهُ,,
فَتُنسَّب عِبُودِيَةِ الناسِ إليهِ عَـزَّ وَجَّـل، فإنَّ المُسْتَحِقَّ لِذلِكَ اللَّهُ هُـوَ رَبُّ العِبادِ
وَالعَبِيد ذلِكَ لِِّما قالَ (رَبُّكُمْ) تَنْبيهاً عَلى أنَ النِداءَ المُوجِبُ لِلعِبادَةِ هِيَّ الرِّبُوبيَةِ
عَلى سَبيلِ الطاعَـةِ وَالتَذلـُلِ وَالاسْتِكانَة,, لأنَ ما يَعقـُبَ العِبُودِيَةُ أمُـورٌ عِـظام
وخُطوبٍ جِسام مِنْ تِلكَ الأوامِرِ وَالنَواهِي التِي هِيَّ فِي جُملَةِ الحَدِيثِ الشَريفِ
بِما يُريدُ الله بِها مِنْ مَعنى الآيَة (يا عِبادِي أعبِدُونِي بِقِلُوبِكُم بالتَوْحِيِد وَالإيمانِ
وَبجَوارِ حِكُم الطاعَةِ وَالإذعانِ وَبأرْواحِكُم بالشِهُودِ وَالعيانِ فأنا الذِي أظْهَرْتَكُم
مِنَ العَـدَمِ أنتـُم وَمَنْ كانَ قَبْلَكُـم, وَأسْبَلْتُ عَلَيْهُـم سَوابِـغَ النِعَـمِ, الأرضُ تَقلـُكُم
وَالسَماءُ تَظِلُكُم، وَالجَهات تَكْتَنِفكُم وَأنزَلْتُ مِنَ السَماءِ ماءً فأخْرَجْتُ بهِ أصْنافاً
مِنَ الثَمَراتِ رِّزقاً لَكُم، فأنتـُم جَوْهَرَة الصِّدق تَنْطَوِّي عَليْكُم أصـْداف مَكْنُوناتِي
وَأنتـُم الذِينَ أطْلَعتَكُـم عَلى أسْـرارِ مَكْنُوناتِي،, فَكَيـفَ يُمَكِنكُـم أنْ تَتَوَجَهُوا إلى
غَيْرِي وَقـد أغنَيْتَكُم بِلَطائِفِ إحسانِي وَبَرِّي، أنْعَمْتُ عَلَيْكُم أوَلاً بالإيجادِ، وَثانِياً
بتَوالِي الإمْدادِ، خَصْصتكُم بنُوِر العَقـلِ وَالفِهْـمِ، وَأشْرَقتُ عَلَيْكُم نبْـذَة مِنْ أنْوارِ
القِدَمِ فَبِّيَ عَرفتِمُونِي وَبقدرَتِي عَبَدتِمُونِي فلا شَريكَ مَعِي وَلا ظَهِيرَ يُظاهِرَني
وَلا احتِياج إلى مُعِينٍ وَلا وَزير,, أنا رَبِكُم اللـَّه الغَفـُورُ الرَحمنُ الرَحيمُ القَـوِّيُ
الْعَزِيـزُ الحَكِيمُ العَلِيـمُ القَدِيـرُ المَـلِكُ القـُدُّوسُ السَّـلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الجَـبَّارُ
المُتَكَبِّر (الَّذِي خَلَقَكُمْ) الجُمْلَةُ هُنا: أُخْرِجَتْ لِلناسِ وَأهْـلِ مَكَـةَ مَخْـرَجَ المُقَـرَر
لاعتِرافِهِم بالخالِقِ الذِي أوْجَدَهُم بَعَد أنْ لَـمْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ, كَما جاءَهُم في
نَظِيرِ قَولِهِ تَعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) يا مُحَمد (مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)(الزخرف87)
لِتَأكِدَهُم بأنَ الخالِقَ هُوَ اللـَّهُ بأدنى عِلْم مِنْهُم, وَقـُرئَ لَهُم قَولِهِ تَعالى (وَالَّذِيـنَ
مِـنْ قَبْلِكُمْ) عَلى وَجْـهِ التَوكِيدِ مِما أوْجَـدَ اللـَّهُ تَعالى مَنْ تَقَـدَمَ عَلى زَمانِكُم مِنَ
البَشَرِ بِنِعمَتِهِ عَلَيْهِم وَعَلى آبائِكُم اللَّذِينَ أنعَمَتـُم بِهِم, فإليهِ الإشارَةُ بِقرآنهِ قال
(أَنْتُم الفـُقَرَاءُ إِلَـى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(فاطر:15)
فِي أسْمائِهِ تَعالى الخالِقُ: هُوَ اللهُ الذِي أوْجَـدَ الأشْياءَ جَمِيعَها بَعدَ أنْ لَـمْ تكُـنْ
مَوْجُودَةً بِخَلقِكُم,, وَأصْلُ الخَـلْق التَّقْدِيـر: فهُوَ باعتِبارِ تَقدِيـرٌ ما مِنهُ وجُودُها
وَباعتِبارِ الإيجادِ عَلى وَفقِ التَقدِيرِ خالِقٍ فَهُوَ مُنشِأَُ الخَلائِق,,
