٨ - برنامج الظهور
وَاعْمُرِ اللَّهُمَّ بِهِ بِلَادَكَ، وَأَحْيِ بِهِ عِبَادَكَ، فَإِنَّكَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾. فَأَظْهِرِ اللَّهُمَّ لَنَا وَلِيَّكَ وَابْنَ بِنْتِ نَبِيِّكَ الْمُسَمَّى بِاسْمِ رَسُولِكَ (صلى الله عليه وآله وسلم) حَتَّى لا يَظْفَرَ بِشَيءٍ مِنَ الْبَاطِلِ إِلَّا مَزَّقَهُ، وَيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُحَقِّقَهُ، وَاجْعَلْهُ اللَّهُمَّ مَفْزَعاً لِمَظْلُومِ عِبَادِكَ، وَنَاصِراً لِمَنْ لا يَجِدُ لَهُ نَاصِراً غَيْرَكَ، وَمُجَدِّداً لِمَا عُطِّلَ مِنْ أَحْكَامِ كِتَابِكَ، وَمُشَيِّداً لِما وَرَدَ مِنْ أَعْلاَمِ دِينِكَ، وَسُنَنِ نَبِيِّكَ (صلى الله عليه وآله وسلم). وَاجْعَلْهُ اللَّهُمَّ مِمَّنْ حَصَّنْتَهُ مِنْ بَأْسِ الْمُعْتَدِينَ، اللَّهُمَّ وَسُرَّ نَبِيكَ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) بِرُؤْيَتِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُ عَلَى دَعْوَتِهِ، وَارْحَمِ اسْتِكانَتَنَا بَعْدَهُ. اللَّهُمَّ اكْشِفْ هذِهِ الْغُمَّةَ عَنْ هذِهِ الأُمَّةِ بِحُضُورِهِ، وَعَجِّلْ لَنَا ظُهُورَهُ، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً. بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
في هذا القسم من الدعاء، واحد وعشرون مقطعاً، ثلاثة عشر منها تتحدّث حول نتائج الظهور.
١- وَاعْمُرِ اللَّهُمَّ بِهِ بِلادَكَ:
يعتني الإسلام بعمارة الأرض عناية خاصّة، ففي القرآن الكريم قال تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾(٢٢٥). كما يأمر أمير المؤمنين (عليه السلام) مالكاً الأشتر بـ: "جباية خراجها، وجهاد عدوّها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج"(٢٢٦).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا بعث سريّة بعث أميرها فأجلسه إلى جنبه وأجلس أصحابه بين يديه، ثمّ قال: سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم), لا تغدروا ولا تغلّوا ولا تمثّلوا ولا تقطعوا شجراً..."(٢٢٧).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "وأن يُحترَز عن قطع الأشجار الرطبة إلّا عند الضرورة"(٢٢٨).
وإنّ أحد معالم حكومة إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) - أيضاً - هو أنّ جميع المدن في عصره ستصبح عامرة بوساطته, لأنّ ثروات الأرض والسماء كلّها ستكون تحت يده.
عندما تكون الثروة في يد فرعون وقارون فهي سبب للفساد، لكنّها في يد النبيّ سليمان والنبيّ داود (عليهما السلام) أساس البركة والعمران وجبر النقص الاقتصاديّ والاجتماعيّ.
وبشكل عام، فإنّ أحوال الأفراد والمجتمع وأعمالهم لها دور أساس في الاستفادة من النعم الإلهيّة أو زوالها، ففي سورة الفجر (الآية ١٧)، نجد أنّ أحد أسباب حرمان النعم هو عدم الاعتناء بالأيتام: ﴿كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾, وفي سورة الأعراف (الآية ٩٦) أيضاً، نقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ﴾.
كما ورد في الحديث عن عبد الله بن أبي يعفور أنّه قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: "مَن زرع حِنطةً في أرضٍ فلم يزكِّ زرعه، أو خرج زرعُه كثير الشعير، فبظلمٍ عَمِلَه في ملك رقبة الأرض، أو بظلمٍ لمزارعه وأكرته, لأنّ الله يقول: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾(٢٢٩), يعني لحوم الإبل والبقر والغنم"(٢٣٠).
عندما تكون الثروة في يد فرعون وقارون فهي سبب للفساد، لكنّها في يد النبيّ سليمان والنبيّ داود (عليهما السلام) أساس البركة والعمران وجبر النقص الاقتصاديّ والاجتماعيّ.
وقد ذكر القرآن الكريم تأثير الإيمان على عمارة الأرض، فقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ﴾(٢٣١).
ونقرأ في سورة هود (الآية ٣) قوله تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾.
