2- السؤال والطلب "أسألك"
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ، وَبِنُورِ وَجْهِكَ الْمُنِيرِ، وَمُلْكِكَ الْقَدِيمِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرَضُونَ، وَبِاسْمِكَ الَّذِي يَصْلَحُ بِهِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ، يَا حَيَّاً قَبْلَ كُلِّ حَيٍّ، وَيَا حَيَّاً بَعْدَ كُلِّ حَيٍّ، وَيَا حَيَّاً حِينَ لا حَيَّ. يَا مُحْيِيَ الْمَوْتَى وَمُمِيتَ الأَحْياءِ، يَا حَيُّ لا إِلهَ إِلّا أَنْتَ.
في هذا القسم من الدعاء، يقوم الداعي لأجل بيان مسائله ومطالبه بذكر الأسماء والصفات الإلهيّة مرّةً أخرى. وهذا التَكرار للصفات الإلهيّة في هذين القسمين (الأوّل والثاني)، وخصوصاً بعد كلمة "أسألك" إنّما هو لكون الداعي يذكر الأسماء والصفات الإلهيّة المناسبة لحاجته، والتي لا يخلو حتّى تَكرارها من اللطف.
بالتَكرار تحصل الكمالات:
كان أمير المؤمنين (عليه السلام) - أحياناً - يكرّر بعض الألفاظ ليحثَّ بعض الناس على أمرٍ ما, ففي وصيّته (عليه السلام) لأبنائه يكرِّر لفظ الجلالة فيها: "الله الله في الأيتام"، "الله الله في جيرانكم"، "الله الله في القرآن"، "الله الله في الصلاة"...(ظ¥ظ¢).
وكذلك تَكرار الصلاة في كلّ يوم وليلة إنّما هو لأجل أن نقترب من الله تعالى في كلّ يوم خطوة، فالشخص الذي يصعد على درجات السلَّم هو في الظاهر يقوم بتحريك رجله بحركة تَكرارية، لكنّه في الواقع يقطع بكلّ حركة خطوة إلى الإمام، ويرتفع إلى الأعلى. والشخص الذي يحفر بئراً ويضرب بمعوله، هو في الظاهر يقوم بعمل تَكراريّ، لكنّه في الواقع يزيد بكلّ حركة عمقَ البئر.
وكذلك الإنسان فهو بكلّ صلاة وذكر وتلاوة آية، يقترب من الله تعالى خطوة، انتهاءً بالمقام الذي نقرأه حول نبيّنا الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): ï´؟ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىï´¾(ظ¥ظ£).
كما أنّ تَكرار الوصيّة بالتقوى في كلّ من خطبتَي صلاة الجمعة في كلّ أسبوع، هو أحد أوجه دور التَكرار في التربية الدينيّة للناس، بل إنّ بقاء الحياة متوقّف على التنفُّس المتكرِّر. والكمالات إنّما تحصل بالتَكرار، فبمرّة واحدة من الإنفاق والإقدام لا يحصل الإنسان على ملكة السخاء والشجاعة، كما أنّ الرذائل والخبائث تثبت في روح الإنسان من خلال التَكرار.
"اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ"
في هذا القسم من الدعاء، يسأل الداعي ربَّه بأمورٍ عشرة:
ظ،- بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ:
المقصود من هذه الكلمات ليس معناها الظاهريّ, إذ الله تعالى ليس بجسم، كي يكون له وجه. وفي سورة البقرة (الآية ظ،ظ،ظ¥) نقرأ قوله تعالى: ï´؟وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌï´¾، وفي آخر سورة القصص - أيضاً -، نقرأ قوله تعالى: ï´؟كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُï´¾. وعليه:
أوّلاً: وجه الله باقٍ وفي كلّ مكان. لذا، لا بدّ من أن نقصده هو فقط لحاجاتنا. وإذا جعلنا أولياء الله واسطة، فلا بد من أن نعلم أنّهم يقومون بإيصال الفيض الإلهيّ إلينا.
ثانياً: هو كريم. وقد ذُكرت هذه الصفة في القرآن كإحدى الصفات الإلهيّة: ï´؟مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِï´¾(ظ¥ظ¤). والكريم هو العظيم والمعطي.
نعم، يمكن القول إنّ المصداق البارز والكامل لوجه الله الكريم في هذا العصر والزمان هو الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف), لأنّه جاء عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: "وجه الله أنبياؤه ورسله وحججه صلوات الله عليهم، هم الذين بهم يتوجّه إلى الله وإلى دينه ومعرفته"(ظ¥ظ¥).