وَالخَلْقُ الناس وَالخَلِيقَةُ البَهائِمُ, وَهُما بمَعنى وَاحِِدٍ وَجَمِيعُ الخَلائِقِ بيَدِهِ تَعالى
(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يعني لَعَلَّكُمْ تَلْبَسُونَ لِباسِ العبُودِيَةِ المُشارُ إليها,وَالتَّقِيَّةُ وَالتُّقاةُ
بمَعنى وَاحِدٍ يُريدُ اللهَ مِنَ الناسِ أنهُم يَتَقُونَ شَرَ النار بعَضُهُم بَعضاً وَيُظْهِرُونَ
الصِلْحَ وَالاتِفاقَ بالإيمانِ بينَهُم وَإليهِ يَعبِدُون،,
وَجاءَت كَلِمَة لَعَلَّكُمْ: لَيْسَتُ هِيَّ مِـنَ اللَّهِ بمَعنى التَرَجِّي أوْ الإشْفاق بِـهِ، وَإنـَما
هِيَّ بمَعنى (كَيْ) تَتَقـُونَ, أوْ لِكَيْ تَتقـُونَ, وَالتَقوَى هِيَّ التَوَّقِّي: أوْ الوقايَة مِنْ
عَذابِ اللـَّهِ بِعِبادَتِهِ, وَالعِبادَةُ لا تَحصَل عِنـدَ الجَهْل تَرَجياً إنَما التَرَجِي بالعِبادَةِ
راجِعٌ إلى العِبادِ لا إلى اللهِ, كَما ذكَرَ فِي قوْلِهِ (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)(طه:44)
وَهُوَ العَبْدُ الذِي يَتَذلَل بِعِبُديَتِهِ لِمَعبُودِهِ وَهُوَ اللهُ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً)
أي مَهَّدَ اللـَّهُ الأرضَ لِلناسِ كَالبِِساطِ المَفرُوشِ الـذِي لا يُنافِي كَرَوِّيَتها لِكَوْنِها
عَظِيمَةٌ, فجَعلَ لِكُلِّ قِطْعَةٍ مِنها كَالسَطحِ فِي إفتِراشِهِ كَالفِراشِ الذِي يَأوِّي إليـهِ
الناس,, هِـذهِ الأرضُ التِـي يَسْتَقِـرُونَ عَليْها,, وَيَنتَفِعُـونَ بالأبنِيَـةِ وَالزراعَـةِ
وَالسِلُوك مِنْ مَحَلٍ إلى مَحَلٍ، وَمِنْ قارَةٍ إلى قارَةٍ,,
وَالمُرادُ مِنْ هَدَف مَعنى الآيَة: هُوَ التَعَلُق بِطاعَةِ اللـَّهِ والاعتِرافُ بنِعمَتِهِ التِي
جَعَلَ مِنها الأرضَ بِساطاً يُمَكِنَهُم لِتَسْتَقِرُوا عَلْيها وَهِيَّ مَبْسُوطَة ساكِنَة دائِمَة
السِكُون وَجَعَلَ لَكُم فِيها الأنْهارُ الجاريَة, وَالأوْدِيَة السَحِيقَة, وَالجِبالُ الشاهِقَة
وَالبحارُ اللُجَج العَمِيقَة فِيها رزقٌ لَكُم مِما تَشتَهُون،,
سُئِلَ الإمامُ عَلي ابن الحُسَين عَليهِ السَلام عَنْ كَيفِيَةِ الأرض كَيفَ تَكُون فِراشاً
فأجابَ مُفَسِراً لِهذهِ الآيَة: قال (جَعَلَهَا مُلاَئِمَةً لِطِبَاعِكُمْ، مُوافِقَةً لأجْسادِكُمْ وَلَمْ
يَجْعَلْهَا شَديدَةَ الْحماء وَالْحَرارَةِ فَتُحِرقَكُمْ، وَلاَ شَدِيـدَةَ البُـرُودَةِ فَتُجْمِدَكُمْ,, وَلاَ
شَدِيدَةَ طيب الرِّيح فَتَصدَعَ هَامَاتِكُمْ، وَلاَ شَديدَةَ النَّتْنِ فَتُعْطِبَكُمْ، وَلاَ شَديدَةَ اللِّيْن
كَالْمَاءِ فَتُغْرِقَكُمْ، وَلاَ شَديدَةَ الصَّلاَّبَةِ فَتَمْتنِعَ عَلَيْكُمْ في دُورِكُمْ وَأَبْنِيَتِكُمْ, وَقـبُورِ
مَوْتَاكُمْ, فَلِذَلِكَ جَعَلَ الأَرْضَ فِرَاشاً لَكُمْ)
وَفِى كِتابِ المَلكُوت قالََ أهْلُ اللُّغةَ: أنَ الارضَ بِساطُ العالَم, وَبسِيطُها مِنْ حَيثُ
يُحِيط بها البَحر الذِي هُوَ البَحرُ المُحِيط أرَبعة وَعشرُونَ ألْف فَرْسَخ لِكُلِّ فرسَخٍ
ثلاثَةُ أمْيال وَهُوَ إثْنا عَشَر ألْف ذِراع بالذَرعِ المُرسِلَة, وَكُلّ ذِراعٍ سِتَ وَثلاثونَ
إصْبعاً لِكُلِّ إصْبعٍ سِتَ حَباتٍ شِعِير مَصْفوفَةً بطُون بَعضَها إلى بَعضٍ فلِلسُودان