ففي دولة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، حيث تكون جميع الموجودات قد تحلّت بالعبوديّة لله تعالى، ستكون الأماكن كلّها عامرة، وخضراء، ومبهجة.
ونقرأ في الروايات أنّه (عجل الله تعالى فرجه الشريف): "يملأ الأرض عدلاً وقسطاً"(٢٣٢). ويُفهم من الألف واللام في كلمة "الأرض" أنّ المراد هو الأرض كلّها.
ولوصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) بعمارة الأرض - أيضاً - أهمّيّة كبيرة، حيث يقول (عليه السلام) لحاكمه: "وليكن نظرك في عمارة الأرض"(٢٣٣)، يعني لا يكن اهتمامك بجمع المال، بل اسعَ لأن يكون اهتمامك في الأرض ببناء الدور وزيادة المزارع.
كما يوصي أمير المؤمنين (عليه السلام) لتكون الحكومة إسلاميّة، بأن يصل لأبعد الناس ما يصل لأقربهم: "وتفقّد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك"(٢٣٤). فلو كان هناك شيء موجوداً في العاصمة وغير موجودٍ على الحدود، فمن الواضح أنّنا لم نصل إلى العدالة.
وعليه، فبما أنّ أوضاع عمارة المدن والبلدات في دولة صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) هكذا، فالمناسب لنا أن نسعى في هذا الاتجاه، ولا نغفل عن أنّ ما لا بدّ من تأمينه للأقرب لا بدّ من تأمينه للأبعد أيضاً.
٢- وَأَحْيِ بِهِ عِبَادَكَ:
الله سبحانه وتعالى هو الحي، والحياة بيده. وللحياة أقسام مختلفة:
أ- الحياة النباتيّة: ﴿أَنَّ اللهَ يُحْيِي الْأَرْضَ﴾(٢٣٥).
ب- الحياة الحيوانيّة: ﴿لَمُحْيِي الْمَوْتَى﴾(٢٣٦).
ج- الحياة الفكريّة: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾(٢٣٧).
والمقصود من الحياة التي يقوم الأنبياء (عليهم السلام) بتحقيقها من خلال دعوتهم، ليست هي الحياة الحيوانيّة, وذلك لأنّ مثل هذا النوع من الحياة موجود بدون دعوة الأنبياء، بل المقصود هو الحياة الفكريّة، العقليّة والمعنويّة، الأخلاقيّة والاجتماعيّة, أي مجالات الحياة جميعها. لذا، يمكن القول: إنّ حياة الإنسان هي في الإيمان والعمل الصالح، والله تعالى والأنبياء (عليهم السلام) قد دعوا الناس إليها.
وإنّ إطاعة أوامرهم (عليهم السلام) هي رمز الوصول إلى الحياة الطيّبة والطاهرة، كما في قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾(٢٣٨).
وعلى هذا، ففي زمان الظهور ينتهي عصر الأموات المتحرّكين، ويصبح الناس أحياءً واقعيّين.
في زمان الظهور ينتهي عصر الأموات المتحرّكين، ويصبح الناس أحياءً واقعيّين.
٣- فَإِنَّكَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُ ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾:
أوّلاً: إنّ جميع المطالب والمباحث قد قالها تعالى: "فإنّك قلت"، وكوننا لا نعلم تلك المباحث والمطالب، فهذا لا يعني أنّ الله تعالى لم يقل ذلك.
ثانياً: كلّ ما قاله تعالى هو الحق والحقيقة: "فإنّك قلت وقولك الحقّ".
ثالثاً: من جمال الأدعية والزيارات تطابقها مع الآيات النورانيّة للقرآن الكريم, ففي سورة الروم الآية (٤١)، نقرأ قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.
وفي (الآية ٣٠) من سورة الشورى أيضاً، نقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾.
إنّ بعض الشدائد والمحن الدنيويّة هي نوع عقوبة على ذنوب الإنسان. لذا:
أ- الشرك سبب الفساد في الأرض: ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾... ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ﴾.
ب- أعمال الإنسان تؤثّر في الطبيعة، فالأعمال القبيحة للإنسان تمنع من عطاء الماء والتراب، وعامل لحدوث الظواهر السيّئة: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾.
ج- فساد المحيط سببه أعمال الإنسان: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ... بِمَا كَسَبَتْ﴾.
٤- فَأَظْهِرِ اللَّهُمَّ لَنَا وَلِيَّكَ:
بما أنّه بسبب اشتباهات البشريّة، قد مُلئت الأرض فساداً وتلوّثاً، وحيث لا يمكن للبشر أن يخلّصوا أنفسهم من مستنقع الفساد، فإنّهم يلجؤون إلى خليفة الله لكي يطهّر الأرض، وينجي الناس من دوّامة الفساد والضياع, لأنّ لديه خصوصيّات فريدة ككونه وليّاً. لذا، في هذا المقطع، يُطلب من الله تعالى ظهوره.