وفي دعاء الندبة - أيضاً - نقرأ في وصف إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف): "أين وجه الله الذي إليه يتوجّه الأولياء".
ظ¢- وَبِنُورِ وَجْهِكَ الْمُنِيرِ:
يخاطب الإمام الحسين (عليه السلام) الله تعالى في دعاء عرفة بهذا الخطاب: "فأسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الأرض والسماوات"(ظ¥ظ¦).
وفرقٌ بين نور الوجه وبين الوجه الوارد في الجملة السابقة، فالله تعالى نور ومنوِّر أيضاً، وكلّ نور العالم هو انعكاسُ نور جماله. فالنور فقط هو الله تعالى، وهو الذي يعطي النور لمن يشاء ويجعله نورانيّاً. وكلّ فرد بمقدار ما يكون مقرّباً من الحضرة الإلهيّة يصير منيراً. لذا، وصف النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في القرآن بأنّه منير، ï´؟يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًاï´¾(ظ¥ظ§).
في هاتين الآيتين بيانٌ لدور النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في المجتمع، فهو سراج هداية، ونوره سبب تكامل المجتمع وحركته وبروزه (سراجاً منيراً). واليوم، فإنّ المخلوق الوحيد في هذه الدنيا الذي اكتسب نوره من الله تعالى في المرتبة الأعلى، والذي يعطي النور لمن سواه، هو آخر ورثة النبيّ، الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
ظ£- وَمُلْكِكَ الْقَدِيمِ:
الله تعالى هو المالك وهو مَن بيده جميع أمور عالم الوجود، ï´؟للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِï´¾(ظ¥ظ¨).
إنّ كلمة "الملِك" في اللغة تعني الحاكم ومَن بيده زمام الأمور. وفي الآيات والروايات دلالات عدّة على الملك القديم لله تعالى، ففي سورة التوحيد -مثلاً- نقول: ï´؟وَلَمْ يُولَدْï´¾(ظ¥ظ©)، بل هو أزليّ وليس حادثاً وُجِد من شيء آخر. وفي القصص الإنشاديّة يقولون: كان يا ما كان، في قديم الزمان، غير ربّ السماء لم يكن أحد قد كان, أي أنّ الله هو القديم.
وفي سورة الحديد (الآية ظ¢)، نقرأ قوله تعالى:
ï´؟لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌï´¾.
ظ¤. يا حيّ يا قيّوم:
في آية الكرسيّ، نقرأ قوله تعالى: ï´؟اللهُ لا إِلَهَ إِلّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُï´¾.
يفترق معنى الحياة في حقّ الذات الإلهيّة عن معناها في حقّ الآخرين، وهي كسائر الصفات الإلهيّة لا تقبل الانفكاك عن الذات، فلا طريق لطروء الفناء عليه تعالى: ï´؟وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُï´¾(ظ¦ظ*)، فهو سبحانه لا يحتاج في حياته إلى الغذاء، وتوليد المثل، والجذب والدفع، "يا حيُّ الذي ليس كمثله حيّ"(ظ¦ظ،).
وبما أنّ اسم الـ "حيّ" قد تكرَّر في الفقرات الآتية من هذا الدعاء، فسيجيء مزيد من التوضيح له، إن شاء الله.
أمّا اسم "القيُّوم" فهو من القيام، والقيام والقِوام: اسمٌ لما يقوم به الشيء, أي يثبت، كالعِماد والسِّناد: لما يُعمد ويُسند به(ظ¦ظ¢).
وقد جاءت كلمة "قيُّوم" ثلاث مرّات في القرآن الكريم، وفي كلّ مرّة من هذه المرّات الثلاث كانت تأتي معها كلمة "حيّ".
وقيام الله تعالى بنفس ذاته، وأمّا قيام سائر الموجودات فبوجوده سبحانه.
والمراد من القيوميّة الإلهيّة هو تسلّطه سبحانه وحفظه وتدبيره الكامل لمخلوقاته. وقيامه تعالى دائم ومحيط من كلّ جانب: يخلق، ويرزق، ويهدي، ويميت، ولا يغفل أبداً.
ثمّ إنّ كلّ موجود حيّ يحتاج في بقائه حيّاً إلى منبع الفيض، كالضوء الذي يحتاج لبقاء نوره إلى الاتصال بالكهرباء. وهكذا جميع الموجودات تحتاج في حياتها إلى "الحيّ"، ولاستمرار بقائها إلى الاستمداد من "القيُّوم".
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "كلّ شيء خاضع له، وكل شيء قائم به"(ظ¦ظ£).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه في معركة بدر كان يكرِّر في سجوده: "يا حيّ يا قيّوم"(ظ¦ظ¤).
