اللَّهُمَّ إِنِّي أُجَدِّدُ لَهُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِي هذَا، وَمَا عِشْتُ مِنْ أَيَّامِي، عَهْداً وَعَقْدَاً، وَبَيْعَةً لَهُ فِي عُنُقِي، لا أَحُولُ عَنْهَا وَلا أَزُولُ أَبَداً.
العهد والميثاق مع إمام العصر (عجل الله تعالى فرجه الشريف):
"العهد" في حياة المنتظِر لا بدّ من أن يكون موجوداً بشكل دائم. فعندما تُصمَّم الحياة على أساس الانتظار، فالعهد سيكون دائميّاً ومستمرّاً، والمنتظِر الواقعي هو الذي لا يحول عن عهده مع إمامه.
إن قراءة هذا الدعاء في صبيحة كلّ يوم توجب أن لا ننسى - أكثر من أيّ أحد - أنّنا عاهدنا إمامنا، ولا بدّ من حفظ هذا العهد, لأنّ هذا العهد أولى من أيّ عهد آخر.
العهد مع إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يعني أن تكون الحياة مبنيّة على أساس رضى الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف). والشخص الذي يمدّ يد البيعة لإمامه، لا يأخذ بعين الاعتبار إلّا رضى إمامه, وعليه فالعمل المبنيّ على أساس التوجُّه وطلب رضى الإمام لا بدّ من أن يكون هو أولويّة المنتظرين.
مقامات عهد المنتظرين:
في هذا القسم من الدعاء، يبيّن المنتظرون للإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) عهدهم في مقامات عدّة:
١- اللَّهُمَّ إِنِّي أُجَدِّدُ لَهُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِي هَذَا:
الميثاق مع الإمام من هدايا يوم الغدير القيّمة, فعندما نصَّب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين (عليه السلام) في يوم الغدير، كان على المسلمين أن يقوموا بوظيفتهم ويبايعوه. كذلك الحال في كلّ واحد من الأئمّة عند تسلُّم الإمامة، كان على الناس أن يبايعوه.
البيعة مع الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) كانت في التاسع من ربيع الأوّل عام ٢٦٠ للهجرة (أي بعد شهادة أبيه الإمام العسكريّ (عليه السلام))، ومع ذلك يلاحظ في هذا القسم الحديث عن تجديد العهد والبيعة, لأنّ المنتظرين الحقيقيّين هم من يجدّدون العهد والبيعة مع إمام زمانهم في كلّ يوم.
٢- وَمَا عِشْتُ مِنْ أَيَّامِي:
العلاقة مع الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، في هذا الدعاء، تتجدّد دائماً, لأنّ الداعي يقول: "في يومي هذا وفي كلّ يوم".
أحياناً يقول لك شخصٌ: "أنا أحبّك"، ثمّ يغيب عن الأنظار ولا تعود تسمع له حسّاً. وتارةً، هناك شخصٌ يتّصل بك كلّ يوم ويقول: "فلان، أنا أحبّك".
في هذا الدعاء، يقول الداعي: أيّها المهديّ الحبيب، اليوم وفي كلّ يوم، أجدّد بيعتي لك. في عهدي وعقدي وبيعتي لإمام زماني لن أسمح لشيء من داخلي أنْ يغيّرني، ولن أضعف أمام أيٍّ من الشدائد والظروف.
٣- عَهْداً وَعَقْداً وَبَيْعَةً:
يا إمام زماننا، نحن نعاهدك، بل أكثر من ذلك، نعقد معك عقداً، بل أكثر من ذلك أيضاً، نبايعك على أن كلّ ما تطلبه منّا سننفّذه، وسنكون كما تريد.
قيل: إنّ "العهد" هو الحدّ الأقل، و"العقد" هو الحدّ المتوسط، و"البيعة" هي الحدّ الكامل للارتباط بالإمام. فالعلاقة في هذا الدعاء تتّجه بنا نحو الرشد, لأنّ الداعي في البداية يقول: أنا أعاهدك، ثمّ أجري معك عقداً، ثمّ أبايعك. فقد يقوم شخصان بتشكيل عهد بينهما ويعد أحدهما الآخر، ولكن لا يجريان عقداً، ويمكن أن يتحقّق عهدٌ وعقد، ولكن لا يوجد تسليم، بينما في الدعاء يقول الداعي: "وبيعةً"، يعني تسليماً. فقوله: "عهداً" يعني التعهّد للإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وقوله: "عقداً" يعني إجراء العقد مع إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وقوله: "وبيعةً" يعني البيعة له (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
٤- لَهُ فِي عُنُقِي:
العلاقة في هذا الدعاء حتميّة, لأنّ الداعي يقول: إنّ هذه العلاقة في رقبتي، وكم هو جميل إبراز هذه العلاقة! يقول: "في رقبتي"، فمن الممكن أن يكون للشخص علاقةٌ ما بآخر، ولكنّه لا يفتخر بها.
