اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم ياكريم
إذا سلطنا مجهر التأمل والبحث والتدقيق في شخصية المرأة العظيمة فاطمة بنت حزام ، وتدبرنا في كلماتها الفصيحة ومواقفها الرائعة التي تدل على رجاحة في العقل واتزان في التعامل والسلوك وفق القيم الإنسانية والمباديء الإسلامية، فستكون هذه العظيمة تاج الفقاهة والمعرفة والقيم الأصيلة، ولذا فإن النظر إلى هذه المرأة العظيمة لابد وأن يكون وفق معيار قراءة ما يكون عليه العظماء من سير عالية المضامين، إذ أن هذه المرأة العظيمة عاشت القيم الإسلامية بروحها وكانت حاضرة في كل مواقفها على أرض الواقع والتطبيق، فلا غرو أنها دستور قيمي وأخلاقي نقتدي به في كل مشاهدنا الحياتية وعلاقاتنا.
السيدة أم البنين مدرسة الولاء والعطاء كان لها موقف لا نظير له في ليلة زفافها، حيث توجهت إلى زوجها أمير المؤمنين بطلب فريد من نوعه، وهو يعبر عن منتهى النبل والرقة في المشاعر والروعة في العطاء، إذ طلبت منه أن لا يناديها باسم فاطمة وعللت ذلك بأن الحسن والحسين يتامى لتوهما فقدا أمهما سيدة نساء العالمين وتخاف على قلبيهما أن ينكسرا إذا سمعا باسم فاطمة، فأي مستوى من المواساة وصلت له أم البنين لتشرعنه في علاقاتنا بمن حولنا، ففي وقت طغت فيه نزعة المنفعة الخاصة وروح الأنانية عند بعض الأفراد ممن يحملون شعار «أنا وما بعدي الطوفان»، نحتاج إلى أسلوب يحمل القناعة بمظلة التكافل والتعاضد من خلال نموذج رائع كأم البنين، فهؤلاء عمت بصيرتهم وتبلدت مشاعرهم فلا يبدون أي اهتمام بآلام وحاجات الآخرين، إذ أن الروح الأخلاقية ومظلة التكافل الاجتماعية نوع من الخسارة وهدر المال والوقت، فلينظر هؤلاء المتبلدة أحاسيسهم إلى مدرسة العطاء عند هذه المرأة العظيمة ليأخذوا منها درسا في التفاعل الوجداني مع الأقرباء والأصدقاء، فإن العطاء لا يقتصر على الجانب المادي فقط بل هو إحساس يتفاعل مع حاجات وهموم من حوله ليقدمه لهم ما يمكنه، وكثير من الناس ليس بحاجة للمال بل هو بحاجة لمنصت يستمع له ويشاركه ألمه ويواسيه، فكبير السن والمريض من الأرحام بحاجة لمن يؤنسهم ويقضي معهم وقتا يجدد فيهم روح الأمل، فالمشاركة الوجدانية قيمة أخلاقية واجتماعية رعتها مولاتنا أم البنين فعلا على أرض الواقع بأسمى وأنبل المشاعر.
ولما أعلن الإمام الحسين عن نهضته الإصلاحية المباركة، والتي تتطلب للمشاركة فيها عقدا ولائيا مع السبط الشهيد ووعيا بالأحداث واستجابة تستدعي التضحية وشجاعة الموقف كانت من أوائل الملبين له، وأم البنين شاركت في تلك النهضة بمستوى عظمتها ورجاحة عقلها وشجاعتها، فلم تكن مجرد امرأة عادية تقبع في زوايا بيتها لتمارس دروها الأسري في إطاره المادي فقط، بل كانت أم البنين مدرسة تربوية تقدم لأولادها المنهج القويم في فهم معنى كمال الإنسان وبناء رصيده الأخروي، لقد شاركت في النهضة الحسينية بأعلى مستويات العطاء بتقديم ما تملك في هذه الحياة وهم فلذات أكبادها أولادها الأربعة «قمر بني هاشم وإخوته» قرابين إلهية ترجو بشهادتهم أن تكون قد أدت جزءا من الحق الولائي عليها، فيبيض وجهها أمام مولاتنا الزهراء يوم القيامة وقد واستها في تلك الفاجعة الأليمة.
السيدة أم البنين نموذج يحتذى به في فهم القيم الأخلاقية الأصيلة وتطبيقها، فهي قد تفانت في سبيل الحق وتخلت عن ذاتها، وحلقت في فضاء العطاء بلا حدود في طريق ما صدقت وآمنت به من رفض للظلم بكافة أشكاله، وهذا العطاء منها كان في أعلى مستويات الإنفاق وهو الإيثار، إذ أنها لم تستبق لنفسها من أولادها أحدا ليكون سندا وعونا لها في أواخر أيامها، ففي الوقت الذي كان بإمكانها أن تضحي ببعضهم ولكنها آلت أن يكون عطاؤها ومساهمتها في الحركة الحسينية الإصلاحية بكل ما تملك.
إننا أمام كنز معرفي وأخلاقي يحتذى ويتمسك بمنهجه للترقي في درجات التكامل واكتساب الفضائل، إنها مدرسة المثل والقيم والمواقف المؤثرة في حركة التاريخ وتستحق أن تكتب سيرتها بأحرف من ذهب.