ظ¥- أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرَضُونَ
مرّة أخرى يؤكِّد الداعي الطلب باسم الله: "أسألك باسمك الذي..."، يعني أنّني أطلب العون منك فقط، وأنت معتمدي ومعشوقي فقط, لأنّ جميع مَن في هذا العالم راجع إلى الله سبحانه. والأنبياء إنّما جاؤوا ليرجعوا الناس إلى الله تعالى، فالتوحيد معناه أنّ أصل وأساس ومنبع هذا الوجود هو الله تعالى.
في هذه الفقرة يقوم الداعي مرّة أخرى بالتوجّه إلى التوحيد بصورة خاصّة، ويسأل المولى تعالى باسمه الذي "أشرقت به السموات والأرضون".
ويناسب هذه الفقرة من الدعاء، قوله تعالى في (الآية ظ¦ظ©) من سورة الزمر التي تتحدّث عن إشراق يوم القيامة: ï´؟وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَï´¾.
وقد قيل: إنّ إشراق الآخرة بنور الله ليس معناه أنّ الدنيا خالية من النور الإلهيّ، بل الدنيا كالآخرة -أيضاً- مشرقة بنور ربّها، لكن بسبب خصائص الدنيا وأحكامها، فإنّ هذا النور غير مشاهد، وأمّا في الآخرة فسوف يتجلّى النور الإلهيّ بالكامل، وسيقف عليه الجميع ويشاهدونه.
نقرأ في تفسير أطيب البيان(ظ¦ظ¥): بما أنّ نور الشمس والقمر يوم القيامة يأفلان، فالمراد من "نور الربّ" النور الذي يشع من المؤمنين، ثمّ يذكر شاهداً على ذلك هذه الآية: ï´؟يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْï´¾(ظ¦ظ¦).
ومن هذه الآية وهذا التفسير يمكن أن نستنتج: أنّ النور المشرق على الوجود يمكن أن يكون نور المعصوم الذي يستمدّ نوره من نور الله تعالى، وعلى هذ الأساس فالنبيّ وأهل بيته (عليهم السلام) سواء في الدنيا أم الآخرة هم نور الله الذي أشير - أيضاً - في زيارة الجامعة الكبيرة إلى تجلّيه: "وأشرقت الأرض بنوركم"، وهو ما ينسجم مع هذه الفقرة من الدعاء.
ولا بدّ من أن يُعلم، أنّه بناء على ما يعتقد به الشيعة، فإنّ أهل البيت (عليهم السلام) هم أعظم تجلّيات النور الإلهيّ، وإنّ نورهم يشرق ويهدي بنور الله تعالى.
وفي هذا المجال، ورد في مقطع لبعض الأحاديث الطويلة والجميلة قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "ثمّ أظلمت المشارق والمغارب، فشكت الملائكة إلى الله تعالى أن يكشف عنهم تلك الظلمة، فتكلّم الله جلّ جلاله كلمةً فخلق منها روحاً، ثمّ تكلّم بكلمة فخلق من تلك الكلمة نوراً، فأضاءت النور إلى تلك الروح، وأقامها مقام العرش فزهرت المشارق والمغارب، فهي فاطمة الزهراء, ولذلك سمّيت الزهراء لأنّ نورها زهرت به السماوات"(ظ¦ظ§).
نعم، الآية المذكورة فسرت وأولت في الروايات بقيام الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أيضاً، وفي الحقيقة هو نوع تشبيه وتأكيد على هذا الأمر، وهو أنّه عند قيام الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ستصبح الدنيا كصورة ونموذج عن يوم القيامة، وسيسود العدل ويحكم العالم بوساطة هذا الإمام.
يبين الإمام الصادق (عليه السلام) تغيُّر العالم في زمان ظهور الإمام صاحب العصر والزمان في ظلّ الآية الشريفة: ï´؟وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَاï´¾(ظ¦ظ¨), بقوله: "إنّ قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور ربّها..."(ظ¦ظ©).
ظ¦- وَبِاسْمِكَ الَّذِي يَصْلَحُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ:
السؤال والطلب من الله تعالى بهذه الكلمات موجود - أيضاً - في أدعية أخرى. يقول الإمام الحسين (عليه السلام): "فأسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الأرض والسماوات، وانكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين..."(ظ§ظ*).