٥- وَابْنَ بِنْتِ نَبِيِّكَ:
إحدى خصوصيّات الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أنّه من نسل السيّدة فاطمة الزهراء ومن ذريّتها (عليها السلام), إذ توجد أكثر من ١٩٠ رواية في مصادر السنّة والشيعة تذكر ذلك(٢٣٩).
وممّا روي في ذلك، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "المهديّ من ولد فاطمة". وهذا الحديث متواتر لا يمكن لأحد إنكاره, ففي (سنن أبي داود) عن أمّ سلمة أنّها قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "المهديّ من عترتي، من ولد فاطمة"(٢٤٠).
وفي كتاب (ينابيع المودّة)، عن أبي أيّوب الأنصاريّ قال: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مرض فأتته فاطمة (رضي الله عنها) وبكت، فقال: "يا فاطمة...، والذي نفسي بيده، منّا مهديّ هذه الأمّة، وهو من ولدك"(٢٤١).
وفي (كنز العمّال) عن الإمام عليّ(عليه السلام) أنّه قال: "المهديّ رجل منّا، من ولد فاطمة"(٢٤٢).
يقول ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة)، في ذيل الخطبة رقم ١٦: وأكثر المحدثين على أنّه من ولد فاطمة (عليها السلام)((٢٤٣)).
٦- الْمُسَمَّى بِاسْمِ رَسُولِكَ (صلى الله عليه وآله وسلم):
تدلّ الروايات المتواترة التي رواها الشيعة والسنّة، على أنّ المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) اسمه اسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكنيته كنيته, أي أنّ اسمه المبارك محمّد، وكنيته أبو القاسم، ولقبه المهديّ، وهو أشبه الناس به، وأنّ الله تعالى يفتح على يديه مشارق الأرض ومغاربها(٢٤٤).
ونقل أصحاب الصّحاح، والسّنن، والمعاجم، والمسانيد، بألفاظ وأسانيد مختلفة، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "يخرج في آخر الزمان رجلٌ من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جَوراً"(٢٤٥).
ونقل الترمذيّ بسنده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "لا تذهب الدنيا حتّى يملك العربَ رجلٌ من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي"(٢٤٦).
ونقل العلّامة المجلسيّ بسندٍ ذكره عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "المهديّ من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خَلقاً وخُلُقاً..."(٢٤٧).
٧- حَتَّى لا يَظْفَرَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَاطِلِ إِلّا مَزَّقَهُ:
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾(٢٤٨). وقد تكرّرت هذه الآية في القرآن الكريم ثلاث مرّات، وهي تبشّر بأنّ دين الإسلام سيعمّ جميع أنحاء العالم.
لكي يعمّ الدين الإسلاميّ العالم، ثمّة شروط ثلاثة:
١- وجود القائد العالميّ.
٢- وجود القانون العالميّ.
٣- الجهوزيّة العالميّة.
أمّا القائد العالميّ فموجود، وهو الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف). وأمّا القانون العالميّ فموجود - أيضاً -، وهو القرآن الكريم، الكتاب الهادي، الذي لا تحريف فيه. وأما الجهوزيّة العالميّة، فليست مشهودة حتّى الآن، ولا بدّ من السعي والعمل على تهيئة الأرضيّة لذلك.
فإمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) عندما يظهر لا بدّ من أن يجد الجهوزيّة لدى الناس من جميع الجهات، وأن يجد الناس عالِمين بمعارف وعلوم القرآن والإسلام، وأن يكون لديهم الاستعداد لحكومته (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
إنّ الله تعالى وعد ثلاث مرّات بأن يُظهر هذا الدين على الدين كلّه، و﴿لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ﴾(٢٤٩).
وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "فو الذي نفسي بيده حتّى لا تبقى قرية إلّا وينادى فيها بشهادة أن لا إله إلّا الله، بكرةً وعشيّة"(٢٥٠).