٥- لا أَحُولُ عَنْهَا:
الحَول بمعنى التغيير والتبديل. وفي هذه الفقرة من الدعاء والتي تليها، علامة على ثبات قدم المنتظِر, لأنّ إحدى السمات الأساس للحياة المهدويّة هي الصمود في مسير الحقّ، والثبات على الصراط المستقيم في الحوادث والوقائع وعند بروز الفتن.
٦- وَلَا أَزُولُ أَبَدَاً:
الزوال بمعنى الانعدام وذهاب الشيء. وهذه العبارة تعني أنّني في عهدي وعقدي وبيعتي لإمام زماني لن أسمح لشيء من داخلي أنْ يغيّرني، ولن أضعف أمام أيٍّ من الشدائد والظروف الخارجيّة التي قد تعوق حركتي. فأنا في مسيري هذا سأبقى ثابتاً وصامداً ولن أنكث بعهدي، فالوفاء بالعهد من صفات المؤمنين. اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَنْصَارِهِ وَأَعْوَانِهِ وَالذَّابِّينَ عَنْهُ، وَالْمُسَارِعِينَ إِلَيْهِ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ، وَالْمُمْتَثِلِينَ لأَوَامِرِهِ، وَالْمُحَامِينَ عَنْهُ، وَالسَّابِقِينَ إِلَى إِرَادَتِهِ، وَالْمُسْتَشْهَدِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ.
في هذا الدعاء، بعد السلام على الإمام وتجديد العهد معه (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، نطلب من الله تعالى ثمانية مقامات لأجل الوصول إلى الأهداف العالميّة:
وعلى أساس هذه التعاليم، ينبغي للمنتظِر أن يبني حياته، ليكون من أنصار الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف). ولازم هذه النصرة هو معرفة إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فمن يريد أن ينصر الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) عليه أن يتعرّف على أهداف الإمام أوّلاً.
أما مفاد هذا القسم من الدعاء، فهو:
١- اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَنْصَارِهِ:
الحياة المهدويّة تتّخذ شكلها وطابعها على أساس نصرة الحجّة.
وقد جاء في القرآن الكريم حول نصرة أولياء الله قوله تعالى في سورة آل عمران (الآية ٨١): ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾.
وعلى هذا الأساس، الإيمان وحده ليس كافياً، بل لا بدّ من النصرة والدفاع. فالمنتظِر للإمام مع كونه معتقداً به، لا بدّ من أن يطيع - أيضاً - في مقام العمل، وأن يقوم بنصرته ومؤازرته.
شيعتنا حواريّونا:
ونقرأ في سورة آل عمران (الآية ٥٢) قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.
كلمة "الحواريّون" تُطلق على الأنصار الخاصّين للنبيّ عيسى (عليه السلام)، وقد كانوا اثني عشر شخصاً. وأصل هذه الكلمة مأخوذ من "الحور" بمعنى النقاء والبياض الخالص. وقد أطلق عليهم هذا الاسم إمّا لكونهم كانوا يلبسون اللباس الأبيض وقلوبهم نقيّة بيضاء، وإمّا لكون باطنهم نقيّاً أبيض، وكانوا يدعون غيرهم ليكون نقيّاً مثلهم.
عن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ حواريّي عيسى (عليه السلام) كانوا شيعته، وإنّ شيعتنا حواريّونا، وما كان حواريّو عيسى بأطوع له من حواريِّينا لنا، وإنّما قال عيسى (عليه السلام) للحواريّين: ﴿قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ﴾. فلا - والله - ما نصروه من اليهود ولا قاتلوهم دونه، وشيعتنا – والله -لم يزالوا منذ قبض الله عزَّ ذكره رسولَه (صلى الله عليه وآله وسلم) ينصروننا، ويقاتلون دوننا، ويُحرَقون ويعذَّبون ويشرَّدون في البلدان، جزاهم الله عنّا خيراً"(١٤٠).
مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله؟
جاء في سورة الصف (الآية ١٤) قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾.
وفي هذه الآية ثمّة بعض النكات، وهي:
١- على المؤمن أن يسير نحو الكمال خطوة خطوة, ففي الآيات التي سبقت هذه الآية ثمّة دعوة إلى التجارة مع الله تعالى، بينما في هذه الآية ثمّة دعوة إلى مرتبة أعلى، فهي تدعو المؤمن بشكل رسميّ إلى أن يكون من "أنصار الله", ﴿كُونوا أَنصَارَ اللهِ﴾, أي أن يكون حاضراً دائماً لنصرة الدين وأولياء الله.
٢- إنّ الله تعالى غنيٌّ عن نصرنا, لأنَّ الانتصارات كلّها منه سبحانه, ﴿نَصْرٌ مِّنَ اللهِ﴾. فالكون من أنصار الله - في حدّ نفسه - فخر بالنسبة إلينا.
٣- إنّ الأنبياء الإلهيّين (عليهم السلام) يريدون الناس لله، لا لأجل أنفسهم أو لأجل جماعة أو حزب, ﴿مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ﴾.
٤- يسلك الأنبياء (عليهم السلام) في مجال الغلبة على الأعداء الطرق العاديّة والطبيعيّة، ويستفيدون من الأسباب الظاهريّة وقوّة الناس, ﴿مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ﴾.
٥- على القائد أن يكون لديه تقييمٌ دقيقٌ عن أنصاره, ﴿مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ﴾.
٦- أخذ الإقرار من الأنصار نوعٌ من تجديد البيعة وإعلان الوفاء, ﴿مَنْ أَنصَارِي﴾، ﴿نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ﴾.
٧- لا بدّ من إجابة دعوة القادة الدينيّين, ﴿مَنْ أَنصَارِي﴾، ﴿نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ﴾.
٨- الإنسان مختار في أن يقبل دعوة الأنبياء (عليهم السلام) فيسعد، أو يردّها فيشقى, ﴿فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ﴾, ﴿وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ﴾.
٩- لا يؤمن جميع الناس - عادةً - بدعوة نبيّ واحد، بل بعضهم يؤمن وبعضهم يكفر. ونحن علينا أن لا نتوقّع أن يؤمن جميع الناس أيضاً, ﴿فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ﴾, ﴿وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ﴾.
١٠- إنّ معرفة القوّات الوفيّة، والتخطيط المسبَّق لها، وتوجيهها، والفصل بين جبهة الحقّ وجبهة الباطل، ضروريّ للقائد ولاستمرار حركته, ﴿مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ﴾.
١١- إنّ تجديد البيعة مع القائد الإلهيّ، له قيمة سياسيّة واجتماعيّة ودينيّة, ﴿مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ﴾.
١٢- إنّ نصرة المنادين الإلهيّين هي نصرة لله تعالى, ﴿نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ﴾.
١٣- ثمّة قيمة عالية للسبق في الدفاع عن القادة الدينيّين، فمع أنّ عيسى (عليه السلام) كان لديه أتباع، ولكن الله تعالى امتدح إيمان الحواريّين، وذلك لسابقتهم وصراحتهم, ﴿مَنْ أَنصَارِي﴾، قالوا: ﴿نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ﴾.
٢- وَأَعْوَانِهِ:
أكّدت الآيات والروايات على تقديم الإعانة والمساعدة للمسلمين والمؤمنين، وأوصت بذلك، وذكرت في هذا المجال الثواب الجزيل. وبناءً عليه، فلو أنّ شخصاً قدّم العون لأعظم فرد في هذا الوجود، فأيّ قدر لهذا العمل سيكون حينئذٍ؟
أحد مصاديق الإعانة للإمام هي الإعانة المادّيّة, فعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ الخمس عونُنا... فلا تزووه عنّا، ولا تحرموا أنفسكم دعاءنا ما قدرتم عليه"(١٤١).
وعن إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أنّه قال: "فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه، فكيف يحلّ ذلك في مالنا؟! مَن فعل شيئاً من ذلك لغير أمرنا فقد استحلّ منا ما حُرّم عليه، ومَن أكل من مالنا شيئاً فإنّما يأكل في بطنه ناراً وسيصلى سعيراً"(١٤٢).