وكلّ فرد بمقدار ما يصبغ حياته بلون المهدويّة، فإنّه بذلك المقدار يكون نصيب انتفاعه واستفادته كما في الفقرة السابقة، لا يبعد أنّ ذاك الاسم الذي يصلح به الأولون والآخرون، هو مقام الإنسان الكامل والخليفة الإلهيّ, لأنّ الله تعالى جعل الحجّة والإمام قبل الخلق، ومع الخلق، وبعد الخلق، ولا تخلو الأرض في زمان منه أبداً. فإنّ الوجود المقدّس الحاضر في حياة كلّ فرد، والحافظ له عن الفساد، والموصل له إلى الصلاح، هو الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف), وبعبارة أخرى: إنّ المهدويّة هي سبب رشد وارتقاء وتربية الفرد والمجتمع. واليوم، ليس للحياة أيّ طريق للنجاة والإصلاح إلّا بالأمل به وذكر اسمه. وكلّ فرد بمقدار ما يصبغ حياته بلون المهدويّة، فإنّه بذلك المقدار يكون نصيب انتفاعه واستفادته.
دور حجّة الله في الحياة:
المنتظِر، في هذه الفقرة، يترنّم بهذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ حياته لا بدّ من أن تكون مورد رضى وليّ العصر (عجل الله تعالى فرجه الشريف), لأنّ دور حجّة الله في الحياة أنّه ينجي الإنسان من الفساد، ويوصله إلى الصلاح والفلاح. جاء في زيارة الجامعة الكبيرة: "بموالاتكم... وأصلح ما كان فسد من دنيانا". حقيقةً، إنّ كلّ فرد يوفَّق في حياته، ويصل إلى الرشد والصلاح، إنّما يوفّق ويصل إلى تلك النعمة والقيمة العظيمة بوساطة حجّة زمانه (عليه السلام).
ظ§- يَا حَيّاً قَبْلَ كُلِّ حَيٍّ، وَيَا حَيّاً بَعْدَ كُلِّ حَيٍّ، وَيَا حَيّاً حِينَ لا حَيَّ:
ثمّة تأكيد خاصّ على الحياة الإلهيّة المتعالية في الأدعية، وقد جاءت هذه المسألة في المقطع السبعين من دعاء الجوشن الكبير على الشكل الآتي:
"يا حيّاً قبل كل حيّ، ويا حيّاً بعد كل حيّ، يا حيّ الذي ليس كمثله حيّ، يا حيّ الذي لا يشاركه حيّ، يا حيّ الذي لا يحتاج إلى حيّ، يا حيّ الذي يميت كل حيّ، يا حيّ الذي يرزق كل حيّ، يا حيّاً لم يرث الحياة من حيّ، يا حيّ الذي يحيي الموتى، يا حيّ يا قيّوم لا تأخذه سنة ولا نوم"(ظ§ظ،).
أمّا لماذا تكرّر هذا الاسم في دعاء العهد أربع مرّات، ثمّ أُشير بعده إلى مسألة الإحياء والإماتة؟ هل من الممكن أن يكون ذلك مرتبطاً ببحث الرجعة الوارد في هذا الدعاء العظيم؟ يبدو أنّ التأكيد على هذه المسألة لا يخلو من ارتباط بذلك.
ظ¨- يَا مُحْيِيَ الْمَوْتَى:
من يحيي مرّة يمكنه أن يحيي مرّات أخرى: ï´؟يُحْيِي الْمَوْتَىï´¾(ظ§ظ¢).
وجاء في سورة النجم (الآية ظ¤ظ¤) أيضاً: ï´؟وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَاï´¾.
نعم، من كان لديه حُكم كامل على جميع الوجود، فله القدرة - أيضاً - على الإحياء والإماتة: ï´؟لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُï´¾(ظ§ظ£).
وقد بيّنت الآيات القرآنية ذلك أيضاً، فمثلاً في سورة العنكبوت (الآية ظ،ظ©)، نقرأ قوله تعالى: ï´؟أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌï´¾.
في النتيجة:
ظ،- عالم الوجود مظهر تجلّي قدرة الله تعالى في إيجاد ظواهر الحياة والموت: ï´؟يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُï´¾.
ظ¢- الخلق والإماتة وإعادة الإحياء, هي أفعالٌ دائمة له تعالى: ï´؟يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُï´¾, إذ إنّ فعل المضارع ï´؟يُبْدِئُï´¾, وï´؟يُعِيدُهï´¾ يدلّ على الاستمرار والدوام.
ظ£- لخلق الأوّل وإعادة الإحياء يوم القيامة أمران يسيران بالنّسبة إلى الله, فلا يحتاجان إلّا إرادته سبحانه: ï´؟إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌï´¾.
