بلغة يفهما حتى البسطاء... هذه هي عقيدة "البداء" والحكمة منها
آلمنا أنّ الكلّ، شيعة وسنّة ووهابيّة، في الوقت الذي يقولون فيه بالبداء، ويعتقدون به، ويعظمون الله تعالى من خلاله؛ نرى الجلّ لا يعرف معناه، ناهيك عن حدّه المنطقي أو رسمه العلمي؛ وممّا يؤلم أنّ بعض العلماء قد تعثّرت أقلامهم في توضيحه، لينتج عن ذلك ارتباكاً غير محمود عند هذا الجلّ.
وأكثر من كلّ ذلك أنّ بعض فئات أهل السنّة عدّوا عقيدة البداء من أكبر معايب الشيعة، مع أنّهم في ذات الوقت يتدينون به، بل أنّ بعض علمائهم فيما سنرى أفتى - وإن لم يذكر لفظ البداء - بكفر من لا يقول بمعناه.
إذاً، فما هو البداء بلغة يفهمها حتى بسطاء الناس؟!
فالكلّ يعلم أنّ البداء لغة هو: الظهور، وقد بدا لله تعالى أي ظهر له، لكن ما معنى ظهر لله تعالى وبدا له سبحانه؟!!
ضابطة البداء
البداء ببساطة شديدة جدّاً هو أنّ الله تعالى قضى بعلمه الأزلي المكنون ألّا يُظهِر لعباده، ثواباً أو عقاباً، رحمةً أو غضباً، إلاّ إذا ظهر له من العباد عملاً صالحاً أو سيئاً. هذا هو أصل معنى البداء، وهو مجمع عليه.
من هنا، فإن البداء - بأوجز عبارة هو مجموع الظهورين أعلاه.
إذاً، حقيقة البداء تدور على أنّ الله تعالى قضـى في سابق علمه الأزلي الذي لا يعلمه إلاّ هو، ألّا يظهر لعباده في عالم الابتلاء أيّ شيء من الثواب والعقاب والجزاء، إلاّ إذا أظهر العباد أعمالهم الصالحة أو الطالحة، فهذا متوقف على ذاك توقف المعلول على العلّة، والنتيجة على السبب..
الدليل القرآني على هذه الضابطة
قال سبحانه وتعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) ([1]).
أجمع مفسرو السنة والشيعة أنّ معنى قول الله تعالى: (حَتَّى نَعْلَمَ) أي حتّى يظهر لنا جهاد المجاهدين خارجاً؛ فإذا ظهر لنا جهادهم، أظهرنا رحمتنا بإثابة الصابرين بالنصر والسكينة وحسن العاقبة، لكن إذا ظهر لنا جبن المسلمين وتخاذلهم، فإنّنا سنظهر غير ذلك..
ومن ذلك إجماع الفريقين سنّة وسيعة في تفسير قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ([2]).
فلقد أجمع السنّة والشيعة في تفسيرها أنّه إذا ظهر لله من أهل القرى الإيمان والتقوى، فإنّ الله تعالى سيظهر لهم بركات السماء والأرض، وبالعكس فإذا أظهر أهل القرى التكذيب؛ فإنّ الله تعالى سيظهر لهم عقاباً ونقمة.
ومن البداء ذلك أيضاً ما تواتر عند السنّة والشيعة، أنّ الله تعالى يظهر رحمته بإطالة أعمار من يصل رحمه من عباده، وينقص أعمار من يقطع رحمه.
البداء يتناول التشريع والتكوين
وهل هذا الذي يظهره الله تعالى من الثواب والعقاب، كنتيجة لما يظهره عباده من طاعة أو معصية، مختص بأمور التشريع؛ كالتشديد فيه من قبيل )فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ(([3])، أم يتناول التكوينيات؛ كإطالة الأعمار، ودفع ميتة السوء والأمراض العضال؟!.
الذي عليه جماهير المسلمين أنّه يتناول الاثنين، وإن كان قد تعورف أنّه بالتكوينيات ألصق؛ كإطالة الأعمار ودفع ميتة السوء، ألصق.
الزبدة: فالبداء بعبارة أخرى: هو نسخ في التشريع والتكوين؛ وإنّما قضـى الله أن يظهره ويحكم به سبحانه؛ نتيجة لما يظهره العباد من طاعة ومعصية.
لماذا عقيدة البداء؟!
الجواب التقليدي:
وهو جواب حقّ، موجزه: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ) ([4]).
فلقد قضى الله تعالى - بمقتضى عدله - أن لا يثيب أو يعاقب العباد في الدنيا والآخرة، إلاّ إذا أظهر العباد طاعة أو معصيةً..؛ قال تعالى: (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) ([5])، وقد أجمع المفسرون أنّ معنى قول الله تعالى: (لِنَعْلَمَ) أي ليظهرَ له سبحانه إيمان المؤمن وكفر الكافر خارجاً، حتى لو كان به عالماً أزلاً أبداً.
الجواب التام
الجواب الأوّل، حقّ، لكنه لا يدفع شبعة لغويّة خلق الدنيا؛ فالله تعالى إذا كان عالماً علماً أزلياً بما كان ويكون وما لو كان كيف يكون..؛ قد قدّر مقادير عباده، حتّى صنّف من هم أهل الجنّة ومن هم أهل النّار، قبل خلق الدنيا بكذا ألف سنة، ثمّ كتب ذلك في اللوح المحفوظ أو أمّ الكتاب، جف القلم وطويت الصحف، فما الداعي لخلق الدنيا ونظام الابتلاء، بعد الطوي والجفاف؟!
الجواب التام كامن في مثل قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) ([6]). فلقد قضى الله تعالى أن يمحو أسماء كثيرٍ من أهل النّار من قائمة الأشقياء، ويكتبهم في قائمة السعداء، إذ اللوح المحفوظ فيه مجموع القضاءين المحتوم والمعلّق، وسيأتي التفصيل.
الزبدة
فثمّة حكمة عظيمة مطويّة في البداء؛ تلك الحكمة التي لولاها لكان خلق الدنيا لا معنى له، ولا فائدة منه، لغواً في لغو، وعبثاً في سفه، تعالى الله عن هذا علواً كبيراً..
- من كتاب "البداء بين السنة والشيعة" – صادر عن شعبة البحوث والدراسات – قسم الشؤون الدينية في العتبة الحسينية المقدسة