الشخص المنتظِر، الذي يريد الدفاع بتمام وجوده عن الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، عليه أن يعرف أعداءه وجنوده، وأن يتحلّى بالبصيرة المطلوبة
ونقرأ في بعض الروايات: "لا يُعذر عبدٌ اشترى من الخمس شيئاً أن يقول: ربّ اشتريته بمالي، حتّى يأذن له أهل الخمس"(١٤٣).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "لا يحلّ لأحد أن يشتري من الخمس شيئاً حتّى يصل إلينا حقُّنا"(١٤٤).
ويقول الإمام الخميني (قدّس سرّه) في (تحرير الوسيلة): "ومن منع منه درهماً كان من الظالمين لهم والغاصبين لحقِّهم"(١٤٥).
٣- وَالذَّابِّينَ عَنْهُ:
الدفاع عن الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) هو أحد دروس الحياة المهدويّة التي يقدّمها لنا هذا الدعاء.
فالدفاع عن المعصومين أمر واجب، ويجب أن لا يُسمح للأيدي السيّئة باستهدافهم والنيل منهم.
والدفاع عن العظماء له مظاهر عدّة, تارةً يكون باللسان، وأخرى بالقلم، وثالثة بالسيف.
وعن الإمام الحسين (عليه السلام): "هل من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله؟".
فالشخص المنتظِر، الذي يريد الدفاع بتمام وجوده عن الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، عليه أن يعرف أعداءه وجنوده، وأن يتحلّى بالبصيرة المطلوبة. فاليوم مَن يقوم بتحريف المهدويّة الأصيلة وتغييرها، هو في صدد العداء مع الإمام، كما أنّ من يحارب فرع هذه الشجرة - شجرة طوبى - أي ولاية الفقيه، هو عدوٌّ أيضاً.
٤- وَالْمُسَارِعِينَ إِلَيْهِ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ:
في هذا الفقرة من الدعاء، لا نطلب من الله تعالى أن يجعلنا من المدافعين عن الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فحسب، بل نطلب منه سبحانه أن يجعلنا من المسارعين إليه في قضاء حوائجه.
ويستفاد من هذا المقطع أمران:
أ- السرعة:
السرعة والسبق في أعمال الخير تزيدان في قيمتها، ففي القرآن الكريم وردت في أعمال الخير أمثال هذه التعابير: ﴿وَسَارِعُواْ﴾، ﴿سَابِقُوا﴾, ﴿فَاسْتَبِقُواْ﴾.. ويثني الله في القرآن الكريم على الأنبياء (عليهم السلام) بقوله: ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾(١٤٦). وفي سورة آل عمران (الآية ١١٤)، يقول تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
ب- حوائج إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف):
بدايةً، لا بدّ من أن يُعلم أنّ ما يطلبه الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) هو ما يطلبه سائر أهل البيت (عليهم السلام), وهو التوجُّه إلى الأمور الحسنة والابتعاد عن الأمور السيّئة, لأنّ هذه العائلة هي أصل وفرع ومعدن ومنشأ الأمور الحسنة كلّها، وطلبهم الوحيد هو رعاية التقوى، لكن مع ذلك، فقد ذكر للإمام بعضٌ من المطالب الخاصّة، كالاهتمام بالفقراء والمحتاجين فكريّاً ومادّيّاً. وسنذكر في المقاطع اللاحقة توضيحات أكثر حول هذا النقطة.
٥- وَالْمُمْتَثِلِينَ لأَوَامِرِهِ:
هذا المقطع فيه أمران:
أ- أوامر إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف):
تتجلّى أوامر الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في التوقيعات والتشرّفات الصحيحة بلقائه, كقصّة الحاجّ علي البغداديّ والسيّد الرشتيّ التي جاءت في مفاتيح الجنان، أو ملاقاة ابن مهزيار التي أوصاه فيها وجميع الشيعة بضرورة رعاية مسائل ثلاث:
- صلة الأرحام.
- الاهتمام بالضعفاء.
- عدم جمع الأموال واحتكارها.
ب- الطاعة لإمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف):
يقول تعالى في سورة النساء (الآية ٥٩): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾.