ظ©- وَمُمِيتَ الْأَحْيَاءِ:
نقرأ في القرآن الكريم أنّ الموت والحياة هما تجلّيان للربوبيّة الإلهيّة: ï´؟وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَىï´¾(ظ§ظ¤), ï´؟وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ï´¾(ظ§ظ¥), وجاء في سورة يونس (الآية ظ¥ظ¦): ï´؟هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَï´¾.
لقد أشار النبيّ إبراهيم (عليه السلام)، في مجال التعريف والاستدلال على وجود الله تعالى، إلى هذه المسألة: ï´؟أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُï´¾(ظ§ظ¦).
ونقرأ في سورة الروم (الآية ظ¤ظ*) قوله تعالى: ï´؟اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَï´¾.
وقد أُشير، في هذه الآية، إلى أربع صفات إلهيّة، بحيث إنّ كلّ واحدة منها كافية لتسليم الإنسان وعبوديّته. فخلق الإنسان دليل مستقلّ على لزوم العبودية على الإنسان: ï´؟اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْï´¾(ظ§ظ§), والرزق الإلهيّ دليل على لزوم العبوديّة: ï´؟فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفï´¾(ظ§ظ¨), والإماتة والإحياء - أيضاً - كلّ واحدة منهما دليل على لزوم تعبّد الإنسان وتسليمه لربّه تبارك وتعالى: ï´؟اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْï´¾(ظ§ظ©).
ونقرأ في سورة غافر (الآية ظ¦ظ¨) أيضاً: ï´؟هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُï´¾.
وفي النتيجة:
ظ، - الإماتة والإحياء بيده تعالى فقط: ï´؟هُوَ الَّذِيï´¾.
ظ¢ - قدرته تعالى على الإحياء والإماتة واحدة: ï´؟يُحْيِي وَيُمِيتُï´¾.
ظ،ظ*- يَا حَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ:
في هذه الفقرة ذُكرت وحدانيّته تعالى، وسنوضح بعض الأمور المتعلّقة بها:
جاء في القرآن الكريم شعار التوحيد مكرّراً وببيانات مختلفة، مثل: ï´؟لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُï´¾(ظ¨ظ*), ï´؟لاَّ إِلَهَ إِلّا هُوَï´¾(ظ¨ظ،), ï´؟لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَï´¾(ظ¨ظ¢), ï´؟لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَاï´¾(ظ¨ظ£).
"لا إله إلّا الله"، هي أوّل صفحة في هُويّة أيّ مسلم. وأوّل شعار وأوّل دعوة لنبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت بهذه الجملة: "قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا"(ظ¨ظ¤)، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً: "من قال لا إله إلّا الله مخلصاً دخل الجنّة، وإخلاصه بها أن تحجزه لا إله إلّا الله عمّا حرّم الله"(ظ¨ظ¥).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "قول لا إله إلّا الله ثمن الجنّة"(ظ¨ظ¦)، وفي الحديث القدسيّ المنقول عن الإمام الرضا (عليه السلام): "كلمة لا إله إلّا الله حصني"(ظ¨ظ§).
نعم، التوحيد أساس نجاة الإنسان وخلاصه، لكن بالشروط اللازمة المذكورة في محلّها.
يقول العارف الواصل المرحوم الحاج الميرزا جواد الملكيّ التبريزيّ:
"كان لي شيخ جليل عامل عارف كامل (قدّس الله تربته) - لعلّه المرحوم الآخوند ملّا حسين قلّي الهمدانيّ - ما رأيت له نظيراً... سألته عن عمل مجرّب يؤثّر في إصلاح القلب وجلب المعارف، فقال (قدّس سرّه): ما رأيت عملاً مؤثّراً في ذلك مثل المداومة على سجدة طويلة في كلّ يوم مرّة واحدة، يقال فيها: ï´؟لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَï´¾(ظ¨ظ¨). يقوله وهو يرى نفسه مسجونة في سجن الطبيعة، ومقيّدة بقيود الأخلاق الرذيلة، مقرّاً بقوله: إنّك لم تفعل ذلك بي وتظلمني، وأنا الذي ظلمت نفسي وأوقعتها في هذه الحال...(ظ¨ظ©).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) - أيضاً - في دعاء كميل: "لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك، ظلمت نفسي وتجرّأت بجهلي".
إنّ الإقرار والاعتراف بالوحدانيّة موجود في مواضع كثيرة من الأدعية، ويمكن القول تقريباً: إنّ أحد آداب الدعاء هو هذه المسألة.
من كتاب شرح دعائ العهد للشيخ محسن قرائتي
مركز الدراسات التخصصية ف الامام المهدي عليه السلام