لقد أثبت تاريخ الإسلام أنّه لا يضعف أبداً أمام ما يقوم به أعداؤه من استهزاء وأذيّة وتعذيب، ومحاصرة اقتصاديّة واجتماعيّة، وإشعال الحروب، ومؤامرات المنافقين الداخليّة، وإيجاد الفرقة بين المسلمين، والحروب الصليبيّة، وترويج الفحشاء والمنكر، والاستعمار العسكريّ والسياسيّ. ومع كلّ ما يقومون به من التبليغ والدعاية للتخويف من الإسلام بأشكال مختلفة، إلّا أنّ موج الإسلام يمتدّ على أطراف العالم، ويوماً بعد يوم نجد أنّ الإسلام يتّسع رقاعه، إلى اليوم الذي يأتي فيه - إن شاء الله - وديعةُ النبيّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
وممّا جاء في وصف الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في خطبة الغدير عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "معاشرَ الناس، النور من الله (عزَّ وجلَّ) فيَّ مسلوك، ثمّ في عليّ، ثمّ في النسل منه إلى القائم المهديّ، الذي يأخذ بحقّ الله، وبكلّ حقّ هو لنا...، ألا إنّه الظاهر على الدين...، ألا إنّه المفوَّض إليه...، ألا إنّه لا غالب له ولا منصور عليه..."(٢٥١).
وعليه، فإنّ إحدى نتائج دولة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) هي الانتصار على الجميع في أنحاء العالم كلّه.
٨- ويُحِقَّ الحَقَّ ويُحقِّقَه:
حتميّة انتصار الحقّ في القرآن:
كان الناس، على امتداد التاريخ، واقعين تحت سلطة المستبدّين الذين أقاموا حكومتهم على الظلم والفساد والخوف، وقد قال تعالى في كتابه على لسان ملكة سبأ: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾(٢٥٢).
القرآن الكريم يزفّ إلينا - بشكلٍ قاطع - بشرى الانتصار النهائيّ، واقتراب اليوم الذي يحكم فيه الحقّ أنحاء العالم كلّه، ويُطوى بساط حكومة الباطل، ويرث فيه الصالحون الأرض.
القرآن الكريم يزفّ إلينا - بشكلٍ قاطع - بشرى الانتصار النهائيّ، واقتراب اليوم الذي يحكم فيه الحقّ أنحاء العالم كلّه، ويُطوى بساط حكومة الباطل، ويرث فيه الصالحون الأرض.
وقد ورد في روايات عدّة من طرق الفريقين، أنّ هذا النصر النهائيّ مرتبط بقيام الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف), ﴿وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾(٢٥٣).
إنّ إحدى الآمال البشريّة الضاربة في عمق التاريخ، هي طوي بساط الظلم وزواله من المجتمع، وتحكيم الصلح والأمن وإجراء العدالة في كلّ أنحاء العالم، وهذه الآية الشريفة، تبشّر بشكل قاطع بمجيء الحقّ وزهوق الباطل.
كيف يتغلّب الحقّ؟
يوضّح الله تعالى كيفيّة تحقّق هذا الوعد بتغلُّب الحقّ، من خلال تشبيه الباطل بالزَبَد الذي يطفو على وجه الماء، فهو لا فائدة منه، وسرعان ما يؤول إلى الزوال، ويشبّه تعالى الحقّ بالأمور النافعة التي تمكث في الأرض، قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ﴾(٢٥٤).
فالحقّ كالماء الذي يبقى موجوداً حقيقةً، والباطل كالزبد الذي يكون على وجه الماء، والذي حكمه الزوال, والحقّ كالماء المفيد والنافع والثابت، والباطل كالزبد الذي يعلو له صوت، ولكنّ داخله خالٍ لا يعتمد على أساس، ولا فائدة منه وسرعان ما يؤول إلى الزوال. وكما أنّ الماء يوجب زوال الزبد، فكذلك قضيّة الحقّ والباطل أيضاً, إذ الحقّ يتغلّب على الباطل ويزيله: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾(٢٥٥).
ولَمّا كان الحقّ توأم الواقع والصدق، وله عمقٌ، ويعتمد على أساس، ويتناسب مع قوانين الخلقة، وهو ثابت، ونافع، وهو من الله ومؤيّد منه، فإنّه يبقى ولا يزول. ولهذا كان الباطل أمراً موهوماً، مزيّفاً، لا أساس له، أجوف، لا فائدة منه، غير متناسب مع الخلقة، لا ثبات له، وهو من الشيطان، وإلى زوال.
الزوال الكامل للباطل:
إنّ المسألة القابلة للتأمّل في الآيات المتقدّمة، هي أنّ الكلام هنا ليس عن سيطرة الحقّ على الباطل، بل عن الظهور المطلق للحقّ والزوال الكامل للباطل، فمن الممكن للباطل - إذاً - أن يكون له جولة مدّةً ما، إلّا أنّ عمره بالنتيجة قصير وينطفئ.
فالحقّ كالشجرة التي لها أصول متجذّرة لا يهزّها طوفان، ولا تزلزلها الرياح العواصف، والباطل كالشجرة التي لا أصل لها، فتظهر على وجه الأرض لكنّها لا تنمو ولا تثمر، وما لها من قرار وثبات.
نفس المصدر في الحلقات السابقة