تُشير هذه الآية إلى وظائف الناس أمام الله تعالى ورسوله, وبوجود هذه المراجع الثلاثة: الله، والرسول، وأولو الأمر، لن يواجهوا طريقاً مسدوداً. ومجيء هذه المراجع الثلاثة للطاعة لا ينافي التوحيد القرآنيّ, لأنّ إطاعة الرسول وأولي الأمر هي - أيضاً - شعاع من إطاعة الله وفي طولها لا في عرضها، وبأمر من الله تعالى فإنَّ إطاعة الأمرَين الآخرَين لازمة.
وتَكرار الأمر "أطيعوا" وإن كان علامة على تنوّع القوانين، لكن من المقطوع به أنّ من أطاع أوامر القرآن والرسول وأهل البيت (عليهم السلام) فقد أطاع إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
عن الحسين بن أبي العلاء قال: ذكرت لأبي عبد الله (عليه السلام) قولنا في الأوصياء: أنّ طاعتهم مفترضة، قال: فقال: "نعم، هم الذين قال الله تعالى: ﴿أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾(١٤٧), وهم الذين قال الله (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾(١٤٨)"(١٤٩).
لكن لماذا يطلب المنتظِر من الله تعالى مرّةً أخرى مثل هذا الطلب ويقول: اللهمّ اجعلني من الممتثلين لأوامر الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف)؟!
والجواب: على طول التاريخ يوجد أفراد يظهرون الاعتقاد، لكنّهم في مقام العمل لديهم ضعف وتقصير. وفي هذا المجال، نقرأ في سورة الأنفال (الآية ٢٠) قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ﴾, وفي (الآية ٢١)، نقرأ قوله تعالى كذلك: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾.
وفي القرآن الكريم، أينما وردت إطاعة الله ورد معها إطاعة رسول الله. وفي أحد عشر مورداً بعد قوله: "اتقوا الله" جاء قوله: "أطيعون", وهذا يعني أنّ لازم تقوى الله هو الطاعة للرسول.
ومع كون إطاعة الله تعالى وإطاعة رسوله كلاهما لازمة، ففي هذه الآية نهى تعالى عن التولّي عن الرسول فقط، حيث من المعلوم أنّ هؤلاء كانت مشكلتهم في إطاعة الرسول.
وبعد هذا التوضيح، نقول: يحتمل أنّ بعض المنتظِرين يقصّرون في إطاعة إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
والنقاط التي تؤكّد عليها هذه الآيات هي:
١- حاجة المؤمنين إلى التحذير عن التعرّض لمخالفة أوامر الله تعالى ورسوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ﴾.
٢- إنّ معصية أوامر الرسول هي معصية لأوامر الله، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ﴾, ولم يقل: عنهما. فأوامر الله ورسوله لها هويّة واحدة، وإطاعة الله تعالى هي رهن إطاعة رسوله.
٣- السمع والفهم من أسباب المسؤوليّة: ﴿وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ﴾.
٤- الاطلاع على تاريخ وأخبار الماضين الذين تخلّفوا أساس للعِبرة: ﴿لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ...﴾.
٥- في مجال الإطاعة للقائد، لا بدّ من الصدق والثبات على العهد، وأن لا ندّعي الإيمان بدون العمل: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾.
٦- إنّ طاعة الوصيّ وخليفة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) واجبة، قال تعالى:
﴿فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾. وبسبب بروز الفتن في هذا العصر أو بسبب صعوبة الشروط والظروف نسبيّاً في عصر
الظهور، فسوف تكون الإطاعة وعدم التولّي أشدّ إلزاماً وأكثر صعوبة.
وللأئمّة (عليهم السلام) هدف واحد، وهو هدف النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً، لكن بحسب مقتضيات كلّ زمان، فإنّ لكل واحد منهم (عليهم السلام) سلوكه الخاصّ به, فأحدهم يقاتل، والآخر يصالح، والثالث يواجه الجهل والأعداء من خلال الدعاء والتوسّل، والرابع يقوم بتربية الناس من خلال إقامة صفّ الدرس ومجالس البحث والمناظرة... ففي الظاهر، نجد أنّ لكل واحد منهم (عليهم السلام) دوراً يختلف عن الآخر، لكن هدف الجميع واحد, تماماً كاليدين اللتين لهما حركتان مختلفتان أثناء غسل الثوب وتتحرّكان باتجاهين متعاكسين، إلّا أنّ لهما هدفاً واحداً، وهو الوصول إلى نظافة الثوب وطهارته.
وقد جاء في الروايات أنّ عصر الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أصعب من عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم), لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) سار بآيات القرآن النورانيّة إلى القتال بالعصا والحجارة، لكن في عصر ظهور الإمام ستوجد فرقة تحاربه بالاستفادة السيّئة من الآيات القرآنيّة، وتقوم بتأويل آيات القرآن الكريم ضدّه.
٦- وَالْمُحَامِينَ عَنْهُ:
الدفاع عن الفكرة المهدويّة أمر لازم وضروريّ للجميع, فالشخص الذي يُحبّ أن تصطبغ حياته باللون المهدويّ، عليه أن يدافع عن الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) دفاع العارف العاشق. صحيح أنّ الله تعالى في سورة البقرة (الآية ١٣٧)، يعلن للنبيّ حمايته دون المسلمين وكفايته المشركين: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ﴾, وبالتالي فإنّه تعالى سيحمي خليفته (الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف))، ويحفظه قطعاً، لكن تبقى علينا وظيفتنا، ونحن نقوم بإعلانها من خلال هذه الفقرة من الدعاء.
وقد جاء في سورة آل عمران (الآية ٥٢) نموذج من حماية وليّ الله: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.
وأحد النماذج الأسوة في حماية الدين والأولياء الإلهيّين هو أبو طالب (عليه السلام), فأبو طالب كبير مكّة وقريش، وقد حمى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بلسانه وبكلّ ما لديه من قوّة، حتّى قدّم الرسولَ على أولاده، وكان يواجه التهديدات التي يتعرّض لها النبيّ من مخالفيه بكلّ ما لديه من قوّة.
فعندما حوصر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مع بعض أصحابه اجتماعيّاً واقتصاديّاً، كان أبو طالب يقوم بتغيير مكان مبيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلاً، ويجعل ولده عليّاً (عليه السلام) يبيت مكانه، حتّى إذا قصده أحد بسوء يَسلَم رسول الله(١٥٠) (صلى الله عليه وآله وسلم).
وكان أبو طالب - أحياناً - يُشهر سيفه مدافعاً عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحيث إنّ كفار مكّة كانوا يرونه كبير مكّة وحامي النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد كانوا يكفّون عن إيذاء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتفرّقون(١٥١).
وقد افتقد النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّةً فلم يجده، فجمع الهاشميّين، وسلَّحهم، وأراد أن يجعل كلّ واحد منهم إلى جانب عظيم من عظماء قريش ليفتك به، لو ثبت أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أصابه شرّ.
وقد تصوّر بعضهم أنّ كلّ هذه الحماية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي قام بها أبو طالب (عليه السلام)، إنّما كانت لأجل كونه ابن أخيه، وبسبب العلاقة العاطفيّة بينهما.
المحور هو حجّة الله، وعليهم أن لا يحسبوا أيّ حساب لأيّ أمر آخر في سبيل حمايته وقد غفل هذا القائل عن الآتي:
أوّلاً: إنّ عاطفة الإنسان على أولاده أشدّ منها على أولاد أخيه، ونحن نجد أنّ أبا طالب قد فدى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بولده(١٥٢).
ثانياً: لو كانت العمومة سبباً لهذه المحبّة كلّها، فلماذا كان أبو لهب العمّ الآخر لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على تلك العداوة كلّها؟
ثالثاً: إنّ سائر بني هاشم هم من قبيلة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعضهم آمن به، وشاركه في محنه وابتلاءاته، لكنّ أحداً من هؤلاء لم يكن كأبي طالب في الفداء والإيثار عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعليه، فلا يوجد أيّ تحليل أو تفسير آخر لهذا الإيثار كلّه بحقّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلّا الإيمان القلبيّ به.
هكذا كان عشق أتباع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لدينهم، حيث لا يحسبون للمسائل العاطفيّة حساباً، إلّا في الموارد التي يحثّهم الإسلام نفسه عليها.
ولا بدّ للمنتظِرين - أيضاً - أن يكونوا كذلك، فالمحور هو حجّة الله، وعليهم أن لا يحسبوا أيّ حساب لأيّ أمر آخر في سبيل حمايته.
٧- وَالسَّابِقِينَ إِلَى إِرَادَتِهِ:
بما أنّ الفقرات المتقدّمة كان الحديث فيها حول السرعة، فهذه الفقرة تتحدّث عن السَبق.
من الامتيازات الخاصّة للمنتظِر، أنّ لديه خبرة جيّدة في الأعمال الحسنة، سبّاق ومسارع إلى الصالحات والخيرات
السرعة تكون في الانتهاء، والسبق يكون في العمل نفسه وعدم تضييع الفرص، وهذان أمران من تعاليم هذا الدعاء للحياة المهدويّة. فمن الامتيازات الخاصّة للمنتظِر، أنّ لديه خبرة جيّدة في الأعمال الحسنة، سبّاق ومسارع إلى الصالحات والخيرات.
إنّ التأكيد على ﴿وَسَارِعُوا﴾(١٥٣) و﴿سَابِقُوا﴾(١٥٤) في القرآن والأحاديث، دليل على أنّ السرعة والسبق أساس في كمال العبادة.
فالمنتظِر سابق في عمل الخير. ومن سمات المجتمع المنتظِر هو السبق إلى الخيرات, ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾(١٥٥)، بينما من سمات مجتمع الكفر والنفاق السبق إلى الفساد، يقول تعالى في هذا المجال: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾(١٥٦).
وقد بيّن القرآن الكريم للسبق على الآخرين مصاديق عديدة، منها:
- السبق في الإيمان, ﴿سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾(١٥٧).
- السبق في الإنفاق والجهاد, ﴿لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾(١٥٨), وفي آية أخرى يقول سبحانه: ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾(١٥٩).
إنّ القرآن الكريم، في موارد أعمال الخير، يحثّ على قانون السبق والمسابقة: ﴿فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ﴾(١٦٠), ويمدح الأشخاص الذين يسارعون في إنجاز الأعمال الخيّرة: ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾(١٦١).
السبق سبيلُ القرب:
إنّ القرب من الله لا يحصل بمجرّد الادعاء، بل له طريقه ونهجه ودليله, فاليهود كانوا يدّعون أنّهم مقرّبون من الله تعالى: ﴿نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾(١٦٢)، لكنّ القرآن يقول: إنّ المقرّبين هم الذين يتقدّمون في الكمالات: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾(١٦٣). والمراد من القرب في هذه الآية هو القرب المعنويّ والمقام، لا القرب المكانيّ.
وقد جاء ذكر "السابقون" في سورة الواقعة مسبوقاً بفرقتين, ولعلّ ذلك لقلّة عدد السابقين، لكن في مقام التجليل ابتدأت الآيات بتجليل "السابقون"، ثمّ عطفت عليهم أصحاب اليمين وغيرهم, لأنّ مقام "السابقون" أعلى من مقام غيرهم.
وفي دعاء كميل يطلب أمير المؤمنين (عليه السلام) من الله تعالى أن يجعله في ميدان المسابقة إلى الخيرات: "وأُسرع إليك في ميادين السابقين".
ونقرأ في القرآن الكريم، الدعوة إلى المسارعة لنيل المغفرة الإلهيّة: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾(١٦٤).
وفي الآذان - الذي هو الشعار الرسميّ للمسلمين - تدعو الجملتان: "حيَّ على الصلاة"، و"حيَّ على الفلاح"، الناس إلى المسارعة والسبق إلى الصلاة.
كما أنّ النبيّ موسى (عليه السلام) سأله الله تعالى: ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾(١٦٥).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): "المشتاق لا يشتهي طعاماً ولا يلتذّ شراباً، ولا يستطيب رقاداً، ولا يأنس حميماً، ولا يأوي داراً، ولا يسكن عمراناً، ولا يلبس ليّناً، ولا يقرّ قراراً، ويعبد الله ليلاً ونهاراً، راجياً بأن يصل إلى ما اشتاق إليه ويناجيه بلسان الشوق، معبّراً عمّا في سريرته، كما أخبر الله تعالى عن موسى (عليه السلام) في ميعاد ربّه: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾"(١٦٦).
٨- وَالْمُسْتَشْهَدِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ:
إنّ الميل نحو العاقبة الحسنة والشوق إلى الشهادة، من خصائص الحياة والممات المهدويّين. وهذه الفقرة من الدعاء هي علامة على روح التسليم وقَبول الحقّ وبذل الروح. وقد لا تتوافر للكثير في ميدان العمل ويوم الظهور فرصة الحصول على شراب الشهادة بالضرورة، لكنّ وجود هذه الروحيّة للمنتظِر أمر لازم.
الاستعداد للشهادة:
إنّ نيل الشهادة أمر، والاستعداد للشهادة أمر آخر، فالله تعالى لم يرد إراقة دم إسماعيل (عليه السلام)، لكنّه أراد الاستعداد الكامل من إبراهيم (عليه السلام) لتقديم ولده قرباناً, فمن الممكن لنا أن لا ندرك زمان ظهور الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، لكنّ انتظار الظهور، والعشق والأنس والاستعداد للحضور في ركابه (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أمر لازم للحياة المهدويّة. وإذا أردنا أن يكون لنا حضور في زمان الرجعة، فعلينا في هذا الوقت أن نكتسب روحيّة الشهادة، وأن نقوم بإعلانها.
من مقامات الشهيد والشهادة:
للشهيد والشهادة مقام مميّز في الثقافة الإسلاميّة, إذ يقول تعالى في القرآن الكريم عن الشهداء: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾(١٦٧).
وقد كان أئمتنا (عليهم السلام) شهداء، وكان كثيرٌ من الأنبياء (عليهم السلام) وأتباعهم وأنصارهم شهداء كذلك.
وتفيض الروايات - أيضاً - بالتعرض لثقافة الشهادة، ونكتفي بذكر نموذج منها:
- عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "للشهيد سبع خصال من الله: أوّل قطرة من دمه مغفور له كلّ ذنب، والثانية يقع رأسه في حجر زوجتَيه من الحور العين، وتمسحان الغبار عن وجهه، وتقولان: مرحباً بك، ويقول هو مثل ذلك لهما، والثالثة يُكسى من كسوة الجنّة، والرابعة تبتدره خزنة الجنّة بكلّ ريح طيّبة أيُّهم يأخذه معه، والخامسة أن يرى منزله، والسادسة يقال لروحه: اسرح في الجنّة حيث شئت، والسابعة أن ينظر في وجه الله، وإنّها لراحة لكلّ نبيّ وشهيد"(١٦٨).
- ورأى (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلاً يدعو ويقول: اللهمّ إنّي أسألك خير ما تُسأل، فأعطني أفضل ما تُعطي، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنِ استجيب لك أُهريق دمُك في سبيل الله"(١٦٩).
- وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "فوق كلّ ذي برٍّ برٌّ حتّى يقتل الرجل في سبيل الله فليس فوقه برّ"(١٧٠).
- وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "ثلاثة يشفعون إلى الله يوم القيامة فيشفّعهم: الأنبياء، ثمّ العلماء، ثمّ الشهداء"(١٧١).
- وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "مَن قُتل في سبيل الله لم يعرّفه الله شيئاً من سيّئاته"(١٧٢).
- وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصفّ الأوّل"(١٧٣).
- وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "للجنّة باب يقال له: باب المجاهدين"(١٧٤)، و"أوّل من يدخل الجنّة شهيد"(١٧٥)، و"عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة: النبيّين والصدّيقين والشهداء، يقول الله: طوبى لمن دخلك"(١٧٦).
- وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "إنّ أفضل الموت القتل"(١٧٧).
- وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "ما من قطرة أحبّ إلى الله (عزَّ وجلَّ) من قطرة دمٍ في سبيل الله"(١٧٨).
- وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف الشهيد يوم القيامة: "وإذا كان يوم القيامة يخرج من قبره شاهراً سيفه تشخب أوداجه دماً، اللون لون الدم، والرائحة (رائحة) المسك، يخطو في عرصة القيامة"(١٧٩).
- ومع أن ّلأمير المؤمنين (عليه السلام) عشرات الفضائل التي اختُصّ بها، لكنّه - فقط - في وقت اقتراب الشهادة قال: "فزتُ وربِّ الكعبة". فهو أوّل من آمن، وبات في فراش النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، والوحيد الذي لم يُسَدّ باب داره إلى مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووالد الأئمّة (عليهم السلام) وزوج الزهراء (عليها السلام)، ومحطّم الأصنام، وضربته يوم الخندق أفضل من عمل الثقلين، ومع ذلك لم يقل: "فزتُ وربِّ الكعبة" في أيٍّ من هذه الموارد.
من كتاب ( شرح دعاء العهد للشيخ محسن